قضايا وآراء

حكاية "النعم" الفلسطينية الممهورة بالخنوع و"حطّ الواطي"

1300x600
تشير الدلائل الموثقة والمتكاثرة التي كشفت عنها عشرات كتب المذكرات والسير الشخصية، بالإضافة إلى نشر أكداس الوثائق السرية، إلى أن القيادة الفلسطينية كانت منذ مطلع السبعينيات قد أقرت مبدأ الاعتراف بـ"إسرائيل"، كاستحقاق مطلوب تقديمه من أجل الظفر بدولة فلسطينية في المناطق المحتلة، ولكن كان يقف أمام ذلك مانعان:

الأول: عدم النضوج الشعبي والتنظيمي، في ظل صعود ظاهرة "الثورة الفلسطينية والعمل الفدائي"؛ الذي كان يرى في مثل ذلك الاعتراف نوعا من "الكفر" وتغيير الجلد واقتراف المحرمات. وبدت (على هذا الصعيد) الحروب التي فرضت على الفلسطينيين منذ الخروج من الأردن، مرورا بالحرب الأهلية اللبنانية، وانتهاء بالخروج من بيروت، وكلها ذات وظيفة وحيدة هي "تعقيل" الفلسطينيين ذهنيا وسيكولوجيّا، وتحضيرهم للاعتراف السلس بعدوهم والتنازل له عن حقوقهم المشروعة وغير القابلة للتصرف، وذلك عبر إحاطتهم بخيارات صعبة ومسارات مستحيلة، وخلق حالة من الخنوع الذاتي، وهو ما قامت لاحقا (في انتفاضة الأقصى) المؤسسة العسكرية الصهيونية بتأطيره بمفهوم "كيّ الوعي". لذلك، سنجد أن الأكثر إخلاصا وتماثلا مع أوسلو (الأوسلويين الحقيقيين) هم الذين مروا بحالة تغيير قناعات جذرية؛ كانت ناتجة عن حالة من المحاكاة الذهنية العسيرة التي قادتهم إلى المعادلة الكارثية التي يرسفون ويعلقون بإغلالها.

أما المانع الثاني، فهو من النوع الإجرائي، فقد كان اشترط (السياسي الأمريكي اليهودي الشهير) هنري كيسنجر، ثلاثة شروط على منظمة التحرير حتى تقبل أمريكا فتح حوار سياسي معها، وهذه الشروط هي: الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، الاعتراف بقراري مجلس الأمن 242 و338، ونبذ العنف والإرهاب (يقصدون الكفاح المسلح).

وكان صلاح خلف "أبو إياد" (وهو من أهم المنافحين والمحاججين عن فكرة التسوية السياسية وإقامة دولة فلسطينية في أراضي 1967) ضد هذه المساومة، ورأى أنه "إذا كان مجرد الحوار مع الولايات المتحدة يقتضي تنازلا منّا بحجم قبول م. ت. ف بالقرار 242، فأيّة تنازلات إضافية أخرى سوف تُطلب منّا بمقابل القبول بنا في مؤتمر جنيف (الذي أصبح "مؤتمر مدريد" لاحقا)، والاعتراف بحقوقنا الوطنية! فالمنحدر هاو ويمكن أن ينزلق بنا بعيدا جدا".

