قضايا وآراء

ما بعد الأثر السياسي.. اغتيال خاشقجي وصورة الإسلام

1300x600
قادمة من قريةٍ بعيدةٍ عن المدينة مسافة ساعةٍ بالسّيارة، تسأل مدرّسة اللغة؛ صديقي المقيم من فترةٍ قريبةٍ كندا: لماذا قتلوا جمال خاشقجي؟!

سألها مستغربا: هل أنت مهتمّة بالسياسة وبشؤون العرب؟ أجابت بلا تردّد: مطلقا؛ لا أحبّ السّياسة ولا أهتمّ بها.

وكيفَ عرفت بقضيّة جمال خاشقجي إذن؟! فأجابت مستغربة من السّؤال: وهل بقيَ أحدٌ في الدّنيا كلّها لم يسمع بمقتل خاشقجي وتقطيعه؟!

وتستطرد متسائلة: هو لم يفعل شيئا سوى أنَّه كتب بلطف ناصحا للحكومة والسّلطة في بلاده، فلماذا يقتلونه؟!

هذا الحوار العابر بين صديقي المهجر حديثا إلى كندا ومدرّسة اللغة؛ يحملُ في طيّاته الكثير ممَّا يجب التوقّف عنده، ويفتح الأبواب على مصاريعها للكثير من التّأمّل والتّرقّب القَلِق.

إنَّ قضيّة اغتيال جمال خاشقجي لن تقتصر آثارها على الوضع السّياسيّ للمملكة السّعوديّة أو على شخص ابن سلمان وحده، بل سنرى بعد أن تبدأ الآثار السّياسة بالانحسار والثبوت بأنَّ القضيّة التي ما زالت تملأ الدّنيا وتشغل النّاس؛ ستكون آثارها غير السّياسيّة أعمق وأعرض ممّا نتخيّل.

وإنَّ أعمق هذه الآثار على الإطلاق ستكون تلك المتعلّقة بصورة الإسلام وأتباعه المسلمين؛ الإسلام الذي تمثّل السّعوديّة اليوم بحكم رعايتها الأماكن المقدّسة (مكّة المكّرمة والمدينة المنوّرة) وشعائر الحجّ والعمرة، الزعامة الأكبر والعنوان الأبرز للمسلمين، وهذه هي النّظرة السّائدة في عموم المجتمعات غير المسلمة على أقلّ تقدير.

إنَّ الصّورة التي ستتغلغلُ في أعماق الوعي عند كثيرٍ من الشّعوب وفي كثيرٍ من المجتمعات؛ هي أنَّ مجموعة من "المسلمين" من أكبر بلد "إسلاميّ"، يرفع على علمه شعار المسلمين "لا إله إلّا الله"، قد قامت بتقطيع جثّة كاتبٍ صحفيّ غدرا في قنصليّة بلاده، حيثُ يفترَضُ أن يكون آمنا. ولأنّ النّاس مفطورون على ربط سلوك النّاس بأفكارهم، سيتفجّر في وجهنا السّؤال الكبير المؤلم: هل هذا هو إسلامكم؟!

قبلَ بضعةِ أيّامٍ جاءت طالبةٌ جامعيّةٌ ألمانيّةٌ مسلمة تسألُ أستاذها، وهو عضو بارزٌ في المجلس الأوروبيّ للإفتاء: بمَ أجيبُ أستاذي الألمانيّ الذي يسألني مستنكرا: كيفَ تدفعونَ أموالكم للسّعوديّة في رحلات الحجّ والعمرة؛ بعدَ أن رأيتُم وشاهدتم جريمةَ التّقطيعِ في القنصليّة؟!!

وهذا من الأسئلة الكبيرة التي فجّرتها قضيّة خاشقجي في الغرب، وغيرها كثيرٌ يحتاج إلى إجابات واضحة وجهود كبيرة تثمرُ عن فكّ الارتباط بين الجريمة وبين الإسلام. ويغدو هذا في غاية الصّعوبة حين يكون الأمر متعلّقا بدولةٍ ما تزال تصرّ على أنَّها عنوان الإسلام وبلد التّوحيد ونموذج الحكم بالشريعة الإسلاميّة!

