كتب

الكيان الصهيوني والتطهير العرقي في فلسطين.. قراءة في كتاب

يمثل موقف الكاتب "الإسرائيلي" ايلان بابيه من سياسة التطهير العرقي في فلسطين المحتلة، شجاعة تحرس نقاء الضمير وإنسانية الموقف.
يمثل موقف الكاتب "الإسرائيلي" ايلان بابيه من سياسة التطهير العرقي في فلسطين المحتلة، شجاعة تحرس نقاء الضمير وإنسانية الموقف.
الكتاب: التطهير العرقي في فلسطين
الكاتب: المؤرخ "الإسرائيلي" ايلان بابيه، ترجمة: أحمد خليفة
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الأولى 2007، مترجم عن الإنكليزية (يقع في 374 صفحة من الحجم المتوسط)، تم طبع الكتاب في لندن عام 2006، وفي بيروت عام 2007، وفي فلسطين عام 2007.


يشير مصطلح التطهير العرقي إلى الإزالة المنظمة والقسرية لمجموعات عرقية أو دينية من المناطق التي يعيشون فيها. وفيما يتعلق بالتطهير العرقي في فلسطين، فإنَّه بدأ منذ نشأة الكيان الصهيوني في عام 1948، الذي قام بإخلاء السكان الفلسطينيين من أراضيهم عن طريق القتل الجماعي والتهجير القسري، ومحو وإزالة كل ما يثبت الوجود الجسدي والتاريخي والثقافي للشعب الفلسطيني المهجر، وبالتالي محو تاريخهم الثقافي من المنطقة.

في حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني لاقتلاعه من قطاع غزة، وإلقائه في صحراء سيناء، يمثل موقف الكاتب "الإسرائيلي" ايلان بابيه من سياسة التطهير العرقي في فلسطين المحتلة، شجاعة تحرس نقاء الضمير وإنسانية الموقف. فهو رجل الاستقامة المبدئية الذي ينظر إلى جريمة حرب غزة بمنظور جرائم التطهير العرقي التي مارسها الكيان الصهيوني منذ نشأته في عام 1948.

في هذا الكتاب الذي يحمل العنوان التالي: "التطهير العرقي في فلسطين" المتكون من مقدمة و12فصلاً وخاتمة، وصدر باللغة الإنكليزية عن دار "عالم واحد" في لندن، وتمت ترجمته من الإنكليزية  إلى العربية عن طريق مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 2007، ويقع في 374 صفحة من الحجم المتوسط، لمؤلفه المؤرخ "الإسرائيلي" ايلان بابيه، المحاضر في العلوم السياسية في جامعة حيفا، والمدير الأكاديمي لمعهد الدراسات من أجل السلام في جفعات حفيفة، ورئيس معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية في حيفا، وهو مؤلف عدد من الكتب منها (تاريخ فلسطين الحديثة)، و(الشرق الأوسط الحديث) و(المسألة "الإسرائيلية" /الفلسطينية)، في هذا الكتاب يحاول المؤلف أن يبين أن الحركة الصهيونية قد شنت سنة 1948 حرباً على الشعب الفلسطيني لكي تطبق خططها البعيدة المدى للتطهير العرقي، والترويع والقتل وإحراق المساكن لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم.

 البيت الأحمر والإرهاب الصهيوني

بدأ المؤلف كتابه بمقدمة عنوانها: البيت الأحمر، الذي هو مقر قيادة الهاغاناه ويعد من أفضل نماذج البناء في تل أبيب. ومن هذا البيت الأحمر كشف هذا الكتاب كيف جرت عمليات التطهير العرقي في فلسطين سنة 1948، وكيف كان الترحيل والتطهير العرقي جزءاً جوهرياً من استراتيجية الحركة الصهيونية.

