الاعتقالات والملاحقات التي يتعرض لها الفلسطينيون وقياداتهم في الداخل الفلسطيني ومن ضمنهم عضو الكنيست باسل غطاس, تأتي ضمن استراتيجية مستمرة منذ النكبة تمارسها إسرائيل ضد المواطنين العربي حيث من الصعب تداول الموضوع دون التطرق إلى الإطار العام وتهدف هذه الاستراتيجية إلى ترويض وهزم نفسية الانسان الفلسطيني والانتقام من كل من تسول له نفسه أن يتحدى يهودية الدولة.
يعتبر الكثير من الإسرائيليين أن دافيد بن غوريون ارتكب عام 1948 خطأ تاريخيا فادحا عندما لم يكمل "خطة د" القاضية بتهجير كامل الفلسطينيين من بيوتهم و"اكتفى" بتهجير نحو 85% منهم, فيما بقي في البلاد نحو 150000 فلسطيني, تعاملت معهم اسرائيل, رغم حصولهم على الجنسية الإسرائيلية, على أنهم أعداء أو "قنابل موقوتة". وفي لقاء أجري عام 2009 وجه المؤرخ الاسرائيلي بني موريس أصبع الاتهام لبن غوريون لعدم اتمامه مهمته بتنظيف البلاد بالكامل من الفلسطينيين معتبرا أن ذلك يشكل خطرا كبيرا على مستقبل إسرائيل, ولا زالت الكثير من القيادات الإسرائيلية, حتى اليوم, تطالب بتصحيح هذا الخطأ وإتمام المهمة.
بعد النكبة عاش الفلسطينيون الذين بقوا في البلاد برعب وخوف شديد, ثلثهم هجروا من البلدات التي كانوا يعيشون بها إلى بلدات مجاورة وباتوا يعرفون باسم "الحاضر الغائب", حتى أصبحوا "كالأيتام على مأدبة اللئام" دون قيادة توجههم, لا حول لهم ولا قوة, مهددين بالتهجير والترحيل والسلب والنهب, قصص الاغتصاب والمجازر في البلدات المجاورة والتي عمدت العصابات الصهيونية على نشرها ترعبهم, عائلات ممزقة, جزء منها هجر إلى خارج الحدود وجزء آخر بقي في البلاد, أمهات فرقن عن أولادهن وبناتهن, وعشرات الآلاف من الرجال تم جزهم في معسكرات الاعتقال, همهم الوحيد إيجاد لقمة العيش.
بعد انتهاء المعارك انقضت إسرائيل على من تبقى من الفلسطينيين كمن ينقض الذئب على فريسته, مستغلة حالة الرعب التي يعيشونها والأزمة النفسية التي تركتها النكبة, وتعاملت معهم على أنهم أعداء يجب الانتقام منهم. فأقامت الحكم العسكري الذي امتد حتى عام 1966, والذي حدد حركتهم وحريتهم ومنعهم من التواصل فيما بينهم, وحول بلداتهم إلى جيتوات يمنع الخروج منها أو الدخول إليها إلا بتصاريح من الجيش, وبدأت بحملة واسعة لمصادرة ما تبقى من أراضيهم والتي شكلت مصدر الرزق الرئيسي لهم. كان هدفها بناء شخصية العربي الجديد, شخصية العربي المهزوم, الذي لا حول ولا قوة له, لا يؤمن بقدرته على التغيير وعلى استعداده للتعامل مع اليهود على أنهم الأسياد في البلاد.
رويدا رويدا أخذت جراح الفلسطينيين في الداخل بالالتئام, وبدأوا يطالبون بحقوقهم, كانت إسرائيل على استعداد أن تتحمل الاستماع إلى هذه المطالب ما دام الحديث يدور عن حقوق فردية, كحقهم بالحركة والعمل, أما المطالب الجماعية الوطنية فكانت تقابل بالعنف والاعتقال والإخراج عن القانون. مثال على ذلك ما تعرضت إليه حركة الارض التي تأسست عام 1959 والتي طالبت بالحقوق الوطنية للفلسطينيين, فقامت إسرائيل بإخراجها عن القانون وعشية حرب 1967 قامت باعتقال بعض قيادات الحركة اداريا وفي أيار عام 1968 قامت بنفي وطرد آخرين من قيادات الحركة إلى الخارج.
كان لاحتلال باقي أجزاء فلسطين عام 1967 تأثيرا إيجابيا على نفسية الفلسطينيين في الداخل, لأول مرة منذ النكبة يتواصلون مع جزء آخر من شعبهم, بدأوا يشعرون أنهم ليسوا وحيدين في معركتهم, وبدأت تتبلور عندهم الهوية الفلسطينية من جديد وتتعالى الاصوات التي تنادي بعودة المهجرين إلى قراهم, وإلغاء أوامر مصادرة الأراضي, وصلت هذه الحركة ذروتها بإعلان الإضراب الشامل في ال 30 من اذار عام 1976 , فيما بات يعرف بيوم الأرض, للمطالبة بإلغاء اوامر السلطات الإسرائيلية بمصادرة أراضي عربية. حاولت إسرائيل بشتى الطرق إفشال الإضراب العام, وتعاملت معه كتمرد وعصيان مدني, ولما فشلت كل محاولاتها ادخلت الجيش إلى قلب البلدات العربية فقتلت بدم بارد 6 من الفلسطينيين في الداخل وجرحت المئات في محاولة لكي الوعي من جديد وأعادتهم الى المربع الاول.
في سنوات التسعينات من القرن الماضي بدأ يتبلور عند الفلسطينيين في الداخل خطاب جديد, خطاب يتحدى الديموقراطية والإنسانية الإسرائيلية التي طالما يتشدقون بها أمام العالم. عمد الفلسطينيون ان يكون هذا الخطاب ضمن الحدود التي يسمح بها القانون الاسرائيلي لكن في نفس الوقت ينجح بتعريته, وكان في مركز هذا الخطاب أن تكون إسرائيل " دولة كل مواطنيها", هذا الخطاب التقدمي الليبرالي أزعج وأحرج اسرائيل التي تؤمن أن هذه الدولة لليهود فقط وليست دولة كل مواطنيها, وأبرزت هذا الخطاب هشاشة الديمقراطية الاسرائيلية وزيف إنسانيتها.
بالرغم من ان الفلسطينيين بالداخل مارسوا نضالهم ضمن الحدود التي يسمح بها القانون الاسرائيلي إلا أنهم تعرضوا للملاحقة والمضايقة والاعتقالات, وفي رسالة كان قد أرسلها عام 2007 يوفال ديسكين, رئيس المخابرات الاسرائيلية اعترف فيها أن المخابرات تتابع وتلاحق النشطاء الفلسطينيين حتى لو كان نشاطهم قانونيا وضمن ما تسمح به الديموقراطية الاسرائيلية إذا تبين لهم ان في هذه النشاطات مساس في يهودية الدولة, كذلك اعترف ان المخابرات والشرطة تقوم بالكثير من الاحيان في اعتقال واحتجاز فلسطينيين – مواطنين في دولة اسرائيل لتحذيرهم وردعهم رغم انهم لم يقوموا باي عمل غير قانوني.
في السنوات الاخيرة قامت اسرائيل باعتقال وسجن عدد كبير من القيادات الفلسطينية في الداخل, في محاولة اخرى لـ"كي الوعي وترويض الخطاب الفلسطيني وللانتقام من القيادات الفلسطينية التي تنجح في إزعاج أو إحراج إسرائيل وافشال مخططاتها. على رأس المعتقلين يقف الشيخ رائد صلاح الذي عمل على الحفاظ على المقدسات الاسلامية والمسيحية وخاصة في الاقصى مما ازعج الحكومات الاسرائيلية, وعضو الكنيست السابق سعيد نفاع الذي تم اعتقاله على خلفية نشاطه للتواصل بين الدروز في البلاد مع الدروز في الدول العربية المجاورة مما اثار عند الحكومة الاسرائيلية خشية من تحريض الدروز على الدولة.
اعتقال عضو الكنيست باسل غطاس يأتي ضمن هذا الاطار, وفي محاولة للانتقام منه على النشاطات الوطنية الواسعة التي قام بها في السنوات الاخيرة خاصة على المستوى الدولي, من ضمنها مشاركته في اسطول الحرية الثالث لكسر الحصار على غزة, ومشاركته في اسبوع مناهضة الايرتهايد الاسرائيلي في كندا وتوجهاته الى المحافل الدولية. اسرائيل ترى في مثل هذه النشاطات على المستوى الدولي عبور الخطوط الحمراء رغم انها ضمن القانون ولذلك تبحث كعادتها عن غطاء قانوني لاعتقاله والانتقام منه وإبعاده عن الساحة.
(ميدل إيست آي)