أثبتت وقائع كثيرة أن عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني منذ آب/ أغسطس من عام 2019 حتى انقلب على هياكل وأعضاء الحكومة قبل أقل من أسبوع واحد، لا يحسن تصريف الأمور المتعلقة بطموحه الشخصي في الانفراد بحكم البلاد، بمعاونة الضباط ذوي الرتب الرفيعة في الجيش ومليشيا الدعم السريع التي تقودها عائلة دقلو وتنعقد قيادتها العليا لمحمد حمدان دقلو حميدتي وأخوه عبد الرحيم، وكلاهما ينعم برتبة فريق العسكرية بلا حظ من العلوم العسكرية.
الصدفة وحدها أوصلت البرهان إلى حيث وصل في مراقي الحكم في السودان، فبعد سقوط نظام عمر البشير في نيسان/ أبريل من عام 2019، اعتلى سدة الرئاسة نائبه الفريق عوض بن عوف، ولكن نفس المد الشعبي الذي أطاح بالبشير أطاح بابن عوف، فجاء الدور على البرهان بحكم التراتبية العسكرية ليحل محل بن عوف، ومنذ يومها وهو يبدي ميكافيلية شرسة: يقول الشيء اليوم ويقول نقيضه غدا، يقبل يدا ممدودة من جهة تعينه على أمر ما، ثم يعض تلك اليد، وهكذا صار معروفا أن ديدنه نقض العهود، ولو استوجب ذلك تصفية كل من يقف في طريق طموحه، كما فعل بشباب الثورة التي أسقطت البشير ومن بعده ابن عوف، مما مهد الطريق لصعوده إلى حيث هو اليوم حاكما عسكريا مطلقا على السودان.
ولا بد عند استعراض سيرة ومسيرة البرهان خلال العامين ونيف الماضيين من استحضار ما قاله في أول حوار صحفي له بعد جلوسه على كرسي ابن عوف رئيسا لمجلس عسكري سعى للانفراد بالحكم، ولو على جماجم من جعلوا ذلك ممكنا: والدي رأى في المنام أنه سيكون لي شأن عظيم في البلاد!!
قالها وابتسامة رضا تضيء وجهه، وشخص يستحضر رؤيا منامية لوالده قبل سنوات بعيدة، لابد وأنه ظل يختزنها ويؤمن بإمكان تحققها، بل وكان في تلك اللحظة يحس بأنه قطع شوطا بعيدا في تحقيقها، ثم أحس لاحقا بأن القوى المدنية تحاول إجهاض ذلك الحلم جزئيا، فكان تعامله الشرس معها وصولا إلى اعتقال زملائه في مجلس السيادة ووزراء مدنيين في الحكومة، ثم ترك جنجويد حميدتي يستبيحون المدن ويمارسون التنكيل والتقتيل كما فعلوا في حزيران/ يونيو 2019 لإسكات الاحتجاجات على مجزرة 3 حزيران/ يونيو 2019 التي نفذها العسكريون بحق شباب الثورة الشعبية.