إنَّ الأسئلة المتعلّقة بعلاقة الإسلام بالتوحّش، وارتباطه بالاستبداد، وتصويرُه على أنّه دينُ القَتَلة والمجرمين؛ هي ليست أسئلة حادثة ولا مستجدّة، وهي ليست أسئلة أنتجتها قضيّة اغتيال جمال خاشقجي، لكنّها بلا شكّ أسئلةٌ فجّرتها في الواقع الاجتماعي والفكري على مستوى العالم غير الإسلامي كلّه؛ قضيّة اغتيال خاشقجي، وذلك بسبب حجم التفاعل الإعلامي غير المسبوق مع القضيّة على مستوى العالم، إضافة إلى كون الفاعل هو السّعوديّة؛ السّعودية التي هي عنوان الإسلام والقداسة وأرض الحرمين وقبلة المسلمين جميعا.

إنَّ محاولة التّهوين من هذا الأثر أو التقليل من مخاطره هو أسهل طريق لإراحة النّفس والتحلّل من المسؤوليّات، ولكنّ مواجهة الحقيقة يحتاج إلى جرأةٍ حقيقيّةٍ من الجميع.. نعم لقد وضَعَنَا النّظام السّعودي بارتكابه هذه الجريمة المرعبة بحقّ جمال خاشقجي (نحن المسلمين جميعا) في قفص الاتهام، وسنرى عمَّا قريبٍ أنَّه وضعَ الإسلام في صورةٍ تحتاج جهودا جبّارة لمحو ما علق به بسبب هذه الجريمة المرعبة.

وهنا يجب علينا أن نسأل كلّ الذين جابوا الآفاق الجغرافيّة والإعلاميّة ليثبتوا أنَّ الإسلام براءٌ من جرائم داعش وأخواتها: هل سنرى منكم مثل هذا الجهد لإثبات أنّ الإسلامَ براءٌ من جرائم حكّام آل سعود المتعلّقة بتقطيع خاشقجي وقمع الحريّات واعتقال المعارضين والصّامتين، طالما أنّ الإسلام هو المتضرّر في الصّورتين، والتوحّش باسم الدّين هو نفسه في الحالتين؟!

وهل سنرى جهود مؤسسّات العلماء والدّعاة في إثبات الفصل بين نظام الحكم في السّعوديّة وسلوكه وتصرّفاته؛ وبين الإسلام، وعدم تمثيل هذا النّظام للإسلام شريعة ومنهاجا، كما عملوا جاهدين لإثبات هذا الفصل في عشرات المؤلّفات والبرامج بين الإسلام وداعش؟!

إنَّ صمت العلماء عن فصل الشريعة عن أدناس مدّعيها، وحضور الخطاب الشرعيّ المدلّس الذي يعدّ محمّد بن سلمان "الشّاب الطَّمُوح المُحَدَّث المُلهَم" عنوانا لحماية الدّين وتمثيل الشّريعة؛ لهو خطر يتجاوز حدود الجغرافيا عرضا ويتمدّد في دواخل القناعات عمقا، وهو ما لن تتوقّف آثارُه عند نظرة الشّعوب إلى السّعوديّة فحسب، بل إلى الإسلام كلّه والمسلمين أجمعين.

إنَّ الجهود الفكريّة والإعلاميّة والعلميّة والدّعويّة التي يجبُ أن تُستَنفَر لإثبات الفصل بين الإسلام بوصفه دين الإنسانيّة، وبين نظام الحكم في السّعوديّة، ونزع الصّفة الإسلاميّة عنه؛ لا تقلّ أهميّة على الإطلاق عن الجهود المبذولة لإدانة المجرمين ونزع الشّرعيّة السياسيّة عن الحاكم القاتل، وإلَّا سيغدو المنشار شعارا إسلاميّا، ويصبح تقطيع الأوصال غدرا سمة لازمة للمسلمين الذي لا ينقصهم المزيد من المصائب.