وينقض المؤلف الرواية الإسرائيلية عن حرب 1948 ليؤكد أن طرد الفلسطينيين لم يكن مجرد هروب جماعي وطوعي للسكان بل خطة مفصلة جرى وضع اللمسات النهائية عليها في اجتماع عقده دافيد بن  غوريون في تل أبيب يوم 10/3/1948 بحضور عشرة من القادة الصهيونيين، وتضمنت أوامر صريحة لوحدات الهاغاناه باستخدام شتى الأساليب لتنفيذ "الخطة دال" التي وضعتها "إسرائيل" سنة، 1948، وتحتوي على سلسلة منظمة من وسائل التطهير، التي يتطابق كل منها مع الوسائل الواردة في تعريف الأمم المتحدة للتطهير العرقي، كما أنها تشكّل الخلفية للمذابح التي رافقت مرحلة التخطيط إلى مرحلة التنفيذ النهائية، يشكل حسب هذه التعريفات، حالة تطهير عرقي ثابتة.

وتتمثل هذه الخطة في إثارة الرعب، وقصف القرى والمراكز السكنية، وحرق المنازل، وهدم البيوت، وزرع الألغام في الأنقاض لمنع المطرودين من العودة إلى منازلهم. وقد استغرق تنفيذ تلك الخطة ستة أشهر. ومع اكتمال التنفيذ كان نحو 800 ألف فلسطيني قد أُرغموا على الهجرة إلى الدول المجاورة، ودمرت 531 قرية، وأخلي أحد عشر حياً مدنياً من سكانه. وهذه الخطة، بحسب ما يصفها إيلان بـابـيه، تعتبر، من وجهة نظر القانون الدولي، "جريمة ضد الإنسانية" (ص 13).

لا يأمل الكاتب بابيه إخراج المسؤولين الصهاينة من قبورهم لمحاكمتهم؛ إنما يود أن يكشف ما تختزنه الأراشيف. إنَّ استعمال مؤشر التطهير العرقي يمكّن المرء بسهولة من اختراق عباءة التعقيدات التي يلفع الديبلوماسيون الإسرائيليون الحقائق بها بصورة شبه غريزية والتي يختبئ الأكاديميون الإسرائيليون تحتها عندما يتصدون للمحاولات الخارجية لانتقاد الصهيونية، أو الدولة اليهودية.... ومنذ أن بدأت الولايات المتحدة استعدادها لتبني هذه المقاربة المشوهة والقبول بالغطرسة الكامنة وراءها (ص 8).

وهذا الكتاب ليس كتاباً دعائياً أو تحريضياً، لكاتب سياسي متحمس بل ثمرة جهد توثيقي كبير للمؤرخ اليهودي- الدكتور ايلان بابيه أستاذ في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة حيفا، وقد ثارت ثائرة زملائه عليه بحجة أنه معادٍ للصهيونية ومعادٍ لـ"إسرائيل" وانتقل بعد هذا إلى قسم العلوم السياسية في الجامعة نفسها.

يعيش د. بابيه في مدينة طبعون، بين حيفا والناصرة، ويتعرض باستمرار للتهديدات التلفونية من الأوساط العنصرية والترانسفيرية التي تعتبره خائناً لـ"إسرائيل" وعميلاً للفلسطينيين. كما تعرض مرات كثيرة للتهديد بالقتل.

الدكتور إيلان بابيه إنسان مثير جداً لا يعرف الخوف ويعتقد أن المؤرخ يجب أن يأخذ موقفاً أخلاقياً وأيديولوجياً، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالتطهير العرقي والعنصرية واقتلاع شعوب من أوطانها. إن الرصانة الأكاديمية، في نظره، ترتبط بكشف الحقيقة عبر بحث تفصيلي موثَّق ولكن الرصانة الأكاديمية لا تعني أن يكون الباحث كلب صيد عند المؤسسة السياسية والعسكرية لبلاده ومحامياً عن جرائم دولته.

