قضايا وآراء

الاهتمام بخاشقجي ليس خيانة لغيره

1300x600
مع احتدام المعركة لإجلاء الحقيقة الكاملة في جريمة قتل الكاتب الصحفي جمال خاشقجي والمطالبة بالعدالة الكاملة له، وضرورة الكشف عن جثته، ومحاكمة قتلته من أصغر رأس إلى أكبر رأس، تطل علينا بعض الأصوات المغتاظة من هذا الاهتمام الكبير بخاشقجي، مدعية أن الأولى بالاهتمام هم المناضلون الحقيقيون خلف القضبان الذين كانوا وقودا لثورات الحرية، وكانوا أيضا سدودا في مواجهة الثورات المضادة، ويدفعون الآن ثمنا باهضا من حريتهم وحياتهم.

لا شك في أن هؤلاء الأبطال يستحقون بالطبع منا الكثير والكثير، ورغم أننا لم نبخل يوما بجهد دفاعا عنهم، إلا أننا نشعر دوما بالتقصير في حقهم، ونلتمس المعذرة منهم، لكن اعتبار الحماس لقضية خاشقجي وبذل الجهد لتحقيق العدالة له خيانة لهؤلاء الأبطال، سواء في مصر أو سوريا أو اليمن أو فلسطين.. الخ ؛هو "تزيُد" في غير موضعه، وهو قصور في فهم طبيعة المعركة وتشعبها واتساعها.

فالذي قتل خاشقجي هو نفسه الذي موّل الانقلاب الغاشم في مصر، ورعاه، وتحرك سياسيا لتوفير الدعم الدولي له، وهو الذي شجعه على قتل المصريين المسالمين في رابعة والنهضة والقائد إبرهيم والدقي، وغيرها من الأماكن، وهو الذي شجعه على سجن وتعذيب وملاحقة مئات الآلاف من المصريين، وهو ذاته الذي صنف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية ودفع مليارات الدولارات لعواصم كبرى لتفعل الشيء ذاته، وأكثر من هذا، فهو الذي يسهم في تعطيش المصريين من خلال ملياراته الداعمة لبناء سد النهضة الإثيوبي.

الذي قتل خاشقجي هو الذي قتل آلاف اليمينيين في حرب عبثية لا هدف لها سوى استعراض قوته وسطوته، وفرض نفسه ملكا على بلاده، بعد أن تخلص من الورثة الأساسيين للملك حسب قواعد العائلة، وهو نفسه الذي لا يزال يدك المدن اليمينة بحمم نيرانه، ويسقط البيوت على رؤوس ساكنيها، دون رادع من دين أو ضمير، وهو نفسه الذي هدد بالتعاون مع إيران ذاتها التي يحاربها في اليمن؛ لو فرض عليه الغرب عقوبات، وهو ما يثبت أن معركته لا تتمتع بأي أساس أخلاقي أو سياسي.

الذي قتل خاشقجي هو الذي يمد طوق النجاة للصهاينة عبر تنازلات مهينة عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وعبر لقاءات سرية وعلنية مع قادة الكيان الصهيوني الذين وجدوا فيه ضالتهم المنشودة منذ 50 عاما، حسب قولهم.

الذي قتل خاشقجي هو الذي ورط السوريين في حرب غير متكافئة مع نظام بشار المجرم، ثم تركهم في منتصف المعركة يلملمون أشلاء شهدائهم وجرحاهم، وهو الذي زرع الفتن والخلافات بين فصائلهم، مستقطبا البعض ومبعدا البعض، ومجندا للبعض لتنفيذ أجندته وليس أجندة الثورة السورية.

الذي قتل خاشقجي هو الذي يحاصر قطر، صاحبة الأيادي البيضاء على ثورات الربيع العربي، وصاحبة "الجزيرة" صوت المظلومين في العالم العربي، وصاحبة المشاريع العمرانية في غزة وغيرها.

الذي قتل خاشقجي هو الذي يدعم حفتر ليبيا بالمال والسلاح والإسناد الدولي، حتى يمكنه من احتلال طرابلس العاصمة، وحتى يجهز على الثورة الليبية التي لا تزال تقاوم هذه المؤامرات بضراوة.

الذي قتل خاشقجي هو الذي يحارب الفكر الإسلامي المعتدل أينما وجد، وهو الذي حبس عشرات الدعاة والنشطاء السلميين، وهو الذي ارتمى في أحضان أبو إيفانكا، مقدما له أكبر جزية في التاريخ (450 مليار دولار) كانت كفيلة بتحقيق رغد العيش للشعوب المسلمة كلها.

الذي قتل خاشقجي هو الذي يؤسس الآن حلفا عسكريا (الناتو العربي) بدعوى محاربة إيران وليس إسرائيل، بل إن إسرائيل ستكون جزءا من هذا الحلف الذي لا يستهدف إيران فقط، بل يستهدف تركيا أيضا، وكل دولة عربية أو مسلمة تمتلك قرارها المستقل.

من قتل خاشقجي يستحق أن تتركز جهود كل الأحرار الآن لمواجهته، وكسب هذه الجولة ضده، حتى لا يخرج منها وحشا كاسرا، وأكثر جرما وفتكا بشعبه وتأمرا على من حوله.

من الخطا تشتيت جهود المقاومين وهي ضعيفة في جبهات متعددة، مع  دول تمتلك ميزانيات ضخمة. هذه معركة عادلة تقف فيها شعوب العالم الحر كله في مواجهة القاتل السفاح، فلا يصح الانصراف عنها أو التشويش عليها بمعارك أخرى، ممتدة بطبيعتها، ولا تنفصل في اصلها عنها.

هذه معركة لا تخص شخص جمال خاشقجي فقط، وإن اندلعت بسبب قتله والتمثيل بجثته، بل هي في الأساس ضد نظام جاهلي، بل ضد منظومة إقليمية تقتل وتعذب وتخطف وتخفى وتلاحق دعاة الحرية، وإذا نجا هذا النظام وتلك المنظومة من هذه المعركة أو خرج منها بدون "عاهة مستديمة"، فسوف يكون أكثر تغولا وأكثر فتكا، ولن يقتصر شره على أبناء وطنه، بل سيتعداهم إلى غيرهم من الشعوب، وستنتقل شروره عبر المحيطات والبحار.

مرة أخرى، خوض هذه المعركة مع كل أحرار العالم لا يعني التخلي عن قضايانا الأخرى ومعتقلينا ومطاردينا الآخرين، بل إن تحقيق انتصار في هذه المعركة هو انتصار لهؤلاء جميعا، وسيكون سببا في نيلهم حريتهم، وانهيار الأنظمة المدعومة بالمال السعودي، وعلى رأسها النظام المصري، وسيكون سببا في تحرير الكثير من الشعوب العربية، وفي مقدمتها الشعب السعودي نفسه.

هذه معركة فتحت بابا جديدا لإعادة اكتشاف أنصار الحرية في كل مكان، والتواصل مع هؤلاء المتضامنين من كل مكان، والتعاون معهم في قضايانا الأخرى العادلة، والتي ستنال دعمهم ومؤازرتهم. وبمجرد الانتهاء من قضية خاشقجي بعد تحقيق العدالة له، وقطع دابر المجرمين الحقيقيين، من الطبيعي أن يتم ترتيب حملات ضد بقية القتلة والسفاحين في كل مكان؛ حتى يتخلص العالم من شرورهم.