ومنذ إعلان برنامج النقاط العشر في 1974، مرت "النعم" الفلسطينية بمسارات ومسالك ومحطات، حتى رست بصيغتها الأوضح والأكثر صراحة في إعلانات العام 1988 وما بعدها، والتي أفضت إلى كارثة أوسلو وأحابيلها، وانزلقت إلى الهاوية التي كان يتخوف منها أبو إياد. وفي مداولات المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، الذي أقر الاعتراف بقرارات الأمم المتحدة بما فيها 2424 و338، قام جورج حبش بالتحذير والتنبيه إلى ضرورة عدم تقديم اعتراف مجاني، وإذا كان ولا بد من تقديم تنازل بحجم الاعتراف بشرعية العدو، فليكن بعد قبض الثمن وهو دولة 1967، وإلا فإن الاعتراف عندها سيبدو كاستسلام. وهذا ما شرحه أكاديمي فلسطيني لامع عندما قال: "إن إسرائيل تحتاج إلى قبول الفلسطينيين بها كي تكسب شرعية هذا الوجود، ولا أحد يستطيع أن يمنحها أساس القبول والشرعية سوى الجانب الفلسطيني. وهذه قوة كبيرة كان يمكنها أن توازن قوة إسرائيل العسكرية، وأن تجعل من الطرفين أندادا في العملية التفاوضية. ولأن الجانب الفلسطيني كان مستعدا نفسيا لتلقي الإملاءات الإسرائيلية،  فقد منح إسرائيل في بداية المفاوضات، ومن دون مقابل يذكر، ما كان يجب أن تحصل عليه فقط في نهاية هذه المفاوضات، وهو الاعتراف الفلسطيني ليس بحقها في الوجود فحسب، بل بضمان أمنها أيضا. لقد كان هذا الاعتراف خطأ فلسطينيّا جسيما ما كان يجب أن يرتكب، وقد كلف الفلسطينيين لاحقا متوالية طويلة من التنازلات. لقد انتهت المفاوضات بالنسبة إلى إسرائيل قبل أن تبدأ، ولم يعد لديها أي حافز لتقديم أي من تنازلات للفلسطينيين بعد ذلك، ونتيجة ذلك تحولت مسائل المفاوضات الجوهرية بالنسبة إليها إلى موضوع مؤجل".

كان الفصل الأخير لتقديم "النعم" الفلسطينية "الواضحة والصريحة"، كما أرادها وطلبها الأمريكيون، مغمسة بدرجة عالية من الإذلال، وقدمت حتى بلا قبض أثمان، لا بما يوازيها ولا حتى بعشر ما يوازيها. ولم يقف الأمر عند ذلك، بل حتى على صعيد الشكل، فقد قدمت حين أتى أوان تقديمها كقربان فقد قدسيته، فغدا مجانيّا ومبتذلا، وكأن أصحابه يستجدون مجرد الموافقة والقبول من قبل عدوهم المغتصب.

في البداية كان على الفلسطينيين أن يعالجوا المسألة مع أنفسهم، ليخترعوا اجتهادات وتأويلات تلائمهم ليقوموا بما هو مطلوب منهم، فاتخذت قيادة تونس المأزومة آنذاك من الانتفاضة الأولى (1987) ذريعة لبلورة "استثمار سياسي للانتفاضة" قيل إنه واقعي، وإنه صادر عن رغبة المنتفضين "البريئين" الذي نُسب التحول "النعمي" إليهم وأعلن باسمهم!!

أخذت المسألة في البداية بعض المبادرات مثل " وثيقة الحسيني" و"وثيقة بسام أبو شريف" في صيف 1988، وكانت كبالونات اختبار تمهيدا لاتخاذ "القرارات التاريخية" بالاعتراف بقرارات الأمم المتحدة التي تعترف بإسرائيل، وذلك في المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر في الجزائر، ولمّعت تلك القرارات بالإعلان الورقي عن "استقلال فلسطين" (المقصود دولة في مناطق 1967). واستخدمت بلاغة محمود درويش في تدبيج وثيقة الاستقلال تلك، فقدم الاعتراف في ما يشبه الزفة و"الهيصة" على طريقة العرب والفلسطينيين في تعبيرهم عن جذلهم وابتهاجهم. وبعد أيام من هذا التحول، أرسلت الولايات المتحدة وفدا من وجوه الجالية اليهودية عندها لمقابلة عرفات في السويد، برعاية وزير خارجيتها (أندرسون)، وذلك من أجل التأكد من طبيعة الاعتراف الفلسطيني المعلن في المجلس الوطني. وقد قام عرفات بالتأكيد لذلك الوفد بأن الاعتراف "بإسرائيل" واضح وصريح. وللتأكيد عليها، قدّم نصّا مكتوبا بذلك الاعتراف الصريح لوزير خارجية أمريكا "شولتز".

