كتاب عربي 21

الأبنودي .. الشاعر العظيم والمثقف الرجيم!!

محمد طلبة رضوان
1300x600
1300x600
ليه كده يا خال؟
- يا عم روح كده .. البلد دي احنا اللي عجزنا فيها وفاهمينها
والسؤال لصديقي الشاعر (...) المقرب من مجلس الخال بالإسماعيلية، أما الإجابة فهي إجابة "الأبنودي"، الشاهد: لا فائدة، مصر للعساكر مهما فعلنا، المعنى نفسه يؤكده محمد حسنين هيكل مع لميس الحديدي: القوة في هذا البلد للجيش، مهما فعلتم.

لو كان اليأس جوابا عن لماذا فعلها الخال، فأين نجد الإجابة عن كيف فعلها؟

***

المشهد الأخير هو كل ما يتذكره الشباب الآن، الشاعر الصعيدي يقف مبتسما أمام الكاميرا، تعانق يده يد الجنرال القاتل، تبدو الدماء في خيال الصورة وظلالها، لا تعرف من أي يد تنز!

مربعاته التحريضية على المتظاهرين في رابعة، والنهضة، وتلك التي تبرر قتلهم بعد المجزرة، وتسخر ممن يتألمون لهم، وقصيدته التي يتهم الثورة فيها بالمؤامرة والثوار بالمربوطين بسحر التآمر!!

هل هذا هو كل شيء؟ لا .. الأبنودي شاعر ثورة، مشروع ثورة، حكاية ثورة .. في الشكل، في المضامين، في الانحيازات الفنية، في جرأة التمصير، الجنوبي الصعيدي الذي جاء من بلاده ليقلب الدنيا مع رشدي وبليغ، خلاصة التجربة المصرية في الغناء، تجدها في كلماته، من أراد أن يسمع غناء أصيلا فلديه الكثير، ومن أراد أن يسمع غناء جميلا فلديه الكثير، ومن أراد أن يسمع مصر، فليسمع الأبنودي.

يا وجع القلب! .. كيف له أن يجمع في قلبه كل هذه المتناقضات، أن يغني للناس طوال حياته، ثم يأمر بقتلهم، من أجلهم؟ كيف له  أن يقف في خندقنا أيامه وسنينه ثم ينقلب خاسرا من سماوات الخلود إلى حفرة الموت؟ كيف له أن يفعل مهما استبد به اليأس، أو غلبت عليه مصالحه؟ كيف ...

***
الأبنودي والداخلية:

يا عم الظابط أنت كداب
واللي بعتك كداب
مش بالذل حشوفكم غير
أو استرجى منكم خير
أنتوا كلاب الحاكم .. وإحنا الطير
أنتوا التوقيف .. وإحنا السير
أنتوا لصوص القوت .. وإحنا بنبني بيوت
إحنا الصوت
ساعة ما تحبوا الدنيا سكوت (!)

***
الأبنودي ... ويناير!

عواجيز شداد .. مسعورين .. أكلوا بلادنا أكل
ويشبههوا بعضهم .. نهم .. وخسة وشكل
طلع الشباب البديع .. قلبوا خريفها ربيع
وحققوا المعجزة .. صحوا القتيل م القتل

***
الأبنودي والمتلونين!

وحاسبوا قوي م الديابة اللي في وسطيكم
والا تبقى الخيانة منكم فيكم
الضحكة ع البق بس الرك ع النيات
فيهم عدوين اشد من اللي حواليكم

***
الأبنودي والدولة العميقة!!

أول كلامي .. أهني الشعب أبو الثوار
اللي خلق ثورته.. تحت الرصاص والنار
اللي فرض كلمته .. ع الحاكم الجبار
ساقهم طابور للعدالة .. للندالة عقاب
فضح جميع اللصوص .. ورا شيخهم الكداب
طلع حاميها حراميها .. طلع نصاب
الملعونين – لا شماتة – في كل لوح وكتاب
وع العدالة البطيئة .. لينا ألف عتاب
فساد بيلضم رئيس بوزير على نواب
اترصوا كما سور .. حجب عن مصر أي نهار

***
الأبنودي والعساكر

يا اللي حاكمني ما صدقت إني صدقتك
يومها احتميت بي، وأنا اتداريت في دبابتك
وفرحت غنيت هتفت وطرت .. وكتبتك
الثورة دي قورتي .. سنابلها من خيري
وانت في ساعة الحوار .. تخلطني مع غيري
ريحك مصرة .. أتوه في السرب عن طيري
جايين سوا تسرقوا ميداني وتحريري
وبيك .. بغيرك .. هاقول يا مركبي سيري
شعللنا احنا الوطن .. وغيرنا بيطفوه
زندي – صدقني – مش محتاج لسبابتك

***
الأبنودي والتحريض على العنف!!!

وجي يا بلد الحرايق واصرخي بجنون
واحرقيها مدن وكروم وناس وسجون
ملعون أبوها الحمامة أم غصن زتون
معمولة لاجل الضحايا يصدقوا الجلاد

***

ما الذي يدفع شاعرا كتب كل هذا أن ينقلب على عقبيه، ويصف الثورة بالمؤامرة، والشباب الثوري بالمغيب، ويساند مجرما طاغية دار في الناس تقتيلا في الشوارع والميادين كي يحكمهم؟ من طبائع الاستبداد أن يفقد بعض الناس إيمانهم بكل قيمة: بالله، بالحق، بالرغبة في التغيير، بتصديق الحلم، بالسلمية، بالجدوى ... بكل شيء.

لقد راهن الأبنودي في غير مرحلة من حياته كثيرا على الناس، كتب عن ثورتهم في "الجزر والمد" أيام السادات، كتب عقب اغتيال السادات – ما يشير إلى أنه عمل نضالي : كل القضاة زايلين والمتهم "خالد" !!، وأهداها لكل المظلومين، عاد ليهديها إلى خالد سعيد في أيامنا، بيد أنه في الطريق تعثر كثيرا، ولعب – هو نفسه – مع الأنظمة المتعاقبة لعبة الجزر والمد!!

أن تكون شاعر الناس في مصر، هذا ممكن، ولكن في غرفة نومك، أما أن يصل صوتك للناس، فهذا لا يمكن إلا مع الدولة، وأجهزتها، كل النوافذ في مصر مغلقة، حتى بعد مواقع التواصل، اصرخ بين آلاف الأصوات، واظفر بمن يسمعك، أما الميكروفون الذي يسمعه الملايين قمع السلطة دون غيرها.

ثمن قاس، من البعد، والتهميش، وقلة القيمة، رغم وجودها، والفقر، رغم امتلاك كل مقومات الترقي في السلم الاجتماعي، وموت الحماس، وغير ذلك كثير، ثمن صعب يدفعه كل من اختار أن يواجه هذه الأنظمة الفاسدة إلى النهاية، ليس معنى ذلك أن أحدا لم يفعل، إلا أن الندرة بين سياقها والحال كذلك، وسل من جرب، ومن لا ينوي أن ينكص على عقبيه، الثمن فادح، وفي الطريق يسقط الكثيرون، يرتكبون "الأخطاء المقصودة" لأنه لا سبيل لتصحيح ولو كان غير مقصود!!

لا مجال للتبرير، في القتل، أو في بيع الضمائر، أو تأجيرها، إلا أن العاهرة التي تختار أن تبيع شرفها ثمنا لخبز يومها ليست مجرمة وحدها، نعم لقد اختارت، وهي مسؤولة عن هذا الاختيار، لكنها لو كانت بنت مجتمعا أكثر إنسانية، وانحيازا لبشر مسحوقين تحت عجلاته، لكان لها شأن آخر، في الغالب، بعضهم يفضلن رغم الخبز، والكفاية أن يكن عاهرات، هذا شأن آخر، يصعب الفصل فيه وقد اختلط هذا بذاك، اختلاط اليورانيوم بمياه النيل!!

***

عن أَنَسٍ رضى الله عنه قَالَ:  كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: 
يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ!
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ!، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ.

كنت وأنا لم أزل صغيرا مثل "أنس" لا أفهم معنى أن يتحول قلبي عما صدقته وآمنت به، وامتلأت به دفئا ووعيا، لطالما تعاملت مع الدعاء بشيء من النمطية، تأدية الواجب، أقول لكنني أومن في قرارة نفسي أن شيئا من هذا لن يحدث، سأظل ثابتا، طبعا!

تجتاحنا التجارب، وتقلبنا، وتفرز معادننا وقناعاتنا، لم يزل القلب على الوعد، إلا أنني فهمت، الآن فهمت.

***

مات الأبنودي، مات الشاعر العظيم، والمثقف الرجيم، مات ربابة الثورة، وقافية جلاديها، آهة الفلاحين، وقهقهة ناهبي قمحهم، ضحكة المساجين، ولا مبالاة سجانهم!

هل آمن الأبنودي بالثورة ثم كفر، أم أنه لعب على كل الحبال ليصل؟ أقول إنه أصبح مؤمنا بها وأمسى كافرا، أتحدث عن الثورة والناس، يحدث أن يتغير كل شيء بين قافية وضحاها، بيننا من فعلوا، من واجهوا الموت بصدورهم، ثم تراجعوا ليتركوه لرفاقهم، ويتفرغوا هم للفرجة، أو للتواؤمات والمكاسب، ثمة من يتخذون من اليأس والتيئيس الآن سلما لحفرة التردي والعدم، فصائل من اليمين واليسار على اختلافهم الفكري، كلهم الآن "الأبنودي"، وإن لم تسعفهم القوافي!

مات "الخال" يوم عاش لغير ناسه وثورته، مات مقتولا برصاصات العساكر في قلوب "الشباب البديع"، الممتلئة بعظيم أشعاره! 

حاقولها بالمكشوف..

خايف أموت من غير ما أشوف
تغير الظروف
تغير الوشوش وتغير الصنوف
والمحدوفين ورا ...
متبسين في أول الصفوف
خايف أموت وتموت معايا الفكرة
لا ينتصر كل اللي حبيته
ولا يتهزم كل اللي كنت أكره
اتخيلوا الحسرة
اتخيلوا الحسرة!
التعليقات (6)
أسمراني
الخميس، 23-04-2015 08:55 ص
العبرة بالخواتيم وليست بالأعمال فعن الرَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ "، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: مَا اسْتَعْمَلَهُ؟ قَالَ: " يَهْدِيهِ اللَّهُ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَى ذَلِكَ
عاطف الصغير
الأربعاء، 22-04-2015 11:18 م
الموضوع ببساطة . مات الخال .. لعيب .. على كل الحبال فلقد حرص .. الخال ان يلون نفسه حسبا للظروف ... فلبس مع كل عصر .. ما يناسبه من جلد .. هذا هو الفارق .. بين من هو اصيل في مبادئه وكتاباته واشعاره ومن من .. يدعي .. الثورية .. والحرية اتضح ان اغلبهم .. عبيدا ... لبسوا لباس الحرية .. لفترة .. ثم خلعوا اللباس حينما عرفوا انهم ... سيدفعون .. بدلا من ان يقبضون
الخال
الأربعاء، 22-04-2015 09:10 م
مات الخال والخونه معظمهم في السجون الناس اللي ماليها وطن ولا ارض اعوذ بالله منكم
أسماء مهران
الأربعاء، 22-04-2015 03:58 م
رائع جداً ناهيك عن الفكرة و سموها لكن لغتك أطربتني
سعيد الشيخ
الأربعاء، 22-04-2015 02:52 م
ما شاء الله اكثر من رائع