تحدثتُ
مع بعض أصدقائي السوريين، عمّا وصلتْ إليه سوريا اليوم، من اقتتال عنيف بين الفصائل
المُتنوعة وبين نظام الأسد والقوى الموالية له، وحتى بين الفصائل السورية المُسلحة
فيما بينها، والذي أدى نهايةً، إلى مئات الآلاف من المقتولين والمعتقلين والمفقودين
والمهجّرين. وأخذنا الأمر إلى أن إدانتنا للعنف الذي حدث طيلة السنوات الماضية، إدانة
ناتجة عن فشل العنف في إسقاط النظام، بل وتحويله إلى عنف مُفرط بين المدنيين السوريين،
إذ أن العنف كمبدأ، نحن لا نستبعده، لكن لا أحد يطيق تحمّل نتائجه إن فشل في اقتلاع
نظم الاستبداد، بل وتحوّل إلى ماكينة قتل بحق الشعب نفسه من قبل بعض المُتطرفين في
العنف. وهذا ما يأخذنا إلى مدى مشروعية العنف في استئصال الظلم الواقع من نظم الاستبداد/الاستعمار
على الشعوب، الذي تناوله وفَككه الكاتب المارتينيكيّ الفرنسي فرانز فانون في كتابه
معذّبو الأرض الصادر بالفرنسيّة عام 1961، وترجمته إلى العربية مدارات للأبحاث والنشر/القاهرة
في عام 2014.
في مَشروعيّة
العنف
فانون
هو ابن الاستعمار، حيث وُلد في جزر المارتينيك عام 1925، الواقعة تحت الاستعمار الفرنسي،
وقد شارك في الجيش الفرنسي في حربه ضد الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، ومن ثم
انتقل إلى الجزائر ليعمل كطبيب عسكري، ومن ثم كطبيب نفسي في مستشفى بليدا بِالجزائر،
وأثناء ذلك، تبنّى وانخرط فانون تحت راية ثورة التحرير الجزائرية ضد المُستعمر الفرنسي،
وقد استقال من عمله، وعمل علنا مع جبهة التحرير الوطنية الجزائرية مناهضا الاحتلال
الفرنسي، ومن خلال كتابات فانون، والتي وُجّهت إلى كلَّ المُستعمَرين في الأرض من قوى
استعمارية/ تحثّهم على التحرير واسترداد الكرامة الإنسانية التي نُزعت منهم بالقوة،
بشتّى الوسائل لاسيّما العنف.
رأى
فانون أن محو القوة المُستبدّة، التي جاءت لتحتل وطنا ما، لا يأتي عن طريق الاتفاقيات
أو المبادرات، بل يأتي بالعنف التام الخالص، لأن كل قوّة منهما، أي المُستعمِر والمسُتعمَر
يرى أن الحق معه، ويحاجج بأحقية وجوده في هذه الأرض، ولأن المستعمِر عندما يحلّ على
بلدٍ ما، يقلبها رأسا على عقب، أي يغيّر ثقافتها واقتصادها واجتماعيّاتها وطبائعها
وممارساتها اليوميّة، لذلك، كان العنف هو الخلاص لإحلال قوة بدلا من قوة أُخرى. وأن
أي طريق غير انتزاع التحرير بالقوة، بشكلٍ أو بآخر يدل على اعترافٍ بأحقية المستعمِر
في وجوده، ونزولا إلى الواقع الحاليّ.
في هبّة
القدس الأخيرة (أيار/ مايو 2021)، والتي كانت على جبهاتٍ متعددة، في غزة حيث الحرب
وتراشق الصواريخ بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، وأُخرى في أراضي فلسطين التاريخيّة
المعروف بـ أراضي 48، وثالثة في الضفة الغربيّة، ورابعة عند المسجد الأقصى. حيث كان
العنف وقتها هو بمثابة الخلاص الوحيد لإحلال التحرير بالقوة رغم أنف المُحتل. وأن المفاوضات
والاتفاقيات لا تُرجع حقوق قد سُلبت، بل لا تعني إلّا اعتراف من المستعمَر بأحقية وجود
المستعمِر.
التابعون
والبرجوازيون
يفكك
فانون اجتماعات المُستعمَرين المتباينة من حيث النشأة والطبقة، إذ ينتقل فانون بعد
ذلك إلى إشكاليةٍ أُخرى تعرقل طريق المستعمَرين إلى التحرير، إذ تنشأ طبقة من التجار
البرجوازيين من أبناء الوطن، ومن أجل الحفاظ على وجودها المنفعيّ، تُفضل التعاون مع
الاحتلال، اقتصاديا وسياسيّا واجتماعيّا وأمنيا، وتبدأ هي الأُخرى بطرقٍ كثيرة في قمع
من أرادوا التحرير، من خلال قتلهم أو اعتقالهم أو نفيهم أو التجسس عليهم، وحلول أُخرى
لتفكيك روح المقاومة التنظيمية لدى الكثيرين من المستعمَرين.
