قضايا وآراء

الانتفاضة مستمرة (4).. عن نموذج المقاومة الفردية

(جيتي)
الانتفاضة مستمرة وإن باتجاهات مختلفة إذا كان للانتفاضة صور وأشكال تتطور بتطورها وصيرورتها الزمانية، فإننا بهذا نرى في الجهد النضالي المستمر غير المنقطع في قطاع غزة منذ أواخر العام 1987، وحتى اليوم حالة "انتفاضة مستمرة" في حالة تصاعد للخط البياني المقاوم. أما بالنسبة للضفة الغربية فقد تعرّضت لحدوث فجوات وخلخلات في أدائها الانتفاضي، بسبب نجاح السلطة – إضافة للاحتلال المباشر – بالاستفراد في إدارتها وكبحها ومحاولة ترويضها وإقصاء مقاوميها كتنظيمات وكأفراد.

ومع ذلك، فقد اشتعلت في هذه الضفة هبّات وانتفاضات لكنها كانت تفتقر إلى التراكم الواعي، الذي نجح "ملاذ غزة الآمن" في توفيره. فكانت الضفة تنطلق في أحيان كثيرة بإمكانيات صفرية، كاللجوء إلى السكّين، الدهس والعمل الفردي، في حالة تبرهن – رغم الملاحقة الوجودية – على أن الفعل الانتفاضي ظل حاضرًا دائمًا، مهما ضاقت هوامش الحركة والفعل في الميدان.

وحتى عندما كان يغيب، كنا نجد الجميع – بما في ذلك الأوسلويون – يُشهره ويهدد به أو يحذر منه، فالانتفاضة بهذا المعنى الحاضر لا شعوريًّا تبقى مستمرة! ولذلك وجدنا ياسر عرفات (أبو عمار) يُشهر الانتفاضة التي كان عمل على إيقافها عندما تأكّد له أنها هي الطريق الأسلم له، بعد السلام المخاتل الذي جُرّ إليه.

 وحتى بعد وفاة عرفات ومحاولة خليفته تطبيق ما هو أسوأ من أوسلو في مرحلة "ما بعد أوسلو"، حيث شهدت ساحة الضفة الغربية بعد عام 2007 ازدياد تفكيك أطر المقاومة المنظمة من قبل قوات الاحتلال، ومن قبل أجهزة أمن السلطة المتحالفة مع حلف تقف على رأسه الولايات الأمريكية المتحدة في إعلان الحرب على "الإرهاب"، وتبنّت السلطة تعريف المقاومة الفلسطينية على أنها إرهاب وإجرام ومنزوعة الشرعية وخارجة عن القانون، الأمر الذي أدّى مع الوقت إلى انحسار الفعل الجماعي المنظم، بل إلى تقويضه وشلّه، وهو ما أفسح في المجال للعمل الفردي أن يأخذ مداه، خاصة وأن الإجراءات الاحتلالية العدوانية غير المتوقفة، تستدعي دائمًا أفعالًا تتصدّى لها وتقاومها، كما أن هناك بيئة مواتية في الإقليم وفي العالم بالإضافة للبيئة المحلية في إنتاج ظاهرة "الذئب المنفرد".

وهي في فلسطين لم تعُد تقتصر على فعل طارئ هنا أو هناك، بل إن جاهزية الفلسطينيين ونضجهم للقيام بفعل مقاوم، تخطّت الحاجة لوجود جهاز منظّم، فالمبادرة الذاتية التي تقوم على استلهام ومحاكاة أفعال يقوم بها أفراد آخرون، هي مما كانت طوّرته آليات عمل الانتفاضة الأولى، وقد ازدهر العمل الفردي المعبّر عن المجموع الفلسطيني في "انتفاضة السكاكين" والدّهس، وأفعال تقوم بالأساس على وسائل مقاومة بدائية بعد تقويض إمكانية تخلّلت في عدة أوقات سياق "انتفاضة السكاكين" ذات الطابع الفردي.

