أخبار ثقافية

ماري تيودور أو ماري الدموية.. سنوات الحرب الدينية

تعرف باسم ماري الدموية بسبب سنوات الحرب الدينية في إنجلترا
بعد وفاة الملك هنري الثامن عام 1547 حل ابنه إدوارد السادس (1537- 1553) ملكا لإنكلترا، باعتباره الذكر الوحيد من أبنائه من زواجه الثالث بـ جين سيمور.

تسلم إدوارد السادس المُلك وهو ابن التاسعة من العمر، ولأنه لم يبلغ سن الرشد، فقد عين هنري الثامن قبل وفاته مجلس الوصاية برئاسة إدوارد سيمور خال الملك الجديد إدوارد السادس. 

خلال سنوات حكم إدوارد الستة، سارت البلاد بقوة نحو التغير الديني على مستوى العقيدة، من الكاثوليكية إلى البروتستانتية، فتأسست البروتستانتية لأول مرة في إنكلترا بإصلاحات تضمنت إلغاء عدم زواج رجال الدين، والقداس الإلهي.

ومن المهم التأكيد هنا، أن هذا الانتقال جرى على مستوى العقيدة، لا على المستوى السياسي، لأن هيمنة البلاط على الكنيسة، أي هيمنة الدولة على الكنيسة تحققت مع والده هنري الثامن، وقد حافظ إدوارد على الإنجليكانية ككنيسة تابعة للدولة، وعلى عدم الاعتراف بحرية الكنائس واستقلاليتها كما تطالب البروتستانتية، ولذلك أعدم كل شخص يرفض هيمنة الدولة الملكية على الكنيسة.

لم تستمر ملكية إدوارد سوى لست سنوات، فقد توفي متأثرا بمرض السل، وقبل وفاته كتب مجلسه وصية الخلافة، عين بموجبها ابنة عمه ليدي جان كراي ولية للعهد، مستبعدا أخته غير الشقيقة، ماري الأولى وإليزابث الأولى، كمحاولة لمنع العودة للكاثوليكية. 

أدت الوصية لاشتعال النزاع بعد وفاة إدوارد، وكانت جان ملكة لتسعة أيام فقط، قبل أن تتولى الأخت غير الشقيقة، ماري تيودور، العرش. 

حياة مأساوية

عاشت ماري (1516- 1558) في بداية عمرها حياة مأساوية، فقد كانت في الثامنة من عمرها عندما طلب والدها الملك هنري الثامن إعلان بطلان زواجه من أمها كاترين أراغون، وفي الخامسة عشرة من عمرها انفصل والدها عن أمها، فذهبت هي وأمها إلى منفى منفصل، لدرجة أنها منعت من رؤية والدتها وهي تحتضر.

جردت من لقبها كأميرة، وأجبرت على خدمة أختها اليزابيت الأولى حين انتقلت إلى هاتفيلد، وأكرهت على العيش في أسوأ غرفة في القصر وأخذ منها خدمها، واستبدلوا بآخرين.

كانت مريضة طوال الفترة التي قضتها في هاتفيلد، وتحطمت أعصابها بسبب الإهانة والخوف وكادت تشرف على الموت، ثم رق لها الملك ومنحها بعض محبته إلى حين، ونعمت بوضع ميسور في باقي أيام حكمه، ولكنه طلب منها أن توقع إقرارا بسيادة والدها على الكنسية وبأن ميلادها غير شرعي.

عودة الكاثوليكية

عملت ماري بعد تتويجها إلى إنعاش الكاثوليكية على خلاف أخيها، فرغبة منها في أن تكون ابنة شرعية وفق المذهب الكاثوليكي، لابد أن تظل على مذهب أمها الذي تعد تعاليمه زواج أمها من هنري الثامن شرعيا، فيما يعده المذهب الانجليكاني الجديد محرما.

كرهها الشديد للبروتستانت سيطر على قلبها بسبب شقيقها "إدوارد السادس" الذى أمر بهدم كل المعالم الكاثوليكية فى الكنيسة، وهو ما تسبب فى إصابتها بهاجس الحفاظ على الكاثوليكية وظلت تنتقم من جميع المعارضين لها.

ومع ذلك، فقد أصدرت في بداية حكمها إعلانا رسميا بأنها لن تكره الضمائر أو تلزمها بشيء في مسألة المعتقد الديني، وكان هذا أحد الإعلانات الأولى في التسامح الديني تصدره دولة في ذلك العصر، والسبب في ذلك، أنها اعتقدت أنها ستعيد الكاثوليكية بالحجة، ونظمت لأجل ذلك مناظرة عامة بين علماء اللاهوت المتعارضين في الرأي، ولكنها تبخرت في جدل مرير عقيم.

عملت على إنشاء توازن في المؤسسات السياسية، خصوصا في البرلمان، فحافظت في البداية على علاقة بين الكاثوليك المخلصين مثل بنجفيلد روتشستر وبين البروتستانت أمثال وينشستر وباجيت وارندول.

