قضايا وآراء

هل أسدل الستار عن فانتازيا شفيق؟

1300x600

أصبح كل شيء في مصر يسير عبثيا، حتى أصبحت العبثية هي عنوان المرحلة في مصر ما بعد انقلاب 2013، وانفلتت الأمور، بل انفلتت العقول، وأصبح كل ما هو خارج نطاق العقل والمنطق يقال ويصدقه الشعب المصري، الذي جرفوا عقله تماما، وأجروا له عملية مسح مخ، ليصبح في حالة تنويم مغناطيسي!! هكذا أصبح حال المصريين، إلا من رحم ربي، وظل محتفظا بعقله، والتي أصبحت تهمة في حد ذاتها يحاسب عليها صاحبها!!

وآخر تلك العبثيات في السيرك المصري؛ ظهور الفريق أحمد شفيق، المرشح الخاسر أمام الدكتور محمد مرسي في أول انتخابات رئاسية حرة ونزيهة في تاريخ مصر، ليصبح الرئيس محمد مرسي أول رئيس مدني منتخب في مصر منذ سبعة آلاف عام، وليحمل الفريق أحمد شفيق حقائبه بكل مقتنياته الثمينة، وليهرب في جنح الليل إلى دولة "المؤامرات"، بإيعاز من المجلس العسكري الذي كان يدير شؤون البلاد في تلك الفترة، كي لا ينتقم منه الإخوان بعد وصولهم إلى الحكم.. هكذا صوروا له الحال، وهم في الحقيقة كانوا يريدون التخلص منه؛ لأنهم يعدون شخصا آخر من داخلهم لرئاسة البلاد، فهم لن يقبلوا أن يرأسهم شخص مدني، ولن يسمحوا بهدم دولتهم التي بنوها منذ عام 1952، وأن فترة الرئيس المدني لن تطول أكثر من عام يضعون أمامه كل العقبات والعراقيل التي لا تمكنه من الحكم، ويحكمون هم من وراء ستار، ويعدون المؤامرات ضده، ويساعدهم في ذلك الفريق الهارب، أو وديعة المجلس العسكري لدى الإمارات، الذي تفاخر في لقاء تلفزيوني منذ أكثر من ثلاثة أعوام؛ بأنه كان يضع الخطة مع المسؤول الأمريكي للانقلاب على الرئيس الشرعي محمد مرسى، من نفس بيته الذي يقيم فيه في دبي، وكان يعتب على النظام في مصر أنه لم يقدر جهوده التي بذلها من أجل إسقاط الإخوان..

 

فالرجل كان في انتظار المقابل أمام خدماته الجليلة، ولكن النظام، الذي كان على رأسه طرطور لا يحكم، ولكنه ينفذ ما يُطلب منه، يرى أن الذي أسقط الإخوان هو ذلك الشخص الداهية الذي أدار المشهد كله من وراء ستار، والذي كان على اتصال يومي على مدار ستة أشهر قبل الانقلاب بوزير الدفاع الأمريكي، مؤكدا له أنه لا فائدة من الإخوان، وأنه لا بد من إزاحتهم، كما اعترف هو بنفسه بذلك بعد الانقلاب في حديث لصحيفة أمريكية، وهو الذي حرك المخابرات المصرية التي أنشأت حركة تمرد، بتمويل من الإمارات.. كان شفيق يشعر بالغبن وبحالة عدم الوفاء ممن ادعوا أنهم يحمونه وأخرجوه معززا مكرما من صالة كبار الزوار، ولكن طالت غربته أو عمرته التي ادعى - عقب سفره مباشرة - أنه سافر لأدائها، مغفلا أن الكعبة في مكة وليست في دبي!

كان شفيق يطمح أن يترشح للرئاسة عقب الانقلاب، ولكن عندما رأى المشهد معدا لغيره، وأن المسرحية قد انتهى عرضها قبل أن تبدأ، فأسدل الستار عليها وبقي أن يصفق المتفرجون، عدل عن نيته للترشح، بل إنه أجبر أن يؤيد السيسي في ترشحه، بعد أن سرب له شريط قبل أن ينتخب السيسي؛ أنكر فيه نزاهة الانتخابات القادمة، واعتبر أن كل شيء معد سلفا، والصناديق مجهزة مسبقا، وكل الأوضاع مرتبة لفوز السيسي، فلا يمكن أن ينزل انتخابات على هذا النحو. وانتقد بشدة أن ترشحه المؤسسة العسكرية، وتقحم نفسها في الانتخابات بهذا الشكل السافر. وقال: "دول ما بيفهموش في السياسة"..