وأراد عرفات إلقاء خطاب في مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة، على غرار خطابه الشهير في عام 1974 الذي تحدث فيه عن "البندقية وغصن الزيتون"، غير أن أمريكا أرادت الإمعان في الإذلال، فرفضت منحه تأشيرة دخول لأراضيها، فحول اجتماع الجمعية إلى مقر عصبة الأمم في جنيف، ووضعت الشروط الأمريكية المذلة.

ولأن لحظة التمرغ في تقديم "النعم" الفلسطينية فارقة في مسار القضية الفلسطينية، فإننا سننقل هنا حرفيّا الرواية الرسمية الفلسطينية التي كتبها شاهد العيان أحمد عبد الرحمن (لسان عرفات وذراعه ومستشاره الإعلامي وكاتب خطاباته لسنوات طويلة) التي بسطها في كتابه "عشت في زمن عرفات" الذي نشر أواخر 2013.

قال أحمد عبد الرحمن: "هكذا كان الحال مع الانتفاضة الأولى عام 1987، فأبو عمار أمسك بهذه الورقة الثمينة لانتزاع أقصى ما يمكن انتزاعه من الأرض، ولديه قناعة راسخة بأن البقاء والثبات فوق الأرض هو المحرك للتاريخ والتغيير. وحين حانت ساعة الحقيقة لتقديم ورقة الاعتراف بإسرائيل، كنت إلى جانبه في جنيف. وفي مقر عصبة الأمم السابق (التي اعترفت بصك الانتداب  وضمنته وعد بلفور المشؤوم) بعد أن رفضت الولايات المتحدة، مُنح أبو عمار تأشيرة الدخول إلى أمريكا لمخاطبة الجمعية العامة في نيويورك. وفي إشارات منه في زيارة سابقة للسويد موجهة إلى وزير الخارجية الأمريكية "شولتز"، وافق أبو عمار في نص موقع منه على الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود ونبذ الإرهاب، واللجوء إلى المفاوضات والحلول السلمية لتسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. ولم أكن أعرف شيئا عن هذه الورقة المرسلة إلى شولتز. كان يعرفها محمود درويش وياسر عبد ربه.

إلا أنني فوجئت بأبي عمار يستدعيني في صباح اليوم التالي لعودته من السويد، وكان في حالة عصبية وإلى جانبه حكم بلعاوي... وأمامه جريدة "الصباح" التونسية، وهي الصحيفة الأولى في تونس، وكان عنوانها بالخط العريض وباللون الأحمر وعلى ثمانية أعمدة كالتالي: "أبو عمار يعترف بحق إسرائيل في الوجود". وقد حاولت التخفيف عنه فقلت له: يبقى الخبر مشكوكا في صحته، فهو منسوب لمصادر مجهولة رفضت الكشف عن هويتها.

أما الأمر الأهم فكان خطابه في جنيف. وأكاد أزعم هنا أن الخطاب الذي شرّق فيه أبو عمار وغرّب وأطال الشرح والتوضيح للمأساة الفلسطينية؛ حمل ذات الموقف الذي ورد في جريدة "الصباح" التونسية، وبالضرورة كانت هناك معارضة من عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية، لكن احتواءها كان أمرا سهلا بعد أن دخلت الانتفاضة على هيئة صنع القرار الوطني، لتضع النقاط على الحروف، فحددت الهدف والأرض والقرارات الدولية. كانت الانتفاضة القوة الدافعة لأبو عمار، وهو يجتاز حقول الألغام ليصنع التاريخ شعبه".