مخطط بن غريون للتطهير العرقي: الخطة دال(د)

قال الدكتور إيلان بابيه، إن استراتيجية الجيش "الإسرائيلي" خلال حرب 1948، كانت تنفيذاً للخطة التي وضعها دافيد بن غوريون و18 من كبار مساعديه السياسيين والعسكريين. وقد كتب بن غوريون الوثيقة بيده في 10/3/1948 قبل بدء الحرب. وشملت الخطة توزيع فلسطين إلى مناطق جغرافية وأوكل لقادة الهاغاناه مهمة تنفيذها عندما تبدأ الحرب. ولخّص بن غوريون الخطة بكل صراحة، عندما قال: يجب استحواذ الجيش اليهودي على أكبر مساحة من أرض فلسطين مع أقل ما يمكن من الفلسطينيين. وكان واضحاً، أن الاحتلال يجب أن يرافقه الطرد الجماعي للفلسطينيين المحليين، مع أعمال قتل لدفع الناس للرحيل، خوفاً على حياتهم.

ويورد الدكتور بابيه في كتابه هذا أن دافيد بن غوريون كتب رسالة إلى ابنه عام 1937 أكَّد فيها رؤيته الواضحة بضرورة طرد الفلسطينيين، أكثر ما يمكن من الفلسطينيين عنوة، من فلسطين، عندما تحين اللحظة المناسبة، كالحرب، مثلاً. ويناقش الباحث، اعتماداً على الوثائق، أن الطرد لم يكن لمقتضيات الحرب فقط، أو لصعوبات عسكرية أدّت إلى طرد السكان، بل أن الطرد كان هدفاً استراتيجياً وضعه القادة السياسيون والاستراتيجيون قبل الحرب.

ركز بن غوريون عمله على تنفيذ خطة التطهير العرقي ومقاومة المحاولات العربية لمنع اليهود من الاستيلاء على فلسطين، معتمداً على قدرة القوات اليهودية، بدأ تنفيذ خطة تطهير فلسطين من سكانها- الخطة دالت (د) ـ أوائل شهر نيسان/أبريل من عام 1948م. وقد حددت الأوامر العسكرية لتنفيذ الخطة وهي تدمير القرى العربية وطرد سكانها كي يصبحوا عبئاً اقتصادياً على القوات العربية العامة.

يستعرض الكاتب كيفية احتلال القسطل واستشهاد عبد القادر الحسيني، ومذبحة دير ياسين وما جرى فيها من جرائم قتل، وتدمير للبيوت، واغتصاب حيث يذكر أن عدد الشهداء قد بلغ "170 شهيدا من بينهم 30 طفلاً" (ص 101، 102). وكذلك يبين كيف تم احتلال قالونيا، ساريس، بيت سوريك، بدو، وكيف تم نهب محتويات البيوت بعد تدمير هذه القرى. كما تضمنت الخطة دالت(د) تدمير المدن الفلسطينية واحتلالها بعد مجازر بشعة كما حدث في طبرية، حيفا، عكا، بيسان، يافا. ويذكر الكاتب كيفية تنفيذ الهجمات العسكرية على هذه المدن والمجازر البشعة التي ارتبكت ضد السكان الأبرياء، ويبين الدور التآمري للبريطانيين وكيف صمتوا على هذه الأعمال الوحشية، بل إنهم ساعدوا في تدريب العصابات الصهيونية وسلحوها لكي تستطيع أن تقوم بهذه الأعمال ضد الشعب الفلسطيني.

بعد نيسان/أبريل  1948 يأتي الكاتب على وصف تفجيرات حيفا وإلقاء القنابل المتفجرة وسط الحشود، وطرد الناس تحت التهديد بالموت. في بداية الاشتباكات في يافا توجه إلى منزل بن غوريون وفد من الموظفين يشكون من تغير موقف الهاغاناه من يافا، إذ تم الاتفاق على تعايش يافا وتل أبيب، وأن الجنود يبطشون بالعرب دون أن يصدر عنهم أي استفزاز ويسرقون العرب ويصادرون الأملاك ويطلقون النار بقصد الإرهاب؛ وكتب بن غوريون في مذكراته أن احتجاجات مماثلة وردته من بيتاح تكفيا وريشون لتسيون ورحوفوت وغيرها. غير أن شهرا واحدا من تلك الممارسات العنفية أعقبه توحيش عام؛ الجميع راحوا يشاركون في ممارسات مماثلة. نفس الموظفين الذين اشتكوا طالبوا "يجب أن نضرب يافا بكل وسيلة ممكنة" (ص76).

