ارتفعت تكاليف الشحن بقوة هذا العام، ومن المتوقع استمرار ارتفاعها وتضاؤل فرص عودتها للمستويات السابقة للجائحة في الأمد القريب. وتفيد مصادر متعددة بارتفاع تكاليف الشحن هذا العام بما لا يقل عن ثلاثة أضعاف مستويات ما قبل الجائحة، ووصلت في بعض الخطوط الملاحية أحيانا إلى ثمانية وحتى عشرة أضعاف. وترجع الزيادات الحادة لتكاليف الشحن البحري لأسباب متعددة؛ كالارتفاع المفاجئ وغير المتوازن للطلب، وتركزه في السلع والمنتجات المنقولة بحرا، واحترازات جائحة كورونا، وقلة بدائل الشحن البحري وارتفاع تكاليفها، وبطء التوسع في قدرات الشحن البحري، وازدحام الموانئ وتكدس البضائع بها، ونقص التخزين، وأزمات سائقي الشحن في بعض البلدان المتقدمة، وارتفاع أسعار الوقود.
تباينت درجات تعافي الاقتصادات العالمية، خصوصا في مجال الصادرات والواردات، حيث ما زالت بعض الدول تصدر أقل من المستويات السابقة للجائحة، بينما تمكنت دول أخرى من التعافي؛ ما أوجد نوعا من الإرباك في خطوط الشحن وإلغاءات الإبحار أو عودة بعض السفن والحاويات على الخطوط بحمولات منخفضة أو فارغة. من جهة أخرى، تسببت إغلاقات الموانئ ومعوقات وازدحام عدد من الموانئ العالمية الرئيسة في تأخر مواعيد السفن، وانخفضت الثقة بتواريخ الشحن إلى أدنى مستوياتها خلال عشر سنوات. وتعاني بعض الموانئ العالمية الكبرى من تأخر مستوردي البضائع في تسلمها؛ نظرا للزيادة الحادة في طلبات الاستيراد وانخفاض قدرات التخزين عند المستوردين؛ ما أعجزهم عن تسلم بضائعهم وبطء قدرات الموانئ في تمرير السلع والمنتجات. إضافة إلى ذلك، شهدت بعض دول العالم؛ كالولايات المتحدة وبريطانيا، عجزا في سائقي الشاحنات؛ الأمر الذي أضاف مزيدا من المتاعب للمستوردين في تسلم بضائعهم. ويعيق ازدحام الموانئ بالسفن والبضائع حركة الملاحة والشاحنات ويؤخرها لساعات طويلة، ويخفض العرض الفعال للسفن وكفاءة النقل البحري والشاحنات.
تسببت احترازات الجائحة في منع تغيير طواقم السفن مرات عديدة وأنقصت القوى العاملة لدى الموانئ أو حتى أغلقتها أحيانا؛ ما خفض كفاءة تفريغ وشحن البضائع والسلع. وتفيد بعض المصادر، أخيرا، بأن إجراءات الصين الحازمة ضد انتشار الجائحة تؤخر رسو السفن، كما تولد عجزا في عمالة الموانئ أحيانا. وعادت المخاوف بشأن الجائحة في الصين؛ ما رفع مدد تأخر رسو السفن في بعض الأحيان إلى 16 يوما.
ازداد الطلب على سفن الحاويات بقوة خلال السنوات الأخيرة، وارتفع بمعدلات قياسية العام الحالي وهو ما عرضها لضغوط هائلة، وليس من المتوقع تراجع الضغوط إلى المستويات الاعتيادية قبل 2023. أجبر نقص الحاويات الحاد بعض المستوردين على تأجيل استيراد البضائع غير الضرورية، كما يقال إن هناك سوقا سوداء للحاويات بأسعار مرتفعة جدا. وزاد الطين بلة أن هناك كثيرا من الحاويات في المكان الخطأ. وترتفع شكاوى في الولايات المتحدة بسبب النقص الكبير في الحاويات التي يعاد إرسالها فارغة إلى آسيا؛ للحصول على المنتجات الأغلى ثمنا بدلا من تحويلها للمزارعين الأمريكيين لشحن الحبوب إلى آسيا؛ ما أضر بالصادرات الزراعية الأمريكية.
تشكل تكاليف الشحن جزءا منخفضا من تكاليف السلع والبضائع، إلا أن ارتفاعاتها الحادة ستؤثر بشكل سلبي في المستهلك، حيث ستضاف إلى أسعار السلع والمنتجات. وسترتفع تكاليف السلع والمنتجات منخفضة القيمة وثقيلة الوزن بنسب أكبر من السلع غالية الأثمان. ويقدر بعض المصادر أن قفزة تكاليف الشحن قد ترفع معدلات التضخم بنقطة أو نقطتين مئويتين في الولايات المتحدة وأوروبا هذا العام، ولا يقتصر الأمر على ذلك، حيث ستقود الزيادات الحادة في تكاليف الشحن إلى خفض الميزات التنافسية لبعض السلع والمنتجات من جهات معينة؛ ما قد يؤثر في توافرها في الأسواق أو حتى انقطاعها. وتشكل تكاليف الشحن جزءا كبيرا من تكاليف بعض المنتجات؛ كالأثاث منخفض الثمن ومواد البناء والأخشاب وهي الأكثر حساسية له. في المقابل، أدى الارتفاع الحاد في أسعار الشحن والحاويات بشكل خاص، إلى ارتفاع كبير في إيرادات وأرباح شركات الشحن، وكما يقال مصائب قوم عند قوم فوائد. ويفيد بعض المصادر بارتفاع تكاليف الشحن للخليج العربي من بعض الدول الآسيوية؛ كاليابان والصين بسبب المعضلات التي تشهدها الموانئ الآسيوية.
من المتوقع ازدياد الطلب على الشحن البحري بمعدلات تفوق نمو أسطول النقل العالمي هذا العام والعام المقبل، وهذا يرفع الضغوط على الشحن البحري وأسعاره. ويرجح بعض المختصين عدم تراجع تكاليف الشحن البحري عاجلا، وقد لا تعود لسابق مستوياتها مستقبلا. ولهذا سنرى ارتفاعا ملحوظا في أسعار بعض المنتجات القادمة من أماكن بعيدة نسبيا، وقد تتراجع وفرتها. ويتطلب الانسجام مع الوضع الحالي من الأعمال تغيير استراتيجياتها للحد من آثارها السلبية، حيث سيدفع ارتفاع تكاليف الشحن إلى إعادة ترتيب مصادر بعض الواردات ووجهات الصادرات إلى المواقع الأقرب جغرافيا، كما سترتفع جاذبية المنتجات المحلية. إضافة إلى ذلك، سيحفز ارتفاع تكاليف وتعقيدات الشحن انتقال بعض الصناعات من دول معينة كالصين إلى دول أخرى كفيتنام. وتولد زيادة تكاليف النقل فرصا لمنطقتنا لاستغلال الميزات الجغرافية لها، وتنمية قدراتها اللوجستية والصناعات الأكثر حساسية للنقل البحري.
(الاقتصادية السعودية)