عندما صدر كتاب "صدام الحضارات" لهنتنغتون، انبرت له بكثير من الانتقاد الأقلامُ المناوئة للعولمة وللنظام العالمي الجديد، مع أن الأحداث التي أعقبت صدور الكتاب جاءت متماهية مع النبوءة، بالانتقال من حالة الصراع العقائدي بين الكتلتين الرأسمالية الغربية والشيوعية إلى الصراع مع الكتلة الإسلامية، وما كاد يسدل الستار عن آخر المعارك الإيديولوجية بين الكتلتين في فتنة صربيا، حتى بدأ تنفيذ أول فقرة من النبوءة بالعدوان الأمريكي على أفغانستان والعراق.
أحد أشهر الانتقادات لنظرية "صراع الحضارات" أنها "نبوءة ذاتية التحقيق"؛ أي إنها تسعى لاستكشاف البدائل الممكنة لتجديد واستدامة الصراعات الدولية، بعد أن استنفدت الصراعات القديمة طاقتها العقائدية، وهو ما حصل مع انهيار الكتلة الشيوعية، فظهرت الحاجة إلى توليد خصم بديل من الكتلة الإسلامية، وهي تطلُّ بتردُّد على واجهة التاريخ.
ولأن الحروب الأولى في هذا الصدام الجديد كانت مع دولٍ قائمة، فإنَّ البُعد الحضاري في الصدام ظل هامشيا حتى مع تعميد بوش لحربه على العراق البعثية العلمانية بإشهار راية "الحرب الصليبية"، ولم يكن أرباب مصفوفة العقب الجديد قد يئسوا بعد من فرص بناء النظام العالمي الجديدي بسيادة النموذج الحضاري الغربي الليبرالي والديمقراطي، فكان الربيع العربي في عهد أوباما آخر محاولة فاشلة لترويض العالم الإسلامي من القلب، لتغرق التجربة في بحر من الدماء في ليبيا والعراق وسوريا واليمن، وتظهر الحاجة مجددا إلى تخليق العدو الجديد بعنوان حضاري صريح اسمه "التطرُّف الإسلامي"، بعد أن نفدت بسرعة ذخيرة الحرب على الإرهاب أو تكاد.
ولأجل ذلك، ما كان لنا أن نستبعد وصول رجل مثل ترامب إلى البيت الأبيض وهو يرفع شعار الحرب الكونية على الإسلام، تحت رايةٍ مخادعة اسمها "محاربة الإسلام المتطرِّف"، أو نستبعد وصول أقصى اليمين إلى السلطة قريبا في أهمِّ الدول الأوروبية، وهو الذي نشأ وتغذى على مخزون كراهية أوروبا المسيحية للإسلام أكثر من عدائه التقليدي للمهاجرين.
وربَّما يحسن بنا أن نتوقف قليلا عند مفهوم "الإسلام المتطرِّف" الذي لا يعني عند الغرب الجماعات المتطرِّفة من المسلمين، بقدر ما يقصد به الإسلام في نصوصه المعتمَدة: القرآن والسنة، وقد فاتنا التوقف عند حدثين لهما صلة بإعادة توجيه بوصلة الصراع من الحرب على "الإرهاب" إلى محاربة الإسلام: الأول كان في اللقاء الديني الغريب الذي نُظم في غروزني برعايةٍ روسية، أريد له أن يخلق شرخا داخل عائلة أهل السنة والجماعة، باستبعاد السّلفية والوهّابية وإعادة تأهيل الفِرق الصوفية، والثاني تكليف النظام المصري وإعلامه بقيادة حملةٍ منظمة على أشهر مُتون الحديث، تلتها محاولة الرئيس المصري الأخيرة تمرير تعطيل صريح لنصوصٍ قرآنية محكَمة تنظم الطلاق، كانت ستشكِّل سابقة لو لم ينتفض عليها المجمعُ العلمي للأزهر الشريف.
نقطة التحوُّل في هذا الصراع المتواصل وفق نبوءة هنتنغتون، المتماهية مع معتقدات اليمين المسيحي المتصهْين، تحتاج إلى صناعة حدثٍ ضخم بحجم أحداث 11 سبتمبر 2001، يُنفَّذ تحت رايةٍ كاذبة ليمنح الذريعة لإنزال غربي واسع، ينفِّذ مذبحة رهيبة في المسلمين بحجّة محاربة تنظيم "الدولة" ومرجعيته السلفية، ويسمح بقيام أنظمةٍ على شاكلة النظام المصري توكل إليها مَهمّة بناء وتصدير نخبة دينية جديدة في الأزهر ومكة والمدينة والزيتونة والقيروان، تقبل بمراجعة وتحديث مرجعية الإسلام في الكتاب والسنة.
الشروق الجزائرية