كتاب عربي 21

الشخصية الفلسطينية في مواجهة التطبيل والتسحيج!

ساري عرابي
1300x600
1300x600
ربما يتّفق العرب، اليوم، في استخدام مصطلح "التطبيل" وصفا للمندرجين في مسالك النفاق والتزلّف، وأكثر ما يصدق هذا الوصف على أصحاب الصوت العالي منهم، والمبالغين في ذلك. وهو وصف دقيق، باعتبار أنّ الطبل أجوف.. صوت بلا مضمون، أو قَرْع ولا حقيقة من خلفه.

وإذا كان الطبل يُستخدم في المعارك لتحميس الجند وإرهاب العدوّ، فإنّه في مسالك النفاق يوضع في غير موضعه، ويُضرب به لغير أهداف المحاربين، فكان استخدامه، وصفا للمنافق؛ معبّرا من الجهتين، أي من جهة طبيعة الطبل نفسه من حيث هو طبل، ومن جهة استخدام المنافق لآليات التطبيل في غير موضعها.

الفلسطينيون، كالعرب، يستخدمون هذا المصطلح، بيد أنّهم، وبالإضافة إليه، لهم مصطلحهم الخاص، لوصف الحالة نفسها، وهو مصطلح "التسحيج"، وهو اللفظ الدارج الذي يعني في أصل استخدامه "التصفيق"، ولعلّهم فضّلوه على مصطلح "التطبيل"؛ لأنّه يصلح أولا وصفا لجميع المتزلّفين، علا صوتهم أم انخفض، عُرفوا أم جُهلوا، وهو بهذا الاعتبار أعمّ وأوسع، ويبقى "التطبيل" أخصّ بأصحاب الجلبة منهم.

ثم "التسحيج" يتعدّى فاعله ليطال "المُسَحَج له"، إذ "التسحيج" عادة؛ يكون على وقع الأنغام في الأعراس وغيرها، ويقترفه الجمهور في أثناء كلمات المتحدّثين، فهو فعل لا علاقة له بالأفعال في أصله، وإنّما يلتصق بالكلام، أغنية أو خطبة. وأمّا المحاربون فلهم أهازيجهم المقترنة بالسلاح، ثم تذوب هذه الأهازيج في وطيس المعركة.

ويظلّ "التسحيج" عملية مستهدَفة بالشكّ؛ لأنّه "يَبْصم ويختم" سلفا بلطم الأكفّ ببعضها لكلمات تنتظر الأفعال لتصدّقها، أو هو حالة من السكر النفسي المتولّد عن الطرب، فإن لم يكن طربا، فهو ولا شك، ضَرْب من الهذيان، ولهذا كلّه صَلح وصفا للتزلّف الذي لا يستند إلى الحقيقة، وقد يستند إلى عكسها تماما!

والذي لا بدّ من التأكيد عليه، أنّ هذا المصطلح جديد في الساحة الفلسطينية، أخذ يتصاعد في السنوات الأخيرة. وهو، والحال هذه، كاشف في أصل ظهوره، عن ظاهرة جديدة غير مألوفة فلسطينيّا، ثمّ في صعوده عن صعود هذه الظاهرة، بيد أنّ ظهورها ثمّ صعودها لا يعنيان بالضرورة عمقها، فجدّة الظاهرة تعني تجرّد الشخصية الفلسطينية عنها. ولطبيعة هذه الشخصية. فمن غير المتوقع أنّ تتعمّق الظاهرة حتّى وإن فشت وانتشرت، فقد لا تزيد على كونها قشرة، لا أكثر.

تبلورت الشخصية الفلسطينية، في ظروف الكفاح ضدّ الاحتلال، وفي مقابل الخذلان العربي، ومع الإحساس العميق بالاختلاف عن المحيط كلّه، وبالتالي تعمّق الشكّ في وجدان الفلسطيني تجاه الزعامات عموما، بما في ذلك زعاماته هو، حتّى النضالية منها، التي كان يحيط بعضها بنظرة تتوسّل بالغموض والريبة والاتهام أحيانا. ولعلّ تجاربه مع قيادات الثورات والمقاومات منذ فجر القضيّة جعلته أكثر حذرا، مستثنيا المثاليات الزائفة من اعتباره ومُحلّا مكانها الاحتمالات المتعدّدة، ثمّ ومع دور الكفاح في نحت الشخصية الأنوفة، استقامت تلك الشخصية على طباعها تلك.

يُضاف إلى ذلك اتسام الشخصية الفلسطينية بالتسييس الشديد، وبصورة مكثّفة لا يوجد لها مثيل في البلاد العربية، على الأقل سابقا، واستغراق التعليم لأكثر شرائح الفلسطينيين، وتحوّل المساجد والمدارس والجامعات إلى منابر للتعبئة ومنطلقات للنضال، ولم يكن للفلسطيني دولة، أو حكومة محلّية، تُبرمجه منذ الطفولة على الهتاف للحاكم، وتجسيد الوطن فيه، أو تربطه بها اقتصاديّا، وتُحطّم شخصيّته بابتزازه بلقمة عيشه، أو تصوغه على القانون الفرعوني القائل "..أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي.."، وكأنّ الحاكم هو الذي يحيي ويرزق، ويتفضّل بذلك على الخلق!

