الوقت ليل. يسمع ميتش إيمهوف صوت إطلاق رصاص. يطل من نافذة غرفته فيرى رجالا مسلحين يسطون على بيت جيرانه. يتصل برقم الطوارئ، فيكون الرد المسجل صادما: بالنظر لكثرة الاتصالات برقم الطوارئ، يرجى اتباع الإرشادات التالية: إذا ظهرت الأعراض لديك فاتصل بالرقم.....، للإبلاغ عن وفاة أو إزالة جثة اضغط الرقم 1.
المشهد من فيلم (العدوىContagion – 2011) للمخرج ستيفن سودربرغ.
لم نصل بعد إلى هذا المستوى من انتشار وفتك فيروس كورونا المستجد بالعالم. صحيح أن الأعداد في تزايد مستمر. لكن أرقام الطوارئ بمختلف البلدان لم تغير من خدمتها الصوتية المعتادة بعد. في أمريكا تلقى الرقم سيلا من المكالمات بمعدل غير اعتيادي للاستفسار عن إمكانية محاربة الفيروس فعلا بحقن الجسم بالمطهرات والمعقمات.
ليس الأمر مشهدا من وحي الخيال بل واقع أكدته إحصاءات رسمية. وليس أكثر منه واقعية تغريدة من المرشح الرئاسي الديمقراطي جون بايدن يحث فيها الأمريكيين على الامتناع عن شرب نفس المواد. بايدن نفسه لا يصدق أنه مضطر لكتابة مثل هذا الكلام. وحده ترامب يؤمن بإمكانية ذلك فهو أمر مثير للاهتمام. لقد صرح رئيس "أكبر" دولة في العالم أن المعقمات تقضي على الفيروسات في أقل من دقيقة، فما المانع من التفكير بفعل نفس الشيء مع حقنة في الجسم؟
كلام ترامب له دوما مستمعون يقدمون على تطبيقه دون تفكير أو تمحيص. إنه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي لم يجد من وسيلة لإخراج نفسه من المأزق غير ادعاء أن كلامه في المؤتمر الصحفي مجرد مزحة.
لم تكن موجة السخرية من كلام ترامب كافية للتدليل على "حماقة" ما يطلبه الرئيس. لقد اضطر علماء وشخصيات لها تأثير إلى التحذير من الاقتراح لأنه في الأخير سيقضي على الفيروس والمرضى في آن.
الحمقى كثيرون في العالم، والمحبطون المتعلقون ببصيص الأمل في دواء يقيهم الإصابة أو يخفف عنهم الأعراض أكثر. وكلام ترامب له دوما مستمعون يقدمون على تطبيقه دون تفكير أو تمحيص. إنه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي لم يجد من وسيلة لإخراج نفسه من المأزق غير ادعاء أن كلامه في المؤتمر الصحفي مجرد مزحة.
العالم ينتظر لقاحا أو مصلا أو أية وسيلة علاجية تعيد الحياة إلى طبيعتها لكن لا يزال عند ترامب مجال للمزاح. لقد جرب هذا المزاح قبل تفشي الوباء بأمريكا حين كان يخرج في نفس المؤتمرات الصحفية ليعلن تفاخره بعدد الحالات القليل بالبلاد، وينصح الناس بالصابون وسيلة فعالة للوقاية، قبل أن يعرج على قصة له مع صديق قديم قابله، بعد مدة طويلة من الفراق، فانقض عليه الصديق مقبلا قبل أن يخبره أنه مصاب بالأنفلونزا. كان الجمع يومها يقهقهون. لكن الوضع اختلف، اليوم، إلى الأسوأ وفقد الآلاف من الأمريكيين أعزاء لهم ووظائف كانت تقيهم شر الحاجة، دون أن يفقد الرئيس روحه المرحة ورغبته في المزاح.
عندما لا يجد السياسي الشعبوي جوابا على قضايا طارئة ومصيرية، فإنه يجنح إلى إنكار وجود المشكلة من الأصل، كما كان يبدو دونالد ترامب في بدايات الأزمة، أو كما فعل بعض رؤساء الدول كالبرازيلي جايير بولسونارو قبل أن يعلن مؤخرا عن عجزه في المواجهة وعدم قدرته على القيام بمعجزات. وعندما يشتد الخناق عليه يتحول إلى مشعوذ يفتي في مجالات لا تعترف إلا بالعلم سلاحا. ولأن الشعوب المحبطة مستعدة لتقبل أي وهم ممكن يمنحها فرصة في البقاء، فإن تجارة الشعوذة تزدهر وتنتشر على كل المستويات. وقودها عجز مراكز الأبحاث عن الوصول إلى المصل المنشود.
في مقابلة تلفزيونية، من فيلم Contagion، تستضيف القناة رئيس مركز الأبحاث إليس تشيفر للحديث عن تقدم التجارب المخبرية لاكتشاف لقاح.
المذيع: تذكر مواقع أنترنت من الهند وغيرها أن الدواء ريبافرين يفعل فعله في الفيروس. لكن الأمن الداخلي يطلب عدم إعلان أي شيء قبل توفير كميات ضخمة منه.
تشيفر: يجري دوما تقييم فعالية عدة أدوية وريبافرين واحد منها. لكن أفضل حماية حتى الآن هي العزل وتفادي المصافحة وملازمة البيت عند المرض وغسل الأيدي باستمرار.