ثم يضيف أحمد عبد الرحمن: "وحسب تعليمات أبو عمار سافرت إلى جنيف على رأس وفد إعلامي كبير، كما سافر إلى جنيف العدد الأكبر من أعضاء اللجنة التنفيذية ومن المجلس الوطني ومن المنظمات الشعبية (الحديث هنا عن مئات)، وتحول فندق الإنتركونتننتال إلى خلية عمل فلسطينية. وصل أبو عمار إلى جنيف قبل إلقاء الخطاب بيوم واحد، ووجدت أن تغييرا قد وضع على النص الأصلي الذي اتفقنا عليه في تونس، وعلمت أن التعديلات أضيفت في الليلة الأخيرة قبل سفره؛ في اجتماع تداولي غير رسمي في منزل حكم بلعاوي. وكان أبو عمار يراقبني وأنا أقرأ الخطاب، ولكني لم أعلق وفضلت الصمت، فالقلق والاضطراب وحالته العصبية البادية عليه تجعل الصمت أفضل.

قمت إلى غرفتي واتصلت مع أبي مازن الموجود في موسكو، وأخبرته بأن التعديلات دخلت على النص في الليلة الأخيرة. ولم يكن مرتاحا لهذا التغيير، دون أن يخبرني بدوره بأن النص كان في يد شولتز وريتشارد ميرفي (وكيل وزارة الخارجية الأمريكية). وكان هناك اتفاق مع وزير خارجية السويد (أندرسون) بأنه في حال قرأ أبو عمار الخطاب أمام الجمعية العامة وأورد القضايا المحددة، فإن الجنرال "والترز"، المندوب الأمريكي، سينهض من مقعده لمصافحته أمام الجميع. ودخل أبو عمار القاعة وسط ترحيب حار من الأعضاء، وبدأ يلقي خطابه في القاعة. وكنت أتحرك في القاعة، وكأني أحد الحراس الشخصيين لأبي عمار. وكان "والترز" أثناء الخطاب يتابع الترجمة الفورية وبين يديه أوراق.

ووالترز هذا جنرال كبير واسع الاطلاع على القضية الفلسطينية، وقد اجتمع مع خالد الحسن وماجد أبو شرار قبل أكثر من عشر سنوات في المغرب. وفجأة، وقبل دقائق قليلة من إنهاء الخطاب، رأيت الجنرال والترز يجمع أوراقه ويغادر القاعة. وعدنا إلى الفندق خائبين، فلم يقع الحدث الذي من أجله جئنا إلى جنيف ومعنا كل دول العالم. الأمريكيون قالوا: عرفات لم يلتزم بما اتفقت عليه مع (أندرسون) وزير خارجية السويد الذي كان حاضرا في اجتماع الجمعية العامة، وبدأ ليل لا ينتهي ولا ينجلي، ويوم يليه لا هدوء فيه. فقد حضر حسيب الصباغ وسعيد خوري وزين مياسي ومنيب المصري وباسل عقل، وهم من رجال الأعمال. وحسيب الصباغ يعرف شولتز، فقد كان محاميا لشركة حسيب في أمريكا "بكتل"، ويخاطب ميرفي كما لو كان صديقه الشخصي ويقول له يا "إدي".

