قضايا وآراء

زيادة الحد الأدنى للأجور بمصر.. الأهداف والدلالات

1300x600

1- هذه الزيادة يجب أن تتبعها سبع زيادات أخرى وبنفس النسبة، حتى يعود موظفو الدولة لنفس مستوى معيشتهم قبل مجيء السيسي

تفاجأ الجميع، وأنا شخصياً، بما حدث من زيادة للرواتب والمعاشات ورفع الحد الأدنى للأجور في مصر، خاصة بعدما بدا واضحا أن الحكومة لا تنظر للمواطن البسيط، وأنها تعول فقط على الردع الأمني لبتر أية محاولة للتململ، حتى لا تكبر وتصبح حركة اعتراضية قد تتسع إلى ما لا يرغبه النظام.

كما نتجت المفاجأة عن إغلاق السيسي شخصياً كافة أنواع الحوار حول التخفيف عن الطبقات الكادحة، لا سيما موظفي الدولة، بعد تطبيق البرنامج مع صندوق النقد الدولي. كما كان زجره الشهير للنائب الذي حاول فقط فتح الموضوع، مفسرا لماذا كان الأمر مفاجأة، ويفتح كذلك مجالاً للتساؤلات حول أسباب تراجع السيسي، وهل كان هو ووزراؤه "غير دارسين" جيدا للموضوع كما قال هو للنائب؟

كما أن تمويل الزيادات بحد ذاته يحتاج إلى توضيح، خاصة أنه لا توجد مصادر معروفة لهذا التمويل في ما تسرب من مشروع الموازنة الجديد.

بداية، يجب القول إن رفع الحد الأدنى للأجور وزيادة المرتبات للعاملين في الدولة (رغم التغافل عن مرتبات أعضاء هيئات التدريس بالجامعات) هو أمر محمود يجب تشجيعه والثناء عليه، ولكن في نفس الوقت يجب أن نؤكد أن هذه الزيادة يجب أن تتبعها سبع زيادات أخرى وبنفس النسبة، حتى يعود موظفو الدولة لنفس مستوى معيشتهم قبل انقلاب السيسي.

 

تمويل الزيادات بحد ذاته يحتاج إلى توضيح، خاصة أنه لا توجد مصادر معروفة لهذا التمويل في ما تسرب من مشروع الموازنة الجديد

فانخفاض معدل التضخم في الفترة الأخيرة لا يأخذ في حساباته إلا مجموعة منتقاة من السلع، ولا يأخذ في الاعتبار زيادة رسوم الخدمات الحكومية، إضافة إلى الزيادات غير الرسمية في أسعار المواصلات التي يستخدمها المواطن مثل الميكروباص والتوكتوك، وكذلك لا يأخذ في الاعتبار فشل الدولة في الحد من جشع التجار، هذا كله بالإضافة الي الزيادات التي نتجت عن الإجراءات الحكومية نفسها، مثل زيادة الجمارك أكثر من مرة لدولة تستورد معظم سلعها الرئيسية من الخارج، وزيادة الضرائب ورفع أسعار تذاكر المواصلات، وغير ذلك، مما سبب حالة من التضخم غير المسبوق خلال العام الماضي.

أما عن حساب البعض للقوة الشرائية بعد الزيادة باستخدام الأرقام القياسية للأسعار، فأجد فيه الكثير من التضليل، لإهماله العوامل السابق ذكرها، والتي تدخل جميعها في حساب التضخم، إضافة إلى أن الرقم المعلن من الجهاز المركزي يحتاج إلى التدقيق. وجميع المتخصصين يعرفون السوابق المصرية التاريخية في التلاعب في الأرقام، ويكفي هنا أن أشير إلى أن رئاسة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء (وهو عمل شديد الفنية والتخصص) يتوارثه لواءات الجيش حتى وقتنا الحالي.

 

حساب البعض للقوة الشرائية بعد الزيادة باستخدام الأرقام القياسية للأسعار، فأجد فيه الكثير من التضليل

وبالتالي، فان ما أعتقده صحيح من وجهة نظري، لحساب القوة الشرائية للأجور الحالية، هو النسبة إلى الدولار الأمريكي الذي كان يعادل تقريبا سبعة جنيهات، وهو الآن في حدود 18 جنيها. إذا، فالزيادة الحالية تحتاج إلى سبع زيادات بنفس النسبة حتى تعود القوة الشرائية للراتب كما كانت عليه قبل مجيء السيسي للسلطة.

2- من أين تمول الزيادات؟

طالما روج السيسي أن زيادة مرتبات موظفي الدولة في أعقاب ثورة يناير كانت أهم أسباب التضخم، وعبر أحاديث موثقة، قال محافظ البنك المركزي إنه كثيراً، وتحت وطأة الازمة الاقتصادية، ما كان يتم اللجوء إلى طبع النقود كوسيلة لمواجهة نقص السيولة، خاصة في مجال دفع مرتبات الموظفين، مؤكداً أن ذلك أحد أسباب التضخم، ومتعهداً بأن ذلك لن يحث مجدداً.

وبعد ما تروج له الدولة من إنجازات، وما تزعمه من نجاح لبرنامجها مع صندوق النقد الدولي، عنونت الكثير من الصحف المصرية لخبر الزيادة بأنه ثمرة لبرنامج الإصلاح. وسريعا جاءت أرقام وزارة المالية لتخيب ظن الجميع، حيث أعلنت أن عجز الموازنة العامة الجديدة (2020/2019) سيصل إلى 440 مليار جنيه، وهو تقريبا نفس عجز الموازنة العامة الحالية (2019/2018) والمقدر بحوالي 438.5 مليار جنيه. وبالتالي، لا يحتاج الأمر إلى الكثير من التفكير حول طريقة توفير مخصصات رفع الحد الأدنى وزيادة المعاشات. فمن المؤكد دفعها عبر المزيد من طبع النقود، وهو ما سيعمل على تأجيج معدلات التضخم في الفترة القادمة، لا سيما أنه أتى متزامنا مع رفع الدعم المزمع تطبيقه على المحروقات.

