قضايا وآراء

حول الرابط بين تصاعد التوحش وبين لحظة الانعتاق

1300x600

ارتبط التمكين لأنظمة الحكم في تاريخ العرب الحديث والمعاصر؛ بممارسة درجات عالية من القمع والظلم والهجوم على المجتمع.

مارس ذلك ملوك أو حكام دكتاتوريون مستبدون، أو حتى أحزاب سياسية حاكمة ومتنفذة. هناك قاموس حافل في الأدب السياسي العربي، كما أن هناك مرثية تفجعية كبيرة سجلتها دواوين كبار شعراء العرب منذ النصف الثاني للقرن العشرين. ولعل أصدق وصف لحالة الاجتماع السياسي العربي في هذه المرحلة الممتدة، هو في وجود حالة حرب أهلية عربية مفتوحة، تكون صامتة أحيانا، خاصة إذا مارسها النظام البوليسي ضد المجتمع  من طرف واحد، وتكون مشتعلة أحيانا أخرى عندما تتوفر شروط انفجارات شعبية. وانعكست حالة الاحتراب الأهلي هذه حتى بين القوى والنخب السياسية التي تسعى للتغيير، وذلك في مراحل ما قبل التمكين. لطالما قلنا إنه من الخطأ بمكان عند دراسة العنف السياسي في منطقتنا، عبر ربطه بهوية حامليه الأيديولوجية ووصم تلك الأيديولوجيا به، خاصة إذا كان (العنف) أعمى ومتوحشا وعلى غير هدى..

 

قلنا ذلك بالأخص عندما حاولت الماكينات الإعلامية والدعائية ربط العنف الذي مارسته السلفيات الجهادية بالإسلام، أو بأفكار مجددين مرموقين في تاريخ الإسلام، كابن حنبل وابن تيمية وسيد قطب وغيرهم، لدرجة غدا كثير من الجهد الدعوي والوعظي والإرشادي والنقدي منصبا على هذه الناحية حصرا، وهو ما كان خطأ جوهريا في النظر للمشكلة باعتقادنا.

فلو قمنا (افتراضيا) بحذف عناوين وأسماء القوى التي مارست التوحش والهمجيةـ وأنزلنا مثلا أسماء مثل: صدام حسين، أو حافظ وبشار الأسد، أو جمال عبد الناصر، أو السادات ومبارك، أو القذافي وابن علي، والحسن الثاني وبوتفليقة وعلي عبد الله صالح وعبد الفتاح إسماعيل، وغيرهم وغيرهم، بالإضافة إلى حزب البعث، والناصريين، أو القاعدة أو داعش والمالكي والسيسي وحفتر... أو محمد بن سلمان أخيرا... لو أنزلنا افتراضيا كل هذه العناوين ودرسنا الممارسات المنسوبة لها، لوجدنا أن الممارسات من نفس الطبيعة، ولذلك فإن المشكلة في رأينا ليست بنوعية العقائد والأيديولوجيات والمشاريع السياسية لأصحابها، بقدر ما تعكس مشكلة بنيوية لمجتمعات خارجة من طور حضاري، وتمر في مرحلة من مراحل تطورها الوجودي، في ظل معطيات عالمية وإقليمية عاصفة، الأمر الذي يفرض علينا أن نبحث عن أسبابها وتجلياتها وصيروراتها في الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذه المجتمعات.

إن ما كشفت عنه حادثة تصفية خاشقجي بالطريقة الهمجية المريعة، وما صاحبها من تغطية ونقاش عام، وإجراء محاكمة طيلة الوقت للنظام السعودي.. أعتقد أن هذه الحادثة تنطوي على الكثير من الدروس والعبر التي ربما توازي دروس الحروب الأهلية في سوريا واليمن وليبيا والعراق ومصر، من حيث الإمكانيات الكامنة في تداعيات الحادثة على تأطير قانوني وسياسي، وربما على درس بليغ في التأهل لإمكانية تبلور حالة ديمقراطية.. فبالتأكيد ستقوم الدول الموقعة على اتفاقية فيينا للتبادل الدبلوماسي بإجراء تعديلات تراعي وتستجيب لتحديات وظروف استثنائية، كالحادث الذي حصل في قنصلية السعودية بإسطنبول. ثم إن العقوبات المتوقعة من الدول الغربية بالأخص، والتي لن يكون في أقلها لمحمد بن سلمان نفس الوضعية السابقة على الحادث، ثم عن السلوك السعودي الرسمي الواقع تحت الضغط الهائلة للحادث، فضلا عن السلوك الشعبي المتوخى قبليا وعشائريا، والمرتبط بانتشاره في بلاد الحرمين الشريفين، فضلا أيضا عما غدا يثيره التوحش والهمجية من ردّات  فعل مقززة في الرأي العام المحلي والدولي، وما نراه في الواقع من ضخّ إعلامي لم يزل متصلا ومتواصلا منذ وقوع الحادثة.. وكل ذلك يؤشر إلى درجة التعبئة والتأهيل، ومزيد من دروس في العقلانية واستجلاب البعد الأخلاقي وإحضاره في الممارسة السياسية.

 

وكلما ازداد هامش الأخلاق في السياسة في منطقتنا، كلما اقتربت لحظة قيام اجتماع عربي سياسي جديد؛ ستكون قضايا التسامح والشورى والديمقراطية والعقلانية هي الثمار المتوخاة من مثل هكذا دروس. ولعلها ميزة عصرنا تكمن في السيولة الكبيرة وسرعة التحولات، وأحيانا ظواهر القفز والتجاوز الحاصلة لدى أكثر من أمة ناهضة في العقود الثلاثة الأخيرة. ورغم عقم تحولات منطقتنا منذ الغزوة النابليونية، وما يبدو من سكونية مستديمة، فإن أمتنا ليست بدعا من بين أمم الأرض، خاصة أنها آخذة بالشبوب عن الطوق، كما أن زمن تطويقها وحصارها وتسييجها آخذ بالتخلخل وانتهاء الصلاحية.