المذيع: ينضم الصحفي المستقل ألن كرومويدي إلى النقاش. ألن كتبت اليوم على تويتر أن حقيقة الفيروس تخفيها عن العالم مراكز مكافحة الأمراض ومنظمة الصحة العالمية لتتيح لأصدقاء الإدارة الحالية الاستفادة من الوضع ماديا.
ألن: ثمة علاجات نعرف أنها ناجعة كالفوريستا.
ألن في حقيقة الأمر كان يتاجر بهلع الناس وعجز المختبرات عن توفير دواء، وحقق ملايين الدولارات من بيع الوهم للناس ولمتابعيه بالملايين على شبكات التواصل الاجتماعي. فكما قال هو نفسه في مشهد آخر من الفيلم "حين يموت إنسان يكسب آخر المال بصناعة تابوبته".
لكن الأدهى أن الطبيب الصيني المكلف بالتنسيق مع مبعوثة منظمة الصحة العالمية إلى هونغ كونغ، في نفس الفيلم، مؤمن بنفس النظرية. يقول الطبيب: "يقولون أن الأمريكيين والفرنسيين لهم علاج. إنهم يصنعونه بسرية. منظمة الصحة العالمية تعرف ذلك وهي متآمرة مع الأمريكيين". ولضمان حصة قريته الموبوءة من المصل يختطف ممثلة منظمة الصحة ليبادلها بأمصال ثبت بعدها أنها مغشوشة.
لأن الشعوب المحبطة مستعدة لتقبل أي وهم ممكن يمنحها فرصة في البقاء، فإن تجارة الشعوذة تزدهر وتنتشر على كل المستويات. وقودها عجز مراكز الأبحاث عن الوصول إلى المصل المنشود.
العامة في الأخير معذورون، فتناقض الدراسات وتضاربها يؤثر في ثقتهم في الحقيقة العلمية ويجعلهم عرضة لأية إغراءات. وعندما يتم تقديم الكلوروكوين علاجا ممكنا تتبناه بعض المنظومات الصحية الرسمية ثم يتصاعد الجدل بعدها حول جدواه وخطورة أعراضه الجانبية، أو يصبح النيكوتين، الذي طالما تم التحذير من خطورته، أو استخدام غاز الهيليوم أملا ممكنا للعلاج، أو يصبح انتظار أشعة الشمس والحرارة والرطوبة هدفا للاستشفاء، أو تصبح العودة لكلام السلف من أحاديث ووصفات أكل وخلطات أعشاب سبيلنا الأوحد للنجاة، فلا غرابة في أن تصبح دعوة ترامب إلى حقن الجسم بالمطهرات أو شربها قابلة للاتباع.
في إيران، سبقه الآلاف إلى تناول الميثانول ما تسبب في وفاة المئات. وفي مدغشقر يقدم جند الدولة أكياسا من الشاي العشبي المحلي بمباركة الرئيس وسيلة لتقوية المناعة ومحاربة انتشار الفيروس اللعين، وفي غيرهما من البلدان صارت الوصفات الشعبية والأبخرة وكثير من مثيلاتها أملا "خادعا" لتجنب الإصابة أو الأمل في التعافي. إن كان الموت مصيرنا فلتكن وصفات الشلولو والفول آخر غذائنا والشاي الملغشي آخر شرابنا. فالموت ببطن شبعان أفضل من الموت بذبحة صدرية أو بمواد مطهرة تقتل الفيروسات والمرضى في الآن.
عودة لفيلم Contagion، يتحدث أليس تشيفر مع الطبيبة المسؤولة عن إنتاج اللقاح.
أليس تشيفر: هل اقتربنا من إنتاج لقاح؟
الطبيبة: حتى لو وجدنا لقاحا فعالا فعلينا إجراء تجارب على البشر تستغرق أسابيع، ثم علينا تحصيل الموافقة للبدء في التصنيع والتوزيع ما يستغرق أشهرا، ثم علينا تكوين الناجين على التلقيح. تأخير شهور أكثر يعني وفيات أكثر.
أليس تشيفر: يريد الأمن الداخلي معرفة إن كان بالإمكان وضع اللقاح في الماء كالكلور ليشفى الجميع دفعة واحدة.
الطبيبة: سأعود إلى بيتي يا أليس. لقد تأخر الوقت. ميلادا مجيدا.
لم يكن إحباط الطبيبة مرده التشكيك في قدرة العلم على مواجهة الوباء، بل فهمها أن وباء جهل الساسة والمسؤولين هو ما يؤخر الجهود لتحقيق الهدف المطلوب.
عندما قرر ترامب حجب الدعم الأمريكي عن منظمة الصحة العالمية وكذلك فعل مع منظمات دولية أخرى كالأونروا بفلسطين، لم يكن يمزح. وعندما انسحب من الاتفاق النووي مع إيران من جانب واحد كان أبعد ما يكون عن المزح. وكذلك كان وهو ينقل عاصمة بلاده إلى القدس "الموحدة" اعترافا بالسيادة الإسرائيلية عليها كما على هضبة الجولان. ترامب لا يسخر يا سادة بل كل شيء عنده بحساب.
كورونا، شريكنا الاستراتيجي الجديد!
كوفيد-19.. قراءة الأرقام وجدل المقارنات
البشرية والسعي للانتصار المعنوي على الكورونا