هذه الشخصية، ربّما سبّبت للفلسطيني المتاعب وسوء الفهم أحيانا من إخوانه العرب، الذين تنطمس لدى كثير منهم الحدود بين الوطن والدولة والحاكم، ويعتقدون أنّ الفلسطيني الذي يشتم حكامهم ناكر لجميل ما يسدونه إليه، أو يبدي العداء بلا سبب وجيه، مع أنّه وبكل بساطة لا يفعل أكثر مما يفعله مع زعاماته، إذ يَفترِض، وبحكم تجربته المرّة، أنّ الزعامات إنّما تصعد على أشلاء أصحاب التضحيات، وأنّ دورها أن تخدمه، دون أن تترتب على ذلك امتيازات خاصّة لها، حتّى لو كانت سابقة إلى تضحية من قبل، وقطفت ثمنها بالزعامة.

لم تكن هتافات الفلسطينيين وأهازيجهم تنصرف إلا للوطن والمقاتلين والأسرى والشهداء، وهم وإن غنّوا لزعيم من زعاماتهم فبقدر التصاقه بعناوين الكفاح والنضال تلك. وبقدر انتمائه لمعانيها وخدمته لها، وهذا قبل أن تتحوّل حركات التحرّر والمقاومة إلى سلطة، وإن كانت قبل تحوّلها إلى سلطة، وكأيّ زعامة، لا سيما وهي تستفيد من نموذج القبيلة الكامن فينا، تستبطن منطق السلطة وما يتبعها من استزلام، وتقريب "السحيجة"، وإبعاد الناصحين، وإقصاء الكفاءات التي تغار منها الزعامات، وبروز الدسائس، وما سوى ذلك من أمراض اجتماعية، إلا أنّ هذه الأمراض التي تُحطّم الكرامة الآدمية، كانت أقل انتشارا مما صارت إليه بعد تحوّل حركات المقاومة إلى سلطات حاكمة، كما أنّ ظروف النضال تحدّ من النزوع السلطوي للزعامات ومن تأثيره على العناصر إلى حدّ كبير.

أصبحت مظاهر "التسحيج" أكثر كثافة لأنّ السلطة صارت أكثر كثافة، حينما تحوّلت حركات التحرر إلى سلطة، ابتداء من حركة فتح، مستدعية معها نموذج الدولة العربية الذي يُجسّد الوطن في الحاكم، أو في أحسن أحاوله في الحزب أو العائلة الحاكمة، ثم أسندت ذلك إلى وقف الكفاح.

ومع منطق السلطة ووقف الكفاح تحلُّ القيم الاستهلاكية مكان المُثل العليا، وبالتالي تآكل الإحساس بالكرامة. وأمّا في حالة حماس، والتي تحوّلت إلى سلطة بقدر ما، فاستمرار دفع الثمن والمقاومة يحدّ من تلك الأمراض وإن كان لا يوقفها، كما أنّ الأزمات ومراوحة المكان تُضيّق دوائر النافذين في وجه الناصحين وتوسّعها "للسحيجة" وتنظمها بنمط من الشللية، وهو أمر بالغ الخطورة على السلامة العامّة لأي حركة مقاومة لديها مشروع لم تنجزه بعد.

بيد أنّ هذه الحالة على خطورتها، لا تعني أن الشخصية الفلسطينية قد صارت شخصية "تسحيجية" وانتهى بها الأمر إلى ذلك، فردود الفعل على أوبريت "ملاك السلام" الذي عُمل خصّيصا للرئيس الفلسطيني، تُبيّن أن الشخصية الفلسطينية الأصيلة حيّة، وستبقى كذلك، ليس فقط لأنّ الفلسطيني لم ينجز بعد تحرير بلاده ويصفّي حسابه مع عدوّه المحتلّ، وإنّما، وبالإضافة إلى ذلك، لأنّ الشخصية العربية عموما آخذة بالتغير لتتّصف بما كان يتّصف به الفلسطيني خلال نضاله الطويل.
التعليقات (1)
رائد عبيدو
الثلاثاء، 10-12-2019 06:04 م
كثرة المديح سواء أكان الممدوح طفلا يتعلم أو ناشطا على الشبكات الاجتماعية أو مسؤولا تجعله أقل رغبة في تطوير نفسه حتى لو كان يعرف أنه لا يستحق ذلك المديح أو أنه قادر على تحسين قدراته وزيادة مجهوداته ومكاسبه. فما دام يلقى المديح والتكريم والأموال رغم بذله القليل من الجهد فما الذي يحفزه لبذل أقصى طاقته وما الذي يمنعه من أن يظن أن تاريخه يشفع له أن يفعل ما يشاء؟ ومن يحطم الأرقام القياسية يعلم أنه لو بذل أقصى طاقته فسيحصل على جائزة واحدة، لكنه لو حطم كل فترة رقمه القياسي برقم مقارب فسيحصل على جوائز عديدة.