والحقيقة أن تحوّل الفعل الفردي إلى ظاهرة ذات زخم شعبي ونضالي وَسَم مرحلة من مراحل النضال الوطني إنما يؤكد – فوق ما يتصف به الشعب الفلسطيني من حيوية وقدرة على الفعل في أسوأ الظروف – على قدرة الفلسطينيين في تجاوز معضلة غياب الفعل المنظم الذي تقف خلفه تنظيمات. والحقيقة، أن العمل الفردي ازدهر في العقد الأخير، في أماكن أخرى مثل سجون الاحتلال، التي عرفت إضرابات فردية ماراثونية، وكان علّتها ليس فقط غياب العمل الجماعي، وإنما ازدهار النزعة الفردية كظاهرة عالمية أصبح لها تعبيرات محلية عندنا.

وقد تدحرجت هذه الظاهرة الانتفاضية صعودًا وهبوطًا، بالرغم من غياب أي إطار قيادي منظم، مستلهمة من صمود المقاومة في غزة وبطولاتها الأسطورية التي كشفت عنها حروب غزة المتتالية. وأخذت تلك الظاهرة في صيغتها الأخيرة صورة ظواهر مجموعاتية محلية أخذت تحل محل العمل الفردي، وإن كانت بعد لم تغادر خصائصه ومزاياه، واتسمت بأنها ذات صفة مناطقية. وقد ساهمت عوامل عديدة في إنتاج هذه الحالة الجديدة، كما عليه الحال في نابلس (عرين الأسود) ومخيم جنين (كتيبة جنين)، واللتان أخذت مناطق أخرى تنسج على منوالهما، ومنها مثلًا أن نابلس كمدينة شامية عريقة، لم تكفّ يومًا عن إنتاج "بطلها الشعبي" وإن كان في العقود الماضية يحمل اسم شخص فرد، فقد غدا اليوم يحمل اسم مجموعة.

أما في مخيم جنين فهناك خاصية التضامن الجماعي الداخلي إزاء أي غاشم من خارجه، وهي سمة تَسِم مجتمع المخيمات بشكل عام، وفي مخيم جنين بالتحديد كنا نجد هذا التقليد التضامني مرتفعًا دائمًا، وليس من قبيل الصدفة أن تكون تشكيلات الفهد الأسود وغيرها من التشكيلات والأطر المشابهة في أدوات "العنف الثوري" بين مرحلتي كل من "الفهد الأسود" و"عرين الأسود". وفي كل الأحوال، برهن الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، أنه شعب لا تنقصه البطولة، ولا تتابع الأبطال، فقد قدّم رجاله نماذج فريدة من البسالة والتضحية، حتى في أسوأ الظروف. فالجعبة مليئة بأبطال حقيقيين ذوي مآثر نادرة، ويكفي هنا أن نمر على قائمة أسماء رجال من أمثال: أحمد نصر جرار، عمر العبد، عمر أبو ليلى، أشرف نعالوة، عاصم البرغوثي، وفادي أبو شخيدم... بالإضافة إلى النماذج المضيئة التي أنارت ليل فلسطين منذ مطلع العام 2022 وحتى نهايته، بدءًا بالشهيد محمد أبو القيعان وانتهاءً بالشهيد عدي التميمي والركب الذين جاءوا من بعده أيضًا.

إن ما ينقص الفعل البطولي الكبير هو خيط النظام الذي ينبغي أن ينتظمه فعلهم، ليعمل على تثمير جهادهم وتضحياتهم الجسورة، وترجمته إلى انتصار كبير. إنها معضلة غياب وجود قيادة ثورية تأخذ على عاتقها زمام المبادرة وشق الأفق بوعي وجسارة.