وهنا تفتق ذهن أبو عمار عن حيلة فهلوية من حيله المعهودة، فيضيف عبد الرحمن: "فقد كلفني أبو عمار أن أقنع أندرسون أن لكل لغة أسلوبها، واللغة العربية تختلف عن اللغة الإنجليزية في هذا الجانب. وقد حاول أندرسون أكثر من مرة إقناع ميرفي بأنها مسألة صياغة، أما الموقف فهو نفسه. وبدا لي أن أندرسون مقتنع بما قلته له، فقد تصرف بغاية اللطف وهو يعبر عن هذه القناعة، وذهب وألقى كلمة في الجمعية العامة وأيد ما قاله أبو عمار في كلمته، واعتبرها كافية وتؤدي إلى المطلوب. وعاد إلينا في الفندق دون أن يظهر عليه أنه مرتبك أو غير مقتنع. ولكن الأمريكيين أصروا على موقفهم دون تغيير كلمة واحدة، ولم يقتنعوا بقصة التفاوت بين اللغات والأساليب، وطلبوا أن يقرأ أبو عمار النص المتفق عليه وباللغة الإنجليزية في مؤتمر صحفي، (حيث أن هامش المراوغة والالتواء لم يعد يجري، وأصبح عرفات على المحك الأخير بعدما فشل من وجهة النظر الأمريكية في كلمته أو امتحانه الأول أمام الجمعية العمومية، فمنح فرصة تقديم الاختبار لمرة ثانية بعد وساطات أندرسون والأجاويد والوسطاء من رجال الأعمال الفلسطينيين، على أن يلتزم حرفيّا بكلمات محدودة أملاها شولتز شخصيّا. بداية، يشير عبد الرحمن إلى مسرح الحدث الذي سيتم فيه التمرغ أمام وسائل الإعلام وفقدان ماء الوجه): "ولأن كل قضية لإسرائيل أو فيها وخاصة قضية اعتراف الفلسطينيين بوجودها هي قضية عالمية بامتياز، فإن وسائل الإعلام العالمية ترسل جيوشها الجرارة إلى مركز الحدث".

وفي جملة معترضة، يبوح عبد الرحمن بما انتهت إليه حكمته التقريرية التي تمهد لمشهد التنازل الكبير: "وأخيرا، لم يكن أمام أبي عمار من خيار أو هوامش، وانتهت "سياسة اللا" وانتهت "سياسة اللّعم"، وانتهت سياسة "ننتظر حتى نتسلم الدعوة لمؤتمر جنيف، وحينها نقرر". وأما سياسة "نصف القمر"، فعليه أن يقرر موقفه من نصف القمر الآخر".

 بهذه البلاغة و"العقلانية"، والتي انتهى إليها منطق المتعبين من النضال، مهّد أحمد عبد الرحمن وسوّغ للحظة "حط الواطي" التي انصاع فيها عرفات حرفيّا وبعبارات محددة طلبها شولتز شخصيّا؛ هي في الحقيقة إعلان عن التنازل عن وطن. يخبرنا شاهد العيان ويحدثنا عن ملابسات ودواخل تلك اللحظة بالقول:

"أما أعضاء القيادة الذين غصّ الفندق بهم فقد اختلفوا تماما، وكلهم موجود وغير موجود. وكنت إلى جانبه في السيارة التي نقلتنا وسط حراسة مشددة إلى مقر عصبة الأمم. وكان رئيس الجمعية العامة ينتظره في لقاء بروتوكولي قبل المؤتمر الصحفي. أما النص المتفق عليه فقد صار في جيبي وحفظته عن ظهر قلب. ولم تزد الجلسة مع رئيس الجمعية العامة عن عشرين دقيقة. وخرج أبو عمار ومشينا وحدنا والحرس خلفنا، وفجأة توقف أبو عمار وطلب مني أن أقرأ له النص، وقرأته في أقل من دقيقة، فأخذ يسألني (في نوع من التمنع المصطنع المعروف عن عرفات بقدراته التمثيلية): ألم يكن من الأفضل لو وضعنا نقطة هنا أو فاصلة هناك؟ وهذا كله بعد "36 ساعة" من النقاش المتواصل وعدم النوم. وعندها قلت لأبي عمار (الحكمة التي آل إليها مسار القضية على يد المتعبين): "أخي أبو عمار، إذا كنت تعتقد أننا سنأخذ الدولة من جورج حبش ونايف حواتمة فلنمزق هذه الورقة من حيث أتينا، أما إذا كنا سنأخذ الدولة من أمريكا وإسرائيل فليس هناك خيار آخر". وظل واقفا متسمرا في مكانه ولا يرد عليّ ولا يعلق على ما قلت، ثم خطا إلى الأمام وهو يقول (في حالة من مراجعة ضميرية لا تخلو من مغزى، لكن تأتي في الوقت الضائع): ولكن عبد الناصر لم يجرؤ على ذلك".