 

فما الذي تغير فجأة؛ والأوضاع في مصر كما هي؟ بل إن الأوضاع ازدادت توغلا وتوحشا، حيث تسيطر المؤسسة العسكرية على كل مناحي الحياة في البلاد، والجميع يعلم أن الانتخابات القادمة لن تكون نزيهة، وما هي إلا مسرحية هزلية تحتاج فقط لكومبارس أو محلل ليحلل للسيسي الفوز بمدة رئاسية ثانية، كما حدث في المدة الأولى مع حمدين صباحى، وقد أعدوا هذا الكومبارس من الآن، وهو المحامي خالد على والذي يواجه قضية فعل فاضح كي يساوموه عليها. ولكن الفريق أحمد شفيق لن يكون كومبارسا بطبيعة الحال في أي انتخابات، فهو رقم صعب وله جماهيره ومؤيدوه، خاصة من دولة مبارك، من الحزب الوطني ورجال الأعمال.. نعود لسؤالنا السابق: ما الذي تغير فجأة حتى يقرر شفيق ترشحه للرئاسة من دولة "المؤامرات"، الراعية للانقلاب، والتي تتصرف على مدى السنوات الخمس الماضية، وكأن جمهورية مصر العربية هي الإمارة الثامنة في دولتها؟!

لا شك أن الإعلان المفاجئ هذا قد أحدث بلبلة وردود فعل على جميع الأصعدة، سواء الرسمية منها أو المعارضة. وبدا جليا مدى هشاشة الاثنين، سواء النظام الذي ارتعدت فرائصه، أو المعارضة الهشة التي بدت أكثر انقساما حول نفسها، وإن ادعت أنه حرك المياه الراكدة في الحياة السياسية! فما أن أعلن شفيق عزمه خوض الانتخابات الرئاسية، إلا وقد انهالت عليه الأذرع الإعلامية للنظام بالهجوم الفاجر، وفتح ملفات فساد خاصة به، وعلاقات نسائية له. وبدا الكل يردد نفس الكلام، فـ"الإسكربت" يخرج من مكان واحد يدير القنوات الفضائية جميعها، ليوزعها عليهم، حيث لا خروج عن النص، ولا حتى اجتهاد ذاتي من مقدم البرنامج لتجويد نفس المعنى!

وانقسمت المعارضة على نفسها، فمنهم النبلاء الذين لا يزالون قابضين على مبادئ ثورة يناير، ولم تلونهم الأيام، ولم تلوثهم متاع الحياة الدنيا، ولم تزغ أبصارهم ولا قلوبهم عن مصر التي يريدونها، مصر الحرية والكرامة والعدالة.. هؤلاء يرفضون الانتخابات الرئاسية من أساسها، فلدينا رئيس منتخب مختطف، فضلا على أن ترشح شفيق فيه تحد كبير للثورة، إذ أنه من مخلفات دولة مبارك التي ثاروا ضده وأسقطوه، كما يعتبرونه مسؤولا عن موقعة الجمل التي سقط فيها عشرات الشهداء والمصابين، حيث كان رئيسا للوزراء في ذاك الوقت، بينما رأى آخرون من أطياف المعارضة أنه لا بد أن نكون واقعيين ونغتنم الفرصة، وندعم شفيق، فهو بمثابة طوق النجاة للخروج من الأزمات التي تمر بها البلاد، وخاصة أن للرجل موقفا في قضية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، مؤكدا مصريتهما، كما كان له موقف مستنكر للاتفاقية التي وقعها السيسي مع إثيوبيا والسودان، والتي أضاعت حق مصر التاريخي في مياه النيل.. بل ذهب البعض إلى اعتباره المخلص المنتظر الذي جاء لإجراء مصالحة شاملة في البلاد، وإخراجها من شرنقة الانقسامات والصراعات وإخراج المعتقلين من السجون. وبلغ بهم الأمر أن شبهوه بالرئيس التركي الراحل تورجوت أوزال!! وما هي إلا سويعات قليلة وتحول تورجوت أوزال إلى سعد الحريري، إذ أعلن الفريق شفيق في شريط متلفز بثته قناة الجزيرة؛ عن منعه من السفر من قِبل السلطات الإماراتية، حيث كان ينوي السفر إلى فرنسا وعقد لقاءات مع المصريين في الخارج، ضمن حملته الانتخابية، واعتبر ذلك تدخلا من الإمارات في شؤون مصر الداخلية، وأن هذا لا يليق بدولة كبيرة كمصر! وهذه طرفة تستحق أن تدخل موسوعة جينيتس للغرائب بجدارة! يلوم الإمارات وهي التي مولت الانقلاب لتصنع هذا النظام على عينها وتصطنعه لنفسها، وكان عليها من الشاهدين!!