وإذا كان ينقص هذه التشكيلات والبطولات، الصيغة التي يمكن تثميرها سياسيًّا وتحرّريًّا، فإن مجرّد وجودها وتناسلها وديمومتها يمنح الظاهرة الانتفاضية التي انطلقت منذ 1987 استمراريتها وديمومتها وتجلّياتها المتجددة مع أجيال جديدة. وإذا كان بينها وبين جيلها الأول في العام 1987 انقطاعات؛ غير أن الثابت الأساسي في كل الأحوال وفي كل التجارب هو صيرورة الفعل الانتفاضي العنيد في مواجهة الاحتلال.

إن استمرارية الانتفاضة في قطاع غزة في تطورها المتدحرج يكاد يكون بلا انقطاع من عام 1987، باستثناء بعض فترات الإعاقة الأوسلوية بين عامي 1994 – 2000، ثم في فترة 2006-2007، ومع ذلك فقد شهدت حتى فترات الإعاقة تلك عطاء انتفاضيًّا باهرًا تمثل في صعود الظاهرة الاستشهادية في التسعينيات. أما في عام 2006 فقد شهدت، ورغم التحدي الداخلي، حادثة أسر الجندي جلعاد شاليط، والتي نجم عنها إنجاز صفقة تبادل تجري لأول مرة على الأرض الفلسطينية.

أما في الضفة الغربية التي لم يُتَح لها ما أتيح لقطاع غزة، وعبر فترات بيات وانقطاع نسبي، فإن الفعل الانتفاضي عندما كان ينبعث مجددًا كان يُختزل إلى حدّ بعيد بالخبرة المتراكمة المتدحرجة، وإن اضطر أحيانًا للبدء من النقطة الصفر، وكان يعيد تكييف الأداء مع كل مرحلة ومرحلة، كما لا يخفى على أي مراقب حصيف. كان من متواليات الفعل الانتفاضي منذ عام 1987 ومرورًا بكل مراحله اللاحقة، ليس فقط مجرد تأثيره البالغ في إعادة رسم صورة الفلسطينيين وقضيتهم في العالم، ولا في قدرته على إحداث التأثيرات الثورية في جماهير الشعوب العربية والذي تجسّد في حركيّتها في ثورات ربيعها العربي بعد عام 2011، وهو ما كان أكّده أحد رموزها (المنصف المرزوقي: أول رئيس لتونس بعد الثورة) حيث أعاد الفضل لانتفاضات الفلسطينيين التي ألهمت الشعوب العربية وهدتها إلى شقّ طريقها. وكان كرّر موقفه هذا في مقابلات تلفزيونية عديدة على قناة الجزيرة في الشهور الأولى من عام 2011.

لكن التأثير الأعمق حدث في الوسط الفلسطيني داخل مناطق 1948، الذين كان يُنظر إليهم بكثير من الاستثنائية لطبيعة سياقهم وظروفهم وخصوصيتهم. كانت مشاركتهم في البداية رمزية مع منتفضي عام 1987، لكنها شهدت وثوبًا لافتًا في انتفاضة الأقصى (عام 2000) رغم رمزيتها، فقد أحدثت تلك المشاركة شرخًا في علاقة جماهير الداخل بالمؤسسة الصهيونية. لكن التناغم والتمازج والانصهار والأهم مع الفعل الانتفاضي بلغ ذروته بصورة جلية في غضون معركة سيف القدس المجيدة 2021، والتي التحم فيها الفعل الانتفاضي وشمل لأول مرة جميع ذراري الشعب الفلسطيني ما بين البحر والنهر في فعاليات انتفاضية واحدة وموحدة، خاصة بعدما بلغ النصاب الديموغرافي شرط اكتماله لاحتمال الانطلاق بفعل وطني مفتوح؛ ثم إن ذلك الانتفاض في أيار/مايو 2021 حرّك أيضًا شعوب الجوار العربي وقلوب المسلمين جميعًا. وإن كانت وتائر مثل هذا التضامن الانتفاضي مرشحة لاجتياز فضاءات جديدة في حال اندلاع شرارة انتفاضية كبرى قادمة.