اتبعت خطوات تدريجية لإعادة الكاثوليكية، فبدأت أولا بإبعاد معظم رجال الدين البروتستانت من المراكز المهمة، وجاءت برجال دين كاثوليك، فعاد بونر أسقفا للندن وجاردنر أسقفا لونشستر، ثم قامت ثانيا بطرد البروتستانت الأجانب الهاربين من الاضطهاد في بلدانهم، ثم قامت ثالثا بخطوات إدارية وتشريعية أشرف عليها الكاردينال بول، وأخيرا لجأت ماري إلى استخدام العنف من خلال سن قوانين الهرطقة لمحاكمة كل شخص يعارض الكاثوليكية.

رفض البرلمان هذه السياسة، لأن عودة الكاثوليكية معناها عودة أملاك الكنيسة ورجال الدين التي صادرها هنري الثامن ووزعها على ملاكين جدد، معظمهم أعضاء في البرلمان.

وفي خطوة ذكية منه، أبلغ البرلمان الملكة أن عدم شرعية نسبها قد ألغي وأنها لم تعد ابنة سفاح، ولكنه أبى أن ينظر في إعادة أملاك الكنيسة إليها، وقاوم أي تلميح إلى أن سيادة البابا يجب أن يعترف بها، وترك هذا ماري رئيسة للكنيسة الإنكليزية. 

زواج سياسي 

في هذه الأثناء، أوصى مجلس الملكة ماري باختيار إدوارد كورتاني حفيد إدوارد الرابع زوجا لها، لكنها رفضته، فدُبر له أن يتزوج اليزابيت ويخلع ماري من العرش وتحل اليزابيت محلها، لكن هذا التدبير فشل.

عرض شارل الخامس (شارلكان) على ماري الزواج من ابنه فيليب الذي كان يوشك أن يوصى له بكل شيء سوى اللقب الإمبراطوري، وتعهد بتقديم الأراضي المنخفضة لأي ولد يكون ثمرة لهذا الزواج. 

سعدت ماري بذلك، فزوجها سيكون حاكما لإسبانيا والفلاندرز وهولندا ونابلي والأمريكتين، لكنها أدركت في الوقت نفسه أن سنها الأكبر -تكبر فيليب بعشر سنوات- لن يرضي حيوية فيليب الشاب، الذي كان هو نافرا من هذا الزواج.

لكن والده أقنعه بأن المصاهرة بين آل هابسبورج وآل تيودور ستؤلف قوة قادرة على منح أوربا الغربية سلاما، وستسمح بقيام قوة مؤلفة من إسبانيا وإنكلترا وفرنسا من القضاء على البروتستانتية في ألمانيا.

قبلت ماري بهذا الزواج، بخلاف أعضاء في البرلمان ممن وجدوا في هذا الزواج تهديدا للسيادة الإنكليزية، وقد أثارت مسألة الزواج من أجنبي استياء على المستوى النخبوي والشعبي.

أدرك شاركان بذكاءه هذه الاعتبارات، فعرض عقد زواج لا يحمل بمقتضاه فيليب لقب ملك إنكلترا إلا في حياة ماري، ولها أن تحتفظ وحدها بالسلطة الملكية الكاملة على الشؤون الإنكليزية ولها أن تشارك فيليب في جميع ألقابه.

المرحلة الدموية

ورغم كل ذلك، تم التآمر على الملكة ماري عبر التحضير لعملية تمرد كبيرة، ووضع المتمردون خطة لتنفيذ التمرد في أماكن متفرقة من إنكلترا، وكان يوم 18 مارس 1554 موعدا لإطلاق التمرد، وهو اليوم الذي يصل فيه الملك الإسباني زوج ماري إلى إنكلترا، إلا أن التمرد فشل بعد اكتشاف أمره.

ثمة ثلاثة أسباب رئيسية وراء التمرد: الأول عدم رغبة النبلاء التخلي عن ممتلكات الكنيسة التي حصلوا عليها زمن هنري الثامن وابنه إدوارد، والثاني عدم رغبتهم في عودة الكاثوليكية، والثالث خشيتهم أن تصبح إنكلترا تابعة لإسبانيا من وراء هذا الزواج الملكي.

واجهت ماري التمرد والمعارضة بالعنف، فاضطهدت البروتستانت وأعدمت قادتهم لاسيما الأسقف كرانمر رئيس أساقفة كانتربري، ولم تتردد في شنق معارضيها.

وشهدت كاتدرائية لندن أبشع أنواع التعذيب ضد البروتستانت، وقامت بحرق نحو ثلاثمئة بروتستانتي، واستمرت عمليات الاضطهاد أربع سنوات، ولم تنته إلا بوفاة ماري.

مع وفاة ماري انتهى عهد الردة الكاثوليكية، ليبدأ عهد جديد مع أختها اليزابيت الأولى التي أعادت استكمال طريق والدها هنري الثاني وأخيها إدوارد السادس، إلا أنها تميزت عنهما بإحداث خليط عقائدي بين الكاثوليكية والبروتستانتية.
 
وهكذا ستشهد إنكلترا خلال عهد هنري الثامن وأبنائه تغيرات حادة على المستويين السياسي والديني، سيكون لها تأثيرات هامة على تطور الديمقراطية الليبرالية وعلى صيرورة العلمنة في ظل برلمان فاعل ونبلاء أقوياء يوازنون بين الدولة والمجتمع.