بل وتبدأ
البرجوازية التجارية بالتعاون من مثقّفي الأحزاب السياسيّة المدينيّة، ليشكّل الاثنان
استراتيجية منهجية تتسمّ بالعدائيّة تجاه الأكثرية من سكان الريف المُستعمَر. وفي العلاقة
بينهم يقول فانون "إن الأكثرية الساحقة في الأحزاب الوطنية تشعر تجاه الجماهير
الريفية بحذر كبير، وارتياب شديد" (فانون، معذبو الأرض ص94) وبشأن ذلك، يعمل الاحتلال
على تجميد الريف وَتدجينه وإخضاعه عقليا ونفسيا وجسديا لسلطة مستعمرة أو تابعة لها،
لتضمن طاعته لها وفقا لمَنافعها المتنوعة، وعدم الثأر أو استخدام العنف ضدّهم.
ومن الانتقال من الجزائر إلى مصر، حيث استخدم الاحتلال
الإنجليزي منذ قدومه (1882) شتّى الوسائل العنفويّة ضد الفلاحين المصريين، من أجل إخضاعهِم
ومحو كينونتهم وضمان السيطرة عليهم، بل وتشغيلهم في منظومته الرأسمالية بالتعاون مع
البرجوازيّة المصرية [1]. ليتحوّلوا إلى بروليتاريا رثّة، يعملون ويتقاتلون ضد بعضهم
البعض عوضا عن قتالهم لعدوهم الحقيقي، بل ويُصبحوا تابعين بوصف الفيلسوف الإيطالي غرامشي،
والذي نظّر من أجل تنظيم هؤلاء التابعين للعمل سويّا من أجل استرداد الحق المسلوب منهم
[2]
أما
الاستعمار، لم يقتصر فقط على نهب الموارد والثروات الاقتصادية الموجودة في الأرض المستعمَرة،
بل، حسب فانون، هو يأُسر العقول والأرواح والأجساد لهؤلاء المستعمَرين، فينتج عن ذلك
حالة مسوخ وتحولات ثقافية شاملة لدى الكثيرين، بالتوازي مع أمراض عقلية ونفسية كثيرة
تُمرض المستعمَرين، لتُصيبهم حالات الهذيان والجنون بما يحدث لهم إثر ممارسات الاحتلال
بالغة العنف، لاسيما في حالات التعذيب في المعتقلات والسجون.
وأما
عن القلق حيال نسبية العنف التي تُستخدم في مجابهة الاستعمار، حين تحوّله من عنفٍ مشروع
إلى عنفٍ مَرضيّ يُصيب صاحبه بفرط الاستخدام حتى بين أبناء الوطن الواحد بمجرد اختلافهم،
وهذا ما أعربتْ عنه الألمانية حنة آرنت، حين انتقدت الفرنسي سارتر في تقديمه لكتابِ
فانون بعد صدوره بالفرنسية.
وهذا
أيضا ما عانت منه بعض الشعوب، حين تقوم حركات تحرر بموجات واستراتيجياتٍ عنف من أجل
التحرير، وفي خلال ذلك أو بعد نيله، يستمر العنف ولكن توجّه بوصلته إلى أبناء الوطن
من المستقلين أو الجماعات فيما بينها، فتُستبدل حرب الاستقلال من أجل الكرامة والحرية
إلى حرب أهلية على مساحاتٍ من الأراضي وكمّيات من الثروات، وتدخل البلاد في نفقٍ استبداديّ
مظلمٍ مرة أُخرى. إذ يكون العنف سلاح ذو حدّين، الأول تطهريّ، إذ يطهر الإنسان المستعمَر
من خلال العنف إنسانيّته ويبدأ في خلقها من جديد، وهذا جليٌّ ومُشرق، أو حين الإفراط
فيه، يصبح، أي العنف تطهيرا جسديّا وروحيّا، لكن دون حقٍ أو كرامة.
هامش:
1- تيموثي
ميتشل، استعمار مصر، مدارات للأبحاث والنشر، الطبعة الثالثة، ط1 القاهرة 2014
2- يمثل
التابع الفئات المُهمّشة، من الطبقات الفقيرة والأَدقع فقرا، بمختلف حِرفهم وأعمارهم
ووجودهم الجغرافي في العاصمة والأقاليم. كَثُرت الدراسات التي تتمحور حول "التابع"
كمفهومٍ وممارسة، على السواد الأعظم من الشعب الهندي المُستغَل من الطبقات البرجوازية
الهندية المُتعاونة مع الاحتلال البريطاني، والحاكمة بعد زواله. مع بداية الثمانينات
برز حقل دراسات التابع، من أشهر منظّريه المؤرخ الهندي "رانغيت غوها" ولحقه
شهيد أمين وغيانيندرا باندي وسوميت ساركار ودايفيد هادريمان، وبفضل تنظيرهم المبدئي،
اهتم آخرون وصدرت مجلة دراسات التابعين Subaltern Studies. كما في مصر أيضا تواجد بعض
المُهتمين بـتأريخ حياة التابعين، أبرزهم أستاذ التاريخ خالد فهمي، كما في أطروحته
"كل رجال الباشا" عن حياة فلاحي مصر، أوائل القرن التاسع عشر.