قضايا وآراء

الباجي قائد السبسي.. الرئيس الذي ودعه التونسيون

1300x600

1- قلوب الجماهير منصاتٌ ومنازل

من تابع موجات التعاطف مع رئيس الجمهورية التونسية الباجي قائد السبسي يوم دخوله المستشفى العسكري بتونس العاصمة ذات صبيحة خميس 27 حزيران/ يونيو الفائت، ومن تابع منسوب التأثر لموته ذات صبيحة خميس 25 تموز/ يوليو الجاري؛ لا يمكنه إلا أن يتساءل عن سر هذا التقدير لرئيس عربي لم يسبقه غيره من حكام العرب المعاصرين إلى هذه المكانة في قلوب جماهير شعوبهم.

إن قلوب الجماهير لا تحتاج حملات دعائية ولا ضخا إعلاميا، أو مواسم مدائح وتمجيد؛ كي تتعلق بزعيم أو رئيس فالدعاية لا تُنتج عاطفة والمديح لا يصنع رموزا، إنما يكبر الزعماء في قلوب الجماهير حين يتواضعون إليها ويُصغون إلى نبض قلوبها، وحين لا يتعالون ولا يتجبرون ولا يسفكون دما، ولا يسعون في تقسيم الشعب مللا ونحلا وطوائف يهاجم بعضها بعضا.

 

 

قلوب الجماهير لا تحتاج حملات دعائية ولا ضخا إعلاميا، أو مواسم مدائح وتمجيدا؛ كي تتعلق بزعيم أو رئيس فالدعاية لا تُنتج عاطفة والمديح لا يصنع رموزا، إنما يكبر الزعماء في قلوب الجماهير حين يتواضعون إليها ويُصغون إلى نبض قلوبها

قلوب الجماهير لا يَدخلها أحدٌ غصبا عنها ولا بشراء الضمائر أو بتخويف النفوس، إنما هي منصات ترفع تلقائيا من شأن من لا يسعى في شرّ ولا يُضمر أحقادا وعداوةً، ولا يصنع من نفسه نصف آلهة أو بعض فرعون يرفض النقد ويفرض الرأي.

2- "الباجي من غنائم الثورة"

هكذا عَنْوَن الأستاذ الحقوقي سمير ديلو مقاله في تأبين الباجي قائد السبسي قائلا: "لخّص الرئيس الرّاحل الباجي قائد السّبسي موقعه من الثورة بقوله: لم أشارك فيها ولكنّي حميتها ورعيت أول انتخابات حرّة فيها ..! ولخّص موقفه منها بقوله: الثورة بدأت بالكفاح ضد الاستعمار واليوم تتواصل بأشكال ووسائل أخرى".

هذا ما جعل الباجي يحظى بقدر كبير من احترام التونسيين وتعاطفهم عند مرضه وتأثرهم عند موته. إنه لم يقف ضد أشواق الثورة ولم ينتصر لما يُسمى بـ"الثورة المضادة"، وهو من المحسوبين على النظام القديم، إذ شهد زمن البايات وعايش البورقيبية وساهم في الحكم، كما تولى رئاسة البرلمان زمن بن علي قبل أن ينسحب من السياسة، لتقذف به الأحداث من جديد إلى سطح المشهد، فتولى رئاسة الحكومة في 2011 وأوصل البلاد إلى انتخابات ديمقراطية شفافة، وسلم الحكم بطريقة حضارية لمن انتخبهم الشعب.

ومما يُحسب للباجي قائد السبسي قُدرته، وفي ظرف عامين فقط، على توجيه المعارضة وجهة سلمية؛ وقيادتها في معركة سياسية متحضرة مع حكومة "الترويكا" بزعامة النهضة. وقد استطاع تحقيق فوز برلماني في انتخابات 2014، وفوز بالرئاسة على مرشح أشواق الثورة الدكتور المنصف المرزوقي.

ذاك الفوز لم يُغره بردة فعل تجاه من وقفوا ضده بوضوح وبقوة أثناء قيادته لجبهة معارضي الترويكا وأثناء خوضه الانتخابات الرئاسية، بل إنه احتكم إلى المنطق والحكمة والمصلحة الوطنية، وأعلن تحالفه مع حركة النهضة في توافق سياسي استمر أربعة أعوام، قبل أن يتعثر أخيرا بسبب الموقف من تغيير أو استمرار حكومة يوسف الشاهد. تذكر حركة النهضة للباجي أنه دافع عنها مرات في مناسباب إقليمية ودولية، ولم يُسلم رقبتها للذبح حين تآمر عليها كثيرون في الداخل والخارج.

الباجي الذي لم يكن ثوريا ولم يدّع مشاركة في مقدمات الثورة، لم يصطدم بأشواق الناس ولم يعترض على أحلامهم المشروعة، بل ظل يؤكد تعاطفه مع مطالبهم بالعدالة والشغل والأمن، رغم أننا في نظام غير رئاسي، إلا أنه سعى ما أمكن في الاقتراب من الناس، وهو ما يفسر اتساع دائرة التعاطف الشعبي معه.