وهكذا أراد صناع السيرك العبثي أن يصبح شفيق مختطفا من قِبل دولة "المؤامرات"؛ لمنعه من الترشح أمام السيسي، مع ارتفاع وتيرة الهجوم الإعلامي عليه؛ لأنه بث بيانه عبر قناة الجزيرة، مطالبين بمحاكمته.. وهكذا تحول شفيق من بطل لا تجوز محاكمته إبان عهد مرسي؛ إلى مجرم مطلوب للعدالة في عهد السيسي! وليزداد المشهد عبثية أكثر، يتم ترحيله على طائرة خاصة وتسليمه للسلطات المصرية، دون أن يراه أحد من أفراد عائلته، أو من أنصاره الذين توافدوا على المطار لاستقباله، ليبدأ الصراخ الهيستيري على صفحات التواصل الاجتماعي: الفريق شفيق مختف قسريا، ولتبدأ معه موجة من النفاق الاجتماعي من النخب المحنطة التي تدعى أنها ضد شفيق، ولكنها ترفض ما تعرض له من إهانة، بينما صمتت وبلعت ألسنتها عندما قبض على الدكتور هشام قنديل، رئيس الوزراء الأسبق، وهو معصوب العينيين ومقيد اليدين، في صورة تعمدوا نشرها في جميع وسائل الإعلام لمزيد من إهانته. وقد قضى (قنديل) في السجن عاما كاملا بلا تهمة، ولم يتحرك أحد من أصحاب تلك القلوب الرحيمة التي أظهرت إنسانيتها فجأة تجاه شفيق؛ ونسيتها مع عشرات الآلاف من المعتقلين الآخرين، ولم تحرك ساكنا تجاه الرئيس الشرعي محمد مرسي؛ الذي تتعرض حياته للخطر، وهو مهدد بفقدان بصره!!

ويستكمل المشهد عبثيته بظهور شفيق قبل أن يكمل يومه الثاني من الاختفاء، على شاشة إحدى القنوات مع أحد المذيعين، والذي أوقف عن العمل لأكثر من ستة أشهر لأنه أجرى معه مداخلة تلفونية؛ أكد فيها شفيق مصرية تيران وصنافير، ليعلن أنه سيعيد التدقيق في قرار ترشحه للرئاسة، متوجها بالشكر للإمارات على حسن ضيافتها له، كما شكر السيسي أيضا على حسن استقباله له. وليعطي للعبثية رونقا، فلا بد له من الهجوم على الإخوان وقطر وقناة الجزيرة، مدعيا قرصنتها لتلفونه الخاص وسرقة التسجيل!!

ظهور شفيق على هذه الصورة المهينة، والتي بدا فيها أنه استسلم لضغوط مورست عليه وأملت عليه ما يقوله، هز صورته وصدم جمهوره الذي كان يستعد لأن يحوله لمانديلا! وبدا المقاتل، كما كان دائما يقول عن نفسه، مهزوما مقهورا مذلولا!! ولك أن تقارن بين موقفه المتخاذل هذا بموقف الرئيس محمد مرسي الصامد في سجونهم منذ خمس سنوات، ولم يحد عن موقفه، ولم يقبل بالدنية، ولم ينزل على رأى الفسدة، لتعرف أن للبطولة رجالا وللصمود رجالا وللتاريخ رجالا..

لا شك أن الفريق شفيق كان ينوي الترشح، وأن هناك جهة ما شجعته وأوهمته بأنها تدعمه، وأرادت أن تصنع منه بطلا تلتف حوله الجماهير. لكن ولا نستطيع أن نجزم إن كانت تريده حقا أم أرادت أن تلاعب به السيسي، وتبتزه من أجل المزيد من التنازلات. ولكن النظام في مصر انزعج وأبدى امتعاضه، فسارع باسترداد وديعته من الإمارات. وبعدما خرجت (الوديعة) معززة مكرمة من صالة كبار الزوار، عادت ذليلة مُهانة إلى مكان مجهول تُحدد فيها إقامتها!!

ويبقى السؤال: هل حُرق شفيق وأصبح رمادا تتناثره الرياح؟! هل أسدل الستار عليه نهائيا؟! أم أن في الفانتازيا فصولا أخرى لم تكتمل بعد؟ لا تستطيع أن تتخيل شيئا أو تستشرف المستقبل في مصر، فقد فاقت عبثيته كل تخيل، وكل تصور منطقي، فهو خارج نطاق المنطق.. هذا هو حال مصر الآن للأسف الشديد!