مسرحية ياسين وبهية للشاعر نجيب سرور
الجوع صانع الوحوش!
والناس في بـهـوت..
كانوا رقاقا مثلما أوراق تـوت
وليّنين كالرطب..
وهادئين كالحمام..
وطيبين مثل أرض مصر
ورائقين مثل ماء النـيـل..
وناعمين كالنسيم في أبـريـل!
لكنهم جاعوا.. ومن عام لعام..
صاروا جميعا كالوحوش،
فالوحش ليس وحشا قبل أن يجوع!
عندما أعلن قيس سعيد انقلابه على الدستور الذي أقسم عليه رئيسا لتونس، وهو الذي أبدى تخوفه ذات زمان من أن يأكله الحمار، كان لحركته الانقلابية وقع طيب لدى طيف قيل إنه "واسع" من الشعب التونسي. لقد ملّ هذا الطيف الشعبي من القوس "الديمقراطي" الذي وجد نفسه في خضمه دونما أدنى عناء أو ضريبة نضالية تجعله مستعدا للدفاع عن الاستمرار فيه، خصوصا وأن القوس أثمر ديمقراطية عرجاء اختصرتها الأحزاب السياسية، المخضرمة والوليدة، في الممارسة الانتخابية دونا عن غيرها من الحقوق.
ولأن تلك الأحزاب لم ترَ في تونس غير مقر للبرلمان وجلسات تنقل على الهواء وإن تحولت لمجرد مسرحيات أقرب ما تكون إلى الهزل، فقد تحرك رئيس البرلمان المجمد حتى "إشعار آخر"، بعد طول غياب، ليس دفاعا عن شرعية المؤسسة التي يرأسها بل عن النواب الذين ضربهم العوز واجتاحتهم الفاقة شهرا واحدا بعد توقيف معاشاتهم وما كان لهم من "امتيازات".
أشار بيان رئاسة البرلمان إلى انشغالها الشديد بـ "التداعيات الحياتية والاجتماعية الخطيرة للقرار الرئاسي اللادستوري بإيقاف صرف منح مجلس نواب الشعب"، مؤكدا على أن القرار يدخل في إطار حملة تستهدف "ترذيل النواب ودفعهم لكي يصبحوا حالة اجتماعية، ما يعد اعتداء جسيما على قوانين العمل المحلية والدولية". لقد تحولت رئاسة المجلس، بما لها من قدر سياسي، إلى العمل النقابي دفاعا عن منتسبيه، والحال أن الشعب صوت على هؤلاء "المنتسبين" للدفاع عن الاختيار الديمقراطي ومن خلاله السعي لتكريس الحقوق المكتسبة وتعزيزها.
ولأن التجربة التونسية "استثناء"، فقد توالت النداءات من نواب وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها محرومين من مصدر الرزق الوحيد، خصوصا من كان منهم منتميا للإدارة العمومية، حتى صار تمتع إحدى النائبات بالحق الدستوري في التغطية الصحية منة تحتاج "إذنا رئاسيا" بعد استغاثتها بحاكم البلاد الأوحد المتلذذ بتمريغ "معارضيه" في وحل هدر الكرامة والتشهير. لقد استبدل قيس سعيد الاعتقال، بما له من كلفة سياسية فادحة على المستوى الدولي، بسلاح التجويع الذي كان على الدوام سلاح المستبدين.
لكن غياب أية رؤية اقتصادية للانقلاب، الذي كان واضحا أنه بنى وهم "شرعيته" على مواجهة مفترضة ضد النهضويين المستعدين للدفاع عن الديمقراطية وتحويل الشارع إلى ساحة حرب مفتوحة لتغطية العجز عن تحقيق الوعود الشعبوية، واستعطاف الدعم الدولي في مواجهة الإسلام السياسي، الفزاعة التي نجح الانقلاب بمصر في تسويقها غربيا فنال الرضا أو يكاد، جعل "الرئيس" المنقلب في حالة إنكار لواقع تآكل الدعم "الشعبي" لدرجة اتهامه الداعمين المتحمسين بمتصيدي فرص حالمين بالمناصب، قبل أن يوجههم لكتب الجغرافيا بحثا عن الخرائط، ويردّ طلباتهم بالحوار وهم الذين ارتضوا مما ارتضوا أن تكون تاء التأنيث مجرد أداة لتأثيث المشهد السياسي المزري.
