كتاب عربي 21

على علّاتها تبقى الديمقراطية ناجعة

1300x600
رغم عدم وجود تعريف قياسي للديمقراطية، إلا أن التعريفات جميعها تركز على "الاختيار والانتخاب الحر"؛ ولكنها لا تشترط نتيجة معينة للممارسة الديمقراطية، التي صارت في كثير من البلدان، تقتصر على ذهاب الناخبين إلى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم في برلمانات، ليقوموا بدورهم باختيار أعضاء الحكومة، ومحاسبتهم، ووضع القوانين والتشريعات حول مختلف الشؤون.

ولكن الشؤون التي يُعنى بها أهل السلطان، كثيرا ما تكون غير ما يشتهي المواطنون، بمعنى أن أدوات الديمقراطية، قد تستخدم لخدمة مصالح فرد أو نخبة، وليس مصالح الأغلبية، وهو ما يهزم أحد أهم ركائز الديمقراطية ـ حكم الأغلبية.

مطية للأيديولوجيا

ولهذا ظلت الديمقراطية في أحوال كثيرة، مطية لذوي النزعات الديكتاتورية، فهتلر وصل إلى الحكم عبر صناديق الانتخابات، ثم أسس دولة بوليسية تفشى قمعها عبر القارة الأوروبية، وتطلب تفكيكها التضحية بأرواح عشرات الملايين.

وهناك فرديناند ماركوس ديكتاتور الفلبين، الذي فاز بالرئاسة في انتخابات قيل إنها حرة، وهناك هوغو تشافيز في فنزويلا، وخليفته نيكولاس مادورو، وكلاهما تسنم الرئاسة عبر الانتخاب المباشر، وكلاهما استخدم الأجهزة الأمنية لقمع الخصوم، وبدد المليارات على غير أهل فنزويلا، فكانا مثل نبع عذاري، الذي يعيب عليه أهل البحرين أنه يسقي البعيد، ولا يستفيد منه من يعيشون بالقرب منه.

وهل أتت الطامة الكبرى المتمثلة في صعود دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة إلا عبر أدوات الديمقراطية؟

ولكن وكما قال ونستون تشيرتشل أشهر رئيس حكومة لبريطانيا: لا يدعي أحد كمال الديمقراطية، فهي أسوأ أسلوب حكم ولكنها أقل سوءاً من بقية نظم الحكم.

تعني الديمقراطية في جوهرها العدالة وحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان وحكم القانون، ولكنها كثيرا ما تخدم طموحات وتطلعات نخب معينة، بل كانت الديمقراطية حتى في البلدان التي مارستها لعقود طويلة حتى صارت ثابتة ثوابت الحياة السياسية، أداة لاتخاذ قرارات وانتهاج سياسات خاطئة، فكما قال الفيلسوفان سقراط وأفلاطون فإن الدهماء/ الغوغاء (وهي الكلمة التي استخدماها) هم من يتم تسييرهم كقطعان لتكريس الديمقراطية الأرستقراطية، أو ديكتاتورية الأغلبية.

(انظر كيف انساقت الأغلبية في بريطانيا وراء خطاب شعبوي شوفيني فاختارت مغادرة الاتحاد الأوروبي ثم صار الأغلبية تتباكى على الخروج باهظ الثمن من الاتحاد الأوروبي)

وأن تؤدي الممارسة الديمقراطية إلى وصول ذوي النزعات الديكتاتورية إلى مراقي السلطة، أو أن توصل رجلا مثل ترامب إلى قمة الهرم التنفيذي، في بلد مؤثر كالولايات المتحدة، أمور لا تعاب عليها الديمقراطية، بل العيب في غياب الوعي الديمقراطي عند  الناخب، كما أنه في من يستغلون الديمقراطية لتنفيذ أجندات شخصية، أو اجتماعية؛ فالديمقراطية ليست أيديولوجيا ولكنها تصلح مطية لأهل الأيديولوجيا.

والديمقراطية لا تختلف كثيرا عن الامتحانات المدرسية، التي صارت المعيار العالمي لقياس أداء الطلاب، وتحديد أهليتهم لمواصلة التعليم عبر مختلف المراحل؛ ومن الثابت أن الامتحانات تظلم الكثير من الطلاب، وأنها تجعل المعلمين يمارسون التدريس، ليس لغرس الإبداع والتفكير الحر في الطلاب، بل لإعدادهم لخوض الامتحانات، بدليل أن المدارس التي يحرز طلابها درجات عالية في الامتحانات الحاسمة التي تتم على نطاق قطر ما، هي التي تفوز بالشهرة والثناء وتفوز أسرتها بالتقدير المادي والمعنوي، ولا أحد يعبأ بالمدرسة التي كانت ساهمت في نبوغ سين من الناس لأن النتائج العامة لمدرسته لم تكن "مشرفة".

وفي كل بلد عربي ترتفع فيه الأصوات مطالبة بالديمقراطية، يتعالى الوعيد والتنديد بالمعجبين بالثقافات المستوردة، التي "لا تناسب عاداتنا وموروثاتنا وتقاليدنا"، وتتردد على ألسنة من يريدون تكريس الثقافة والتقاليد والممارسات القمعية، عبارة "ديمقراطية وستمنستر" وكأنها سبة لا تليق بالنشامى والماجدات، ولكن لا بأس أو تثريب في ائتمار مرددي تلك العبارة في العمالة المكشوفة لوستمنستر.

الترياق العربي المضاد

وكان الترياق العربي الرسمي المضاد لديمقراطية وستمنستر وأثينا القديمة، في الدول التي تزعم أنها تسعى لتحديث أنظمة حكمها، وتكريس المشاركة الشعبية في أمور الحكم، هو الاستفتاء، حيث يخوض الرئيس الملهم في غالب الأحوال المنافسة ضد نفسه، أو يأتي بطراطير لينافسوه، ولكن وعندما يقرر شخص ما بجدية خوض انتخابات رئاسية، حتى وهو يعرف أن نتيجتها محسومة لصالح الرئيس المزمن، كما حدث عندما رشح أيمن نور نفسه ضد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، يتم اعتقاله متهما بتزوير توقيعات خمسة آلاف ناخب، كما يقضي شرط الترشح، ولا يشفع لأيمن أن أكثر من نصف مليون شخص صوتوا له، ربما ليس حبا فيه بل كرها لمبارك.

الديمقراطية كالزمان الذي نعيبه والعيب فينا، فمهما قادت إلى نتائج مخيبة للآمال، فإنها ستبقى ـ ربما لأبد الدهر ـ أنجع وسيلة لضمان، ولو الحد الأدنى من كرامة المواطن وحقه في العيش الكريم، وعلاج عيوب الديمقراطية يكون بالمزيد من الديمقراطية، والمزيد من الديمقراطية يكون بازدياد وعي الشعوب، وحسن اختيارها لممثليها وحكامها، لضمان عدم استخدام أحدهم صناديق الاقتراع حصان طروادة، يوصله إلى القصر الرئاسي، ليحوله إلى مقر لملك عضوض، تتوارثه أسرته، وفي عالمنا العربي شواهد كثيرة على ذلك يا أولي الألباب.