وهنا ينقلنا أحمد عبد الرحمن إلى مسرح الحدث ويخبرنا عن سكرات الاستسلام: "ودخلنا القاعة الكبرى، وإذا بها تغص بأكثر من ألف صحفي (فضيحة وعليها شهود)، وعند المدخل وجدنا القس إيليا خوري (عضو في اللجنة التنفيذية المنظمة)، فاحتضنه أبو عمار وجره بيده. وكذلك وجدنا أبو طارق الشرفا (فتحاوي قديم)، فأمسك به أبو عمار إلى جانبه (لعله يستأنس ويشد أزره بهم) وجلسنا على المنصة؛ أبو عمار وجلست على يساره".

ثم يضيف عبد الرحمن في بسط الحديث وتلافيفه: "وكان حولنا وفي داخلنا زلزال يتفجر وبركان يغلي. وقلت للصحفيين إن الرئيس ياسر عرفات سيلقي عليكم بيانا هامّا. أبو عمار بدأ يقرأ النص باللغة الإنجليزية مضطربا ومرتجفا. ومرت النقطة الأولى بسلام، عن حق اليهود في الوجود. أما جملة الإرهاب، فبدل أن يلفظ الفعل الذي يدين الإرهاب، قرأه بتغيير حرف واحد وهو الحرف الأول وقرأ: "نعلن الإرهاب بدل نبذ الإرهاب". ولم أكن أعرف أن الميكروفون الذي أمامنا مفتوح على كل المقاعد، حيث يجلس الصحفيون، وقمت بالتدخل وبالتصحيح. وعند الإعادة أيضا أخطأ في القراءة، وقال ننبذ السياحة بدل ننبذ الإرهاب. وقمت بالتدخل والتصحيح للمرة الثانية، وضجت القاعة بالضحك والهرج والمرج. ولم يستغرق المؤتمر الصحفي أكثر من خمس دقائق، فلا أسئلة ولا أجوبة، بل مغادرة على وجه السرعة إلى الفندق. ولكنه لم يدخل الفندق، بل كان فريقه في استعداد كامل للتحرك إلى المطار.

ويضيف عبد الرحمن : "قال لي أبو عمار: أنا مسافر إلى برلين.. وعليك متابعة ما يجري وإعلامي. وكان الاتفاق كما أخبرني أندرسون أن يصدر شولتز، وزير الخارجية الأمريكي، بيانا يعلن فيه فتح الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية في ضوء الموقف الذي يعلنه أبو عمار في المؤتمر الصحفي. وبعد ساعة، صدر الموقف الأمريكي بإعلان الحوار مع المنظمة، وفي صباح اليوم التالي كان أبو عمار قد شكل الوفد الفلسطيني للحوار مع السفير الأمريكي في تونس "بيلترو".. وبدأ الحوار".

وبعد إعطاء هذه "النعم" الصريحة والواضحة، تجرجرت المواقف الواضحة من سيئ إلى أسوأ، فكانت إراقة ماء الوجه في مدريد ثم كللته أوسلو السوداء وما بعدها. وكانت قصيدة محمود درويش "أحد عشر كوكبا على آخر مشهد أندلسي" كاشفة ومعبرة، وعاكسة لحالة الاستسلام الأندلسي الشهير. وكان من فصول التحلل و"التطهر" من "اللا" الفلسطينية الكبيرة؛ مشهد التصويت على إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني عام 1998، بحضور بيل كلنتون، حيث بلغت الحماسة البلهاء ببعض الذين تم جمعهم كممثلين للشعب الفلسطيني في ذلك المشهد السريالي؛ أن لم يكتفوا برفع يد واحدة، بل برفع اليدين الاثنتين، وكأن الاستسلام شيء مبهج إلى ذلك الحد!!