وفي 25 تشرين أول/ أكتوبر الجاري نفذ البرهان انقلابه العسكري الثاني (الأول تزامن مع المجزرة التي قرر بعدها أنه لا مجال للمدنيين في دهاليز الحكم)، ومنذ يومها وهو يفضح عِيَّه السياسي، فقد أراد في بيانه الأول أن يوحي للناس أنه جاء لتمكين الثورة الشعبية من تحقيق غاياتها، وتخليص الشعب من الضوائق الاقتصادية، ومنع تردي الأوضاع الأمنية، بل قالها بالحرف الواحد أنه أقدم على الاستيلاء على الحكم وفاء لدماء وتضحيات شباب الثورة، وربما لم يخطر بباله أن الناس سيتساءلون: وإذا كانت تلك غاياتك فلماذا أودعت من اختارتهم الثورة الشعبية ممثلين لها في الحكومة السجون؟ ولماذا يظل الجيش متحكما في أكثر من 80% من النشاط الاقتصادي في بلد منهك؟ ولماذا شهدت البلاد انفلاتا أمنيا في غياب شبه تام للكوابح التي هي جميعا بأيدي العسكريين؟ وكيف تكون وفيا لدماء شهداء الثورة وأنت وطوال الأيام القليلة الماضية تطلق ذئابا مسعورة لتصطاد فرائسها من شباب الثورة؟
تتجلى الجهالة السياسية للبرهان وشركاء الدم من مليشيا الدعم السريع وغيرها في تعويلهم على تسويق الانقلاب داخليا وخارجيا على مباركة من إسرائيل التي أوفدوا إليها عسكريين ذوي رتب عالية قبل الانقلاب بأيام قليلة، فكافأتهم إسرائيل بأن جعلت أبواقها يرددون فرية أن البرهان لم يقم بانقلاب عسكري
ظل البرهان يغالط شركاء الحكم من المدنيين منذ أن تشكلت حكومة بشراكة بين المدنيين والعسكريين في أيلول/ سبتمبر من عام 2019، بالزعم بأنه جندي مخلص يعمل لتحقيق غايات حكومة انتقالية توصل البلاد إلى انتخابات عامة في عام 2023، ولأنه لم يتخل قط عن حلم الانقلاب لتحقيق حلم والده، ولكن بأن يصبح جالسا على قمة هرم الحكم "وحده لا شريك له"، فقد زاد جرعة المغالطة في الأشهر الأخيرة، بعد أن اختمرت فكرة الانقلاب ثم استوت، وكانت قمة الفهلوة أن يغالط المبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي جيفري فيتلمان حتى قبل ساعات من الانقلاب الأخير، مؤكدا له أنه جاد في التوصل إلى توافق مع المدنيين في الحكومة لتجنيب البلاد المزالق.
استخدم البرهان الوثيقة الدستورية التي تحدد أطر ومسؤوليات الحكم في إطار شراكة بين العسكر والمدنيين كقميص عثمان لتبرير انقلابه الأخير، ونعى خروج المدنيين عليها، وقال ذلك وهو يشبع تلك الوثيقة ترقيعا وتمزيقا لتأتي بما يناسب مقاسه الشخصي، وبإلغاء كل بند فيها يشير إلى صلاحيات المدنيين في الحكم ألغى دون أن يدري البنود التي قد تعطيه الحق في ممارسة الإلغاء، فأثبت على نفسه تهمة الانقلاب التي يسعى جاهدا لإنكارها، بل فات عليه أن يلغي تلك المادة في الوثيقة التي تتناول حل مجلس الوزراء، والأدهى من كل ذلك أنه وبإصدار أكثر من ستين ديبلوماسيا رفيعا إدانتهم لانقلابه، أصدر قرارا بإنهاء خدمات ستة منهم، وهذا أمر كان من صلاحيات مجلس السيادة، ولكنه قام بحل ذلك المجلس قبل قراره ذاك بيومين.
وتتجلى الجهالة السياسية للبرهان وشركاء الدم من مليشيا الدعم السريع وغيرها في تعويلهم على تسويق الانقلاب داخليا وخارجيا على مباركة من إسرائيل التي أوفدوا إليها عسكريين ذوي رتب عالية قبل الانقلاب بأيام قليلة، فكافأتهم إسرائيل بأن جعلت أبواقها يرددون فرية أن البرهان لم يقم بانقلاب عسكري في 25 تشرين اول/ أكتوبر الجاري، وكان مُتَّكأهم الثاني روسيا، ويعلم الشعب السوداني أن شركة فاغنر الروسية المتخصصة في تجنيد وتسويق المرتزقة، تقوم بإخراج كميات مهولة من الذهب بانتظام من السودان بعلم سلطات عليا، وأنها تريد الزج بالسودان في صراع دولي بإنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، وشخص يزعم أنه يريد كل الخير لشعبه، ثم يطلق قوى الشر التابعة له للتنكيل بذلك الشعب، ثم يتغطى بإسرائيل وروسيا ذاتي أبشع السجلات في مجال حقوق الانسان، لابد جاهل يحسب أنه قادر على سحل الخصوم بـ "البوت" ولا يدرك أنه يتعلق بخيط العنكبوت.