 

 

الباجي الذي لم يكن ثوريا ولم يدّع مشاركة في مقدمات الثورة، لم يصطدم بأشواق الناس ولم يعترض على أحلامهم المشروعة، بل ظل يؤكد تعاطفه مع مطالبهم بالعدالة والشغل والأمن

3- الموت في عيد الجمهورية

كأن الله تعالى قد أكرم تونس والتونسيين والباجي قائد السبسي معا حين جعل موته في ذكرى عيد الجمهورية، حيث لا حكما عسكريا ولا وراثيا، وحيث تنتقل السلطة عند الشغور التام وفق آلية دستورية واضحة، وهو ما عبر عنه رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر فور وفاة الرئيس قائلا: "الدولة ستستمر. وحسب الدستور فإن رئيس مجلس نواب الشعب هو من يتولى رئاسة الجمهورية. وأتوجه للشعب التونسي بنداء لتوحيد الصف والتضامن لنتمكن من التقدم وتحقيق مطامح الشعب".

وتجنبا لأي فراغ في السلطة وسدا لكل منافذ "الفوضى"، أدى محمد الناصر اليمين خلال اجتماع مكتب مجلس نواب الشعب بمقر البرلمان بباردو؛ بعد أربع ساعات فقط من وفاة رئيس الجمهورية، على إثر تلقي البرلمان شهادة وفاة المرحوم الباجى قايد السبسي، وإعلاما من الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين بالشغور النهائي في منصب رئيس الجمهورية، وذلك طبقا لأحكام الفصلين 84 و85 من الدستور.

ومحمد الناصر الذي أدى اليمين الدستورية وأقسم على القرآن الكريم متعهدا بخدمة البلاد ورعاية السيادة الوطنية؛ متخصص في القانون الاجتماعي، وسيتولى الحكم لفترة أدناها 45 يوما وأقصاها 90 يوما، لحين إجراء انتخابات رئاسية مبكرة تم تحديد موعدها في 15 أيلول/ سبتمبر 2019.

4- الحدث الأليم والدرس العظيم

من المؤكد أن وفاة الباجي قائد السبسي (رغم أنها منتظرة بسبب تقدمه في السن ومرضه) قد مثلت حدثا مؤلما لدى أغلب التونسيين في لحظة إنسانية مهيبة، وفي مرحلة سياسية دقيقة، ولكنها أيضا قد مثلت درسا للكثير من الفاعلين في السياسة والحكم؛ درسا يمكن عنونته بـ"السلطة والإنساني"، حيث لا يمكن لأي سياسي أن يكسب قلوب الناس لا بالقوة ولا بالإغراءات وشراء الذمم، وإنما يكتسبها باحترام المواطنين في كرامتهم الإنسانية، وفي حريتهم وفي حقوقهم. ولا يمكن أن يخلد ذو سلطة اسمه بطول بقائه في السلطة، وإنما يخلده ببعض مواقف يُصلح بها مسار أخطائه التاريخية. فالباجي لا ينسى له التونسيون أنه أحسن إدارة مرحلة الفوضى بعد فرار بن علي، وأنه أوفى بالتزاماته حين أشرف على أول انتخابات نزيهة منذ الاستقلال، ثم سلم الحكم في أجله للفائزين وبطريقة متحضرة.

 

وفاة الباجي قائد السبسي (رغم أنها منتظرة بسبب تقدمه في السن ومرضه) قد مثلت حدثا مؤلما لدى أغلب التونسيين في لحظة إنسانية مهيبة، وفي مرحلة سياسية دقيقة، ولكنها أيضا قد مثلت درسا للكثير من الفاعلين في السياسة والحكم؛ درسا يمكن عنونته بـ"السلطة والإنساني

هل يتعلم السياسيون الدرس؟ وهل يستفيد حكام الانقلابات والتوريث والتزييف من التجربة التونسية التي تتجده نحو أن تكون "مدرسة" في فنون الانتقال الديمقراطي وفي التقاء السياسي والإنساني؟

المشهدية الجنائزية لم تكن فقط طقوس دفن وتوديع ميت، إنما كانت أيضا مشهدية إنسانية ومدنية وثورية في أرقى معاني الثورة وأجلى معاني الإنسانية، وسيكون الضيوف شهداء على تجربة تونسية تبدو فريدة لحد الآن.

وقد حضر موكب الجنازة الوطنية لرئيس الجمهورية الراحل الباجي قايد السبسي، الذي أقيم يوم السبت (27 تموز/ يوليو) والتي أمّنها الجيش الوطني؛ رؤساء وقادة عدد من الدول الشقيقة والصديقة، من بينهم الرئيس الجزائري عبد القادر بن صالح، ورئيس المجلس الرئاسي في حكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج، وأمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني، وملك إسبانيا فيليب السادس، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والرئيس البرتغالي مارتشيلو ريبلو دي سوزا.

كما واكب انطلاقته من مقر إقامة الرئيس الراحل بقصر قرطاج، في الساعة 11 صباحا باتجاه مقبرة الجلاز بالعاصمة، ممثلون عن المنظمات الدولية والإقليمية وعدد من الشخصيات الوطنية والدولية وأصدقاء تونس، من بينهم الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط.