كتاب عربي 21

في انتظار ثورة الصدفة

محمد طلبة رضوان
1300x600
1300x600
يتصور بعض أصدقائنا أن يناير كان صدفة، تونس ثارت فثرنا، نجحت فنجحنا، صدرت لنا التجربة فاستوردنا. هذا التصور حرص إعلام النظام على تأكيده.. لعلكم تتذكرون منظر خالد الغندور، لاعب نادي الزمالك، والإعلامي الرياضي، وهو يضع يديه في وسطه، في دلع ومياصة ويقول إننا خرجنا غيرة من تونس، وبالتالي فالغيرة وحدها والرغبة في التقليد والعدوى دون غيرها يمكن أن تصنع ثورة، وتدفع بالآلاف إلى الشهادة وتزلزل أركان نظام عسكري، وتذهب بمبارك ورجاله إلى السجن، وتأتي بانتخابات حقيقية لأول مرة في تاريخنا الحديث، وحدها الغيرة!

هذه القراءات البسيطة، اللطيفة، الخفيفة على القلب، أسهل في الفهم، والوصول، والتصديق، بلا تعقيد، بلا وجع راس، لكنها توجع القلب والراس وأعضاء أخرى أكثر أهمية، حين نخطو إلى المستقبل ونحن ننتظر ثورة جديدة تأتينا من وراء صدفة غيبية جديدة، وربك كريم...

يناير، شغل ثماني سنوات، على الأقل، بدأ منذ حركة كفاية، ولم ينته إلى اليوم. 50 نفرا أمام دار القضاء العالي في 2003 يهتفون، لأول مرة، بسقوط رأس النظام، باسمه وصفته، ويسخر منهم المارة، قبل إعلام النظام وأجهزته، كما يسخر الإسلاميون من أعدادهم الهايفة، التي لا تتناسب مع حجم معسكر رياضي للإخوان، في إحدى القرى. دارت العجلة وتحول الخمسون إلى ألف، ثم إلى مئة ألف يوم 25 يناير، ثم إلى ملايين.. تعب، وشغل، وفعاليات، وعصيان مدني، حركات سياسية تعمل على الأرض، ورموز تتشكل بفعل فاعل، ومحاضرات في التغيير اللاعنفي، يلقيها من جابوا المحافظات والقرى بحثا عن أمل، ودفعوا من جيوبهم، ووقتهم، لعل وعسى، ثم تأتي ثورة تونس، ويتهيأ الظرف الإقليمي، ويصمد الناس في الشوارع، رغم كل ما لاقوه من عنت.. الجميع يطالبونهم بالرجوع، الأهل مللا، الإعلام كذبا، مبارك تكتيكا، المشايخ والقساوسة نفاقا.. الجميع، ومع ذلك صبروا وتحملوا كل أشكال الضغط من المطالبة بالتردد، إلى التهديد، ثم الاتهام بالعمالة والجاسوسية، فهل سقط مبارك أمام تحملهم وحده؟ دون شك لا، ألف لا، إنما سقط لأن الجيش أراد استثمار صمود الجماهير في الشوارع وتحقيق مكسب سياسي من ورائه. اتفقت المصالح، تنحية مبارك، إيقاف مشروع التوريث، امتصاص غضب الجماهير، والباقي، مهما بدا صعبا، فهو سهل...

ترشح الإخوان لم يكن بداية المشكلة بل نهايتها، مجرد الترشح كتب كلمة النهاية، مجرد تأسيس حزب للجماعة، بعد ثورة، كان جرس الانصراف. بلاد تعاني من حالة انسداد سياسي بسبب تحكم حزب واحد، هو الحزب الوطني، في كل شيء. تشتعل ثورة وتفتح بابا للسماح لأحزاب وحركات سياسية شابة في التشكل، والبناء، تأتي قوة سياسية لا تقل قوة وحجما وانتشارا وإمكانات بشرية ومادية عن الحزب الوطني لتجهز على الحلم، وتعيد "سدادة" الحياة السياسية إلى مكانها وينجبن الهواء داخل الكرة مرة أخرى.. كان من الممكن أن يستمر الوضع على ما هو عليه، لولا أن العساكر اكتشفوا أن الأمر أسهل مما تصوروا بكثير، فلم لا يكون الإجهاز على الثورة تاما ونهائيا وحاسما وقاطعا، ورادعا لأي ثورة جديدة...

الثورات لا تأتي جزافا، ربما تفاجئنا بأوقافها ونتائجها الأولية، المرحلية، التي تبدو دائمة، وهي في حقيقتها عابرة، ما لم يكن لها أساسات وأوتاد، لكنها بالأخير نتاج عمل وجهد، في العقول، قبل الأرض، وعلى الأرض، قبل التطلع إلى السماء وطلب المعونة، أو الصدفة..

وأنت تقرأ هذه الكلمات، التي تكتب مساء الخميس، تكون شمس جمعتك المباركة أوشكت على المغيب، وغاب معها جموع المتظاهرين، وجحافل الثوار التي كان ينتظرها بعض الرفاق، في يوم 31 آب/ أغسطس، للثورة على نظام السيسي وإسقاطه، فلا ثورة ولا يحزنون. ليس لأن الناس لا تريد أن تثور، ولا لأن مبادرة معصوم المهمة، وكلام حمدين المحترم (الكلام وليس حمدين)، ليسا على المستوى المطلوب، ولكن لأن كل ما دار حول الفاعليتين ليس على المستوى المطلوب لتحريك الشارع وإشعال الفتيل، فمن أين تأتي الثورة، ولماذا يتحرك الناس، وإلى أي نقطة، وفي أي اتجاه؟  

إن الإسلاميين، الذين قبلوا دعم شفيق، ومن بعده عنان، في شبه الانتخابات الماضية، رفضوا مبادرة معصوم، وشمتت غالبية قواعدهم في سجنه، لموقفه من 30 حزيران/ يونيو، أما حمدين فما زلنا نحاول إقناع غالبيتهم، ومعهم غير قليل من شبه التيار المدني، بأن مواقفه السابقة لا تعني عدم استغلال مواقفه الحالية، فلا حلول وردية على الإطلاق، والانتهازي الذي تعرفه أحسن من الانتهازي الذي يعرفك ولا تعرفه، يسجنك ولا تسجنه، يقتلك ولا تقتله، وهي بديهيات يعرفها قادتهم، دون شك، لكنها لا تجزي معهم، في حسابات البنوك، والوضع القائم أعلى ربحية، مادية ومظلومية، فلنترك الخشبة في عجلة التاريخ، ولننتظر عرض أفضل....

لن ينجح 31 آب/ أغسطس يا صديقي، وربما سينجح يوما آخر، أقل زخما، وأضعف أسبابا للثورة والغضب، فقط لو اشتغل العاطلون عن الفعل، النائمون عن السياسة، المتربحون من وراء التبلد، سماسرة الدم، وتجار الشعارات، والأمل الكاذب، الذين لم يعد لهم دور سوى "فش" غل القواعد والجماهير بأي كلام فارغ، والحفاظ عليهم في وضع الـ"ولا حاجة"... وحتى يأتي هذا اليوم، إن أتى، فالسيسي باق ويتمدد...
التعليقات (0)