ويذكر الكاتب أن غولدا مائير قد زارت حيفا بعد تهجير سكانها، وجدت من الصعب عليها أن تكبت إحساسا بالرعب عندما دخلت البيوت، حيث الطعام المطبوخ ما زال على الطاولات، والألعاب والكتب التي تركها الأطفال على الأرض، وحيث بدت الحياة كأنها تجمدت مرة واحدة.. ذكرتها بطفولتها حين هربت عائلتها من روسيا، والقصص التي سمعتها من عائلتها عن الوحشية الروسية ضد اليهود قبل عقود (ص107).

أكاذيب غوبلز استولت على التفكير الصهيوني. أجل هزمتهم الهتلرية وسيطرت على عقولهم، كما لاحظ أبراهام بورغ في كتابه "لنتحرر من هتلر". وفي جلسة للجنة الاستشارية، وهي الوحيدة التي سجل محضر لها حفظ في أرشيف الهاغاناه، اقترح فايتس خطة لترحيل الفلسطينيين من المناطق المنوي احتلالها. وغادر فايتس الجلسة وبيده إذن بإنشاء زمرة تابعة له تحت الاسم لجنة الترانسفير، وأتى إلى الاجتماع التالي وبيده خطة تنفيذ الترانسفير (ص73).

استخدمت أسلحة فتاكة وجرى تطوير أسلحة كيماوية وأخرى بيولوجية، والفلسطينيون "غير مدركين لما سيطرأ على حياتهم من تغيرات دراماتيكية وحاسمة. ولم يكن لدى قادتهم أو لدى الصحافة الفلسطينية، أي فكرة عما كان يجري تداوله خلف الأبواب المقفلة في البيت الأحمر" (مبنى الهستدروت حيث تعقد الجلسات السرية للجنة الاستشارية) (ص84).

وتتذكر شولاميت ألوني المجندة حينذاك برتبة ضابط كيف كان المفوضون السياسيون يأتـون إلى الجنود ويحرضونهم؛ فيصورون الفلسطينيين شياطين، ويستحضرون الهولوكوست وضرورة العمل على منع تكرارها في إشارة إلى العمليات المتوقعة. صدرت الأوامر بنسف مباني الشيخ جراح في نيسان / إبريل 1948؛ لكن البريطانيين أوقفوا تنفيذ الأمر.. "بيّن الموقف البريطاني كم كان مصير كثير من الفلسطينيين سيختلف لو أن القوات البريطانية تصرفت نفس الشيء في أمكنة أخرى (ص 110).

فالقوات البريطانية وقفت تتفرج على أعمال القتل الجماعي والتدمير في مدن حيفا ويافا وصفد وطبرية". في الحقيقة، امتنع البريطانيون عن القيام بأي تدخل جدي منذ تشرين أول / أكتوبر 1947، ولم يحركوا ساكنا بوجه محاولات القوات اليهودية للسيطرة على المخافر الأمامية، كما لم يحاولوا إيقاف تسلل متطوعين عرب بأعداد قليلة. لقد سمحت بريطانيا بحدوث تطهير عرقي جرى تحت سمع وبصر جنودها وموظفيها.. كما أعاقت جهود الأمم المتحدة للتدخل بطريقة كان من الممكن أن تؤدي إلى إنقاذ كثير من الفلسطينيين. أما الأمم المتحدة فلا يمكن تبرئتها من ذنب التخلي بعد 15 أيار عن الشعب الذي قررت تقسيم أرضه وسلمت أرواحه وأرزاقه إلى اليهود، الذين كانوا منذ القرن التاسع عشر يريدون اقتلاعه والحلول مكانه في البلد الذي اعتقدوا أنه ملك لهم (ص138).
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم