تتَّجه أنظار العالم في الآونة الأخيرة إلى أزمة المهاجرين على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، وينصبُّ جلُّ اهتمام المحللين الغربيين، في قراءتهم هذه الأزمة الإنسانية، على الصراع الجيوسياسي بين روسيا وبيلاروسيا من جهة؛ وبلدان الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، بينما غاب عن اهتمامهم مصيرُ المهاجرين، وجذور معاناتهم، كأنَّهم مجرد قطع حجرية في لعبة الشطرنج بين الدول المتنازعة.
وكنت أتمنَّى أن أقرأ تحليلاتٍ أعمقَ من قبل الكتاب في منطقة الشرق الأوسط لهذه الأزمة؛ علماً بأنَّ المهاجرين، وهم الأبطال الحقيقيون في هذه الأزمة المأساوية، قدموا بشكل رئيسي من دول شرق أوسطية: العراق وسوريا واليمن والصومال وأفغانستان... وغيرها. وكنت أتوقع أن تثير هذه الأزمة تساؤلات ومراجعات لإحدى المسائل الأساسية التي ينشغل بها العالم وينقسم حولها انقساماً عميقاً، وهي مسألة الديمقراطية التي وعد الغرب طوال العقدين الماضيين بتحقيقها في هذه الدول؛ أي الدول التي هجرها ويهجرها لاجئون في موجات متتالية ليست الأزمة الأخيرة إلا موجة جديدة منها.
وبما أنني لم أقرأ ما أتمنى قراءته، فأحب أن أشارك أصدقائي القراء تأملاتي التالية حول الموضوع:
أولاً: إذا كانت أزمة اللاجئين الأخيرة تعني صراعاً جيوسياسياً بالنسبة للأوروبيين، فهي تعني مأساة حقيقية بالنسبة للعرب. أقول ذلك لأني أعرف، من خلال تجربتي الشخصية، أن العراقي والسوري والتونسي والجزائري وغيرهم من العرب، مثل بقية شعوب الأرض، يتمتعون بالعزّ والكرامة، ويفضلون الأمن والاستقرار، ويحبون أوطانهم، ولا يريدون هجرتها إلا إذا أجبرتهم الظروف على ذلك، فتركوها متجشمين جميع أنواع الإهانة والمعاناة، غير عابئين حتى بمخاطر الموت. إذن؛ تأتي هذه الأزمة لتذكرنا من جديد بأن المشروع الغربي لتأسيس ديمقراطيات في الشرق الأوسط الكبير قد مُني بالفشل الذريع. أما ضحايا هذا الفشل، فهم شعوب المنطقة؛ نساؤها ورجالها، شيوخها وأطفالها. وكدت أسمع الصراخ المحبوس في صدور كثير من اللاجئين المنبوذين في ليالي أوروبا الشرقية الباردة: لماذا ترفضون دخولنا لبلادكم؛ ألستم أنتم الذين دمّرتم بلداننا بشكل مباشر أو غير مباشر؟ أفلا تشعرون بتأنيب الضمير جراء ما فعلتموه وتفعلونه تجاهنا؟
ثانياً: تتيح لنا هذه الأزمة فرصة جديدة كي نتأمل في جملة من التساؤلات العميقة حول الديمقراطية. ومنها: ما الديمقراطية؟ هل هي صناديق الانتخابات لا غير؟ أم إنها تعني في جوهرها مجموعة من القيم والمفاهيم الثقافية التي ينبغي أن تترسَّخ في نفوس الناخبين قبل عملية الانتخاب؛ منها التسامح والعقلانية وتقبل الآخر المختلف واحترام هذا الاختلاف؟ وهل هناك نمط موحد للديمقراطية، فنعدّ الديمقراطية الغربية، خصوصاً النمط الأميركي، نمطاً مقدساً يجب نسخه وتطبيقه بحذافيره في بلدان أخرى؟ أم إن للديمقراطية أنماطاً متنوعة، حتى تناسب التنوع الكبير في ثقافات الدول وقيمها وعقليات شعوبها والخصوصيات التاريخية والاجتماعية لها، وبالتالي يحق لكل دولة استكشاف النمط الديمقراطي المناسب لها؟ وهل هناك مرجعية مطلقة مفوضة إطلاق الحكم على الغير، فتقسم العالم إلى عالم ديمقراطي وآخر شمولي أو استبدادي... إلى عالم متحضر وآخر وحشي... إلى عالم الأنا، وعالم الغير؟ أم إن هذه المرجعية لا تتمتع بأي شرعية قانونية أو أخلاقية، وإن هذا التقسيم لن يحقق إلا مزيداً من استقطاب العالم وتمزقه، وإن تشويه الآخر المختلف وشيطنته يناقض الروح الديمقراطية نفسها؟ وهل الديمقراطية دواء سحري يصلح لعلاج كل أمراض العالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ أم إن هذا الدواء يحمل في داخله السموم أيضاً إذا أُسيء تناوله، وقد ظهرت آثارها الجانبية القاتلة في العديد من الدول التي اندلعت فيها ثورات «الربيع العربي» المطالبة بالديمقراطية؟ هذه التساؤلات وغيرها تثار لا لإيجاد أجوبة جاهزة عنها؛ إنما لكي نزيل الإطار الذهبي الوهمي حول الديمقراطية، ونتأمل في المسائل المتعلقة بها بعقلانية وواقعية، بوصفها وسيلة سياسية من أجل تحقيق سعادة الإنسان ورفاهية المجتمع، لا بصفتها غاية ماورائية تعلو ولا تُعلى.
ثالثاً: يتضح مع مرور كل يوم أنَّ النمط الديمقراطي الأميركي نفسه أبعد ما يكون عن الكمال، وأن المجتمع الأميركي يعيش اليوم أزمات عميقة تهدد بتمزيق نسيجه وتقويض وحدته، مثل الاستقطاب السياسي والآيديولوجي، والتفاوت الطبقي، والتمييز العنصري، وانتشار الأسلحة والجرائم والمخدرات، والإدمان على الحروب والتدخل في شؤون الآخرين.
فبأي حق تحرص الدولة الأميركية على نشر؛ بل فرض ديمقراطيتها المريضة في أنحاء العالم؟
أليس من الأفضل أن تركز جهودها في إصلاح ديمقراطيتها وتحسين شؤونها الداخلية وعلاج أمراضها المزمنة؟ وهل حقاً الإدارة الأميركية تهتم بحقوق الإنسان الصيني، أو العربي، أكثر من اهتمامها بحقوق الإنسان الأميركي؟ وأخيراً؛ إذا كانت الحكومات الغربية تحترم حقوق مواطنيها في رفض أخذ اللقاحات ضد فيروس «كورونا» التي يشكون في فاعليتها أو يخافون من آثارها الجانبية، فلماذا لا تحترم حقوق البلدان الأخرى في رفض نمطها الديمقراطي الذي تشك في فاعليته؛ بل ثبت فشله مراراً وتكراراً؟
في الختام؛ أقول كل ذلك لا لكي أنكر أنَّ كل مجتمع تواجهه مشكلات مختلفة، وأن أميركا لا تزال تحظى بميزات وإيجابيات كثيرة، ولا لكي أشجع الحكومات على التهرب من واجب استكشاف النمط الديمقراطي المناسب لها، أو أدافع عن الأنظمة التي تمارس الظلم والطغيان ضد مواطنيها، بل لأؤكد ضرورة التعايش السلمي والتنافس الإيجابي والتعلم المتبادل بين التجارب السياسية المختلفة. وعلينا أن ننظر إلى السياسة بالنظرة التي كان يتحلَّى بها الحكيم الصيني القديم سون تسي (Sun Zi) في كتابه الخالد بعنوان: «فن الحرب»، حيث قال عن الحرب: «إنها من جلائل أمور الدولة؛ حيث يكمن الموت أو الحياة. وإنَّها طريق تؤدي إلى الوجود بقدر ما تؤدي إلى الهلاك. فلا يمكن إلا النظر فيها بعناية وتأنٍّ».
(الشرق الأوسط اللندنية)