لم تمتلئ الشوارع بالإسلاميين المدافعين عن الكراسي البرلمانية، فحول الانقلابيون وجهتهم لبرلمانيين وصحفيين عُرضوا على المحاكم العسكرية لأسباب سياسية لم يكن الفساد المالي والسياسي جزءا منها، وهو الذي شكل شعار المرحلة المدغدغ لمشاعر البسطاء.
نموذج البوعزيزي لن يعيد نفسه بتونس لأن الوحش ليس وحشا قبل أن يجوع. هنا مكمن الخطر من مستقبل قد لا تتأخر شرارته في الاشتعال كما يتوهم المنقلبون.
الآن وقد تبينت محدودية الإنجاز والقدرة على التأثير إيجابا في مجرى تسيير دواليب الدولة، وهي الحقيقة التي يكاد الجميع يراها بالداخل والخارج باستثناء الرئيس المسوّق للأوهام والطامح في التأليه والخلود، تتعالى الأصوات ممن كان الانتماء الأيديولوجي قد أعمى بصائرهم فانساقوا وراء موجة التهليل، للتحذير مما هو آت.
الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر منظمة نقابية بالبلاد، اهتدت أخيرا إلى أن ممارسة الحكم ليست لعبة وأن الاستمرار في الإجراءات الاستثنائية غير قابل للتمطيط حتى الإشعار الذي يقرره الرئيس أو يعدو خلفه دون علم أو بيان. المؤشرات الاقتصادية مخيفة تنذر بخطر الإفلاس والتصنيف السيادي لم يعد يمكن البلاد من الاستدانة. أما كفلاء "الردة الديمقراطية" في بلاد العرب فشروطهم تكاد تكون معلومة للجميع مقابل تأمين صرف رواتب الموظفين التونسيين.
التهديد الذي تواجهه رواتب الغالبية العظمى من التونسيين لن تغطي على ارتداداته الكارثية حكايات التراث التي لا يمل الرئيس من لوكها، ولا خرافة الملايين الذين يخرجون لدعم خطى التغيير المبارك وإسناد "الاستثناء". وقتها، لن يصبح بمقدور التنظيم النقابي السيطرة على القواعد ولا تأمين سلم اجتماعي هش لطالما استخدمه في مواجهة حكومات ما بعد 14 يناير 2011.
ما يصبح أقرب للواقع التونسي هو سيناريو يناير آخر شهدته تونس أوائل العام 1984 استكمالا لشرارة بدأت نهاية ديسمبر سنة قبلها، حين رفع الزعيم الأوحد أسعار المواد الأساسية وتسبب في مظاهرات قمعها الجيش وانتهت بالعودة عن الزيادات لكن جراحها ظلت تنزف حتى انتهى به المطاف معزولا ومسجونا ومهانا من أقرب مرؤوسيه. شبحا يناير 2011 و1984 أقرب ما يكونان للتحقق في الحالة التونسية الراهنة حيث الانسداد السياسي وتكريس الأوهام السلطوية يخفي نيرانا مشتعلة تحت الرماد.
حرق الأجساد لم يعد ينفع مع منقلب يعتبر معارضيه مجرد جراثيم وحشرات وخونة وعملاء، ولا يتورع عن إخفاء ضعفه ومهانته أمام الخراج في استنساخ أساليب قديمة في سحب الجوازات وإطلاق المحاكمات بزعم الحفاظ على "السيادة" المفترى عليها. نموذج البوعزيزي لن يعيد نفسه بتونس لأن الوحش ليس وحشا قبل أن يجوع. هنا مكمن الخطر من مستقبل قد لا تتأخر شرارته في الاشتعال كما يتوهم المنقلبون.
ترذيل الشعب لم يكن يوما نزهة كما ترذيل النواب.
تونس.. لماذا يطلب الانقلاب رأس "مخلوف"؟
تونس.. الانقلاب والوضع الإقليمي عربيا