حين نتحدث عن فلسطينيي الشتات فنحن لا نتحدث عن تفصيل على هامش القضية الفلسطينية بل عن أصلها وجوهرها وحقيقتها، لسببين:
الأول، أن القضية في أصلها قضية احتلال أرض وتهجير شعب، ثم يتبع ذلك كل السياسات التعسفية الظالمة والسجن والقتل والعدوان، وبالتالي فالشتات هو أحد عنوانيْن رئيسَيْن في تاريخ القضية وحاضرها ومستقبلها،
والثاني، أن عدد الفلسطينيين الذين يعيشون خارج أرض فلسطين التاريخية يفوق عدد من هم داخلها، فإذا ما أضفنا لهم اللاجئين في كل من الضفة وغزة، بل والفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 (باعتبارهم خارج مشروع السلطة)، نصبح إزاء الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني من حيث العدد والثقل والامتداد الجغرافي.
من هذا المنطلق ندرك مدى الخطأ الاستراتيجي الذي تعانيه القضية الفلسطينية حال خروج/إخراج فلسطينيي الشتات من معادلة الصراع، ونفهم حجم الجريمة في تغييبهم أو تجاهلهم أو الالتفاف على حقوقهم ودورهم بذريعة الواقعية السياسية واضطراب موازين القوى في الساحة الدولية.
ولئن كان هناك اتفاق عام على أهمية الوجود الفلسطيني في الشتات وعلى لعبه دوره الهام في مشروع التحرير سابقا وحاليا (كما يبنغي)، إلا أن النقاش يدور حول ماهية هذا الدور وحدوده وتوصيفه، بين مفهومي الشراكة التامة والإسناد لمشروع المقاومة في الداخل.
وهنا، أعتقد أن دور فلسطينيي الشتات ينبغي أن يكون ضمن مسارين:
الأول، التناقض مع المشروع الصهيوني، ومحاولة تفكيك عناصر وجوده وبقائه وقوته.
والثاني، التكامل مع فلسطينيي الداخل على مستوى التخصص والأولويات.
من منظور تاريخي، لم تكن القوة المادية عامل الوجود والاستمرارية الوحيد للمشروع الصهيوني، بل كانت الحماية الدولية ودعم صهاينة العالم له والمشروعية التي حظي بها أهم وأسبق. بنفس الطريقة، ينبغي أن تكون استراتيجية فلسطينيي الشتات هي العمل الدؤوب لمشروع التحرير والاجتهاد في محاولات نزع الشرعية عن الكيان أو التشكيك بها على أقل تقدير فضلاً عن تقليل الدعم الدولي له وزيادة وتيرته للقضية الفلسطينية.
في مؤتمر حول القضية الفلسطينية عقده مؤتمر الزيتونة للدراسات والاستشارات في بيروت، ذكر الأستاذ الدكتور مجدي حماد عدة مسارات حقق فيها المشروع الصهيوني بعض الاختراقات مؤخرا مثل رئاسة اللجنة القانونية في الأمم المتحدة والتعاون الاستراتيجي مع روسيا والمصالحة مع تركيا وجولة نتنياهو الإفريقية (ويمكن أن يضاف لذلك انتخاب ترامب)، في مقابل عدة إخفاقات مثل انتشار حركة المقاطعة (BDS) وقرار مجلس الأمن 2334 بخصوص الإستيطان وقرار اليونيسكو حول إسلامية المسجد الأقصى والبلدة القديمة وغيرها.
وإذا ما سمحت لنفسي أن أجْمِل ما قاله الدكتور لقلت إن الكيان قد تقدم جزئيا في مسار القبول السياسي الرسمي له بينما تراجع في السياق القانوني - الحقوقي. ولهذا دلالة مباشرة على مسارات العمل التي ينبغي أن يركز عليها الشتات الفلسطيني: البعد الحقوقي والقانون الدولي وسمعة الكيان وحملة المقاطعة وما تعلق بها.
في المقابل وبالتوازي مع ذلك ومما يؤكده، يحتاج فلسطينيو الشتات للتكامل مع الداخل الفلسطيني باعتبار أن كل منطقة جغرافية من مناطق التواجد الفلسطيني (غزة، الضفة، أراضي 1948، الشتات) له خصوصياتها المميزة التي تفرض نفسها على أولويات دور كل منها. وبالتالي، حتى ولو عملت بعض الفصائل بشكل شامل يسع كافة مجالات العمل الفلسطيني، إلا أنه على المستوى الفردي والمؤسسي أو لنقل على صعيد العمل المدني - الشعبي فإن العمل العسكري والسياسي بالمعنى التقليدي قد يكون متعذراً فيما المسارات سابقة الذكر هي الأولى بالعناية والتركيز، أي الدعم المالي والإعلام والمسار الحقوقي والمقاطعة والسعي لتقليل الدعم المقدم للكيان.
هذه المسارات هي الوجه الآخر لما يقوم به اللوبي الصهيوني في الغرب والعالم منذ عشرات السنين، وعليه يحتاج الفلسطينيون للوبي خاص بهم في الغرب ومنظومة تواصل أفضل مع الدول الأقرب للقضية الفلسطينية منها للعدو. والهدف هنا هو مواجهة عمل اللوبي الصهيوني للحد من نتائجه وفتح آفاق دعم وتأييد جديدة للقضية الفلسطينية، ولعل مواجهة حالة التطبيع مع العدو والتي يراد لها أن تنتقل من المستوى الرسمي للمستوى الشعبي تأتي في رأس أولويات هذا العمل.
إن ما سبق ذكره إضافة لتراجع حضور القضية الفلسطينية وحالة التشتت التي يعاني منها العالم العربي ومشاريع بعض الأطراف الدولية والإقليمية لتصفية القضية الفلسطينية خاصة فيما يتعلق بملف اللاجئين تفرض علينا نحن فلسطينيين الشتات مسؤولية مضاعفة، فلا نقول إن وقت العمل قد حان بل لقد تأخرنا كثيرا، ولكن أن تبدأ العمل متأخرا خير من ألا تبدأ أبدا.
كان هذا ملخصا لبعض نقاط ورقة قدمتها البارحة في "المؤتمر الشعبي لفلسطيني الخارج" أحببت أن أشرك بها عددا أكبر من المهتمين، وأرجو أن يكون المؤتمر فرصة وإطارا لعمل من هذا النوع، سيما وأنه مؤتمر شعبي ويعمل خارج فلسطين ويملك بالتالي إمكانية تجميع كافة الجهود من كل التيارات لمواجهة المشروع الصهيوني بعيدا عن حالة المناكفة التي تسود الساحة الفلسطينية.
في مئوية وعد بلفور المشؤوم، يملك الشعب الفلسطيني في الخارج أن يعود لقلب القضية الفلسطينية ومعادلة التأثير في الصراع إن أحسن الرؤية والاستراتيجية والعمل والتطوير والمتابعة والتحسين. ليس هذا من قبيل الأماني الحالمة بل الأحلام الممكنة، فليس عيبا أن تحلم وترفع سقف توقعاتك، العيب أن ترفع السقف دون إمكانات أو دون عمل، ويشهد واقع الفلسطينيين حول العالم أنهم يملكون الإمكانات، فيبقى العمل.