3- لماذا تراجع السيسي؟

كان من الواضح عزم السيسي على مواصلة برنامج الصندوق، خاصة في ظل التصميم على إكمال مجموعة المشاريع، والتي أسماها بالقومية، وعلى رأسها العاصمة الإدارية وشبكة الطرق والأنفاق الجديدة، وهي التي كلّفت مئات المليارات، ومُولت من خلال المعونات والقروض الخارجية والداخلية، وكانت جميعها دون دراسات جدوي، ولا تخدم أهدافا تنموية بذاتها، ولا يجمعها رابط بحيث يمكن القول بتكاملها وخلقها لحالة تنموية شاملة؛ تُحدث تغييرات متعمدة في البنية الاقتصادية والاجتماعية للدولة.

وكان الإعلان الأخير عن زيادة الحد الأدنى للأجور وزيادة المعاشات خروجا عن المألوف للسيسي ونظامه، في ما عده الكثيرون تراجعا عن مواقف معلنة سابقاً، تعمد فيها الإفراط في القسوة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، في ما فسره الكثيرون بسياسة الإلهاء بالبحث عن لقمة العيش، لنسيان الهموم السياسية.

 

كان الإعلان الأخير عن زيادة الحد الأدنى للأجور وزيادة المعاشات خروجا عن المألوف للسيسي ونظامه، في ما عده الكثيرون تراجعا عن مواقف معلنة سابقاً

ويرى الكثيرون أن تراجع النظام لا يعدو كونه محاولة لترقيع الأوضاع المعيشية لأكثر من ثلثي السكان، وأن له العديد من الأسباب، أهمها كونه رشوة انتخابية، في ظل تصويت مرتقب على التعديلات الدستورية، التي تمدد للسيسي 12 عاما قادمة. وآخرون يرون أن رفع الحد الأدنى للأجور هو استباق لقفزات في الأسعار، خاصة سعر الوقود الذي سيؤثر بدوره في كل أسعار السلع والخدمات. وهناك من ربطها بما يحدث في الجزائر والسودان والمغرب والأردن، خاصة أن المظاهرات الجزائرية فتحت أبوابا ظن الكثيرين ،ومن بينهم مناصرو الثورة المضادة، أنها أغلقت للأبد.

وأخيراً، يري البعض أن القرار المفاجئ له بعد دولي يتعلق بتنفيذ صفقة القرن، ويستدلون على ذلك بأن مشروع الموازنة العامة الجديدة لم يتضمن الزيادة، أي أن الموضوع رُتب له وسيمول من خارج مصر، في إطار تفاهمات دولية كبري. كما أن صمت صندوق النقد الدولي على الزيادة (التي إن مُولت من الموازنة العامة ستتسبب في تعميق جراح العجز) يبرهن على أن الزيادة غير المقررة في اتفاقية القرض؛ هي عبر خطة دولية تحاول تمرير صفقة القرن، خاصة وأن بعض الصفحات الفيسبوكية المشبوهة بدأت بتخيير المواطنين بين 800 مليار دولار لحل كل الأزمات التي يعيشونها، وبين جزء من سيناء.

وبذلك، فإن أصحاب الاتجاه الأخير يرون أن برنامج الصندوق كان هدفه الرئيس الترويع الاقتصادي للمواطنين، لغرض الإلهاء عن فكرة الثورة والوضع السياسي والبحث عن الديمقراطية، وفي نفس الوقت الترويع لغرض تمرير صفقة القرن.

 

الزيادة أيا ما كان سببها هي خطوة محمودة تحتاج الطبقات الفقيرة إلى أضعافها، وستحل بعضاً من أزمة الركود الاقتصادي التي تعانيها البلاد بسبب السياسات التقشفية العنيفة التي اتبعتها الدولة، وتضمن عدم انزلاق الاقتصاد إلى نفق الكساد المظلم

عموما، أؤكد ما قلته سابقاً من أن الزيادة أيا ما كان سببها هي خطوة محمودة تحتاج الطبقات الفقيرة إلى أضعافها، وستحل بعضاً من أزمة الركود الاقتصادي التي تعانيها البلاد بسبب السياسات التقشفية العنيفة التي اتبعتها الدولة، وتضمن عدم انزلاق الاقتصاد إلى نفق الكساد المظلم.. ولكن ألا يستحق المواطن المصري برنامجا محددا بخطوات وتواريخ واستحقاقات يمكن محاسبة السيسي عليها، بدلا من الحديث الفضفاض عن إنجازات لا يلمسها غير النظام وأبواقه؟

في النهاية، يمكن القول إن السياسات الاقتصادية المتبعة في مصر ليست أمراً عشوائيا أو عبثيا، بل أراها ممنهجة ومرتبا لها، حتى في قرارات السيسي وإجراءاته البسيطة التي تخدم خطة كلية رسمها فنان ماكر؛ ليس من بين أهدافها على الإطلاق رفاهية المواطن وإحداث التنمية المنشودة، بل تهدف إلى تحقيق أهداف أعتقد أن صورتها الكلية (والتي كنا نتساءل عن ماهيتها منذ أعوام) أصبحت أكثر اتضاحا، وأجدها خلال أشهر معدودة تنفذ على أرض الواقع.