يجب ألا تحسب السنتان الأخيرتان من حياتنا بسبب التعطيل الذى فرضته الجائحة. يجب ألا تحسب السنوات العشر الماضية من حياتنا فى المنطقة العربية عموما بسبب الدمار الذى خلفته الحروب والاضطراب الذى حل بالبلاد. يجب ألا تحسب السنة التى توفى فيها صديق أو أخ بسبب الحزن العميق الذى ضرب القلب. يجب ألا يحسب شهر من المرض. وألا تدخل سنوات فقدت الجدة فيها الذاكرة فى الحسبان أيضا. ويجب أن تتوقف الساعة عن الدوران عندما مات الجد.
•••
ماذا نحسب من الوقت إذا حين نقيم ما إذا كانت حياتنا سعيدة؟ لو قصصت حلقات الفرح والبهجة ووصلتها كلها ببعضها البعض كشريط السينما القديم، هل بإمكانى أن أرمى الأحزان أو أضعها بين قوسين فتسقط من العملية الحسابية؟ فى التطبيقات الجديدة أصبح من السهل قص أحداث كاملة أو محو لحظات من أى مناسبة والاكتفاء بالأجزاء التى تعجبنا. هكذا أمر على صور مخزنة فى ذاكرة هاتفى رغم أننى لست بمصورة ماهرة وأرى لحظات كلها جميلة وسعيدة وفرحة. أعود بمسحة من إصبعى سنوات إلى أماكن عشت فيها منذ اختراع هذا النوع من الهواتف، أى منذ أكثر من عشر سنوات، فأرى ضحكات وأعياد ميلاد وحفلات تخرج وأعراس وولادة أطفالى وأطفال غيرى. أرى بعض الصور من مناطق حروب ودمار فأستغرب أننى لم أمحها إذ أقرر فجأة أنه لو وقع هاتفى بيد أطفالى بعد رحيلى أريدهم أن يلصقوا كل هذه الصور السعيدة ويتذكرونى وأنا أغنى «تك تك تك يا أم سليمان» أو أزين كعكة عيد ميلاد أو أشارك أحدهم فرحته بالتخرج من المدرسة.
•••
قد تكون التجارب القاسية هى التى تعلم دروس الحياة، فتجبر من يعيشها أن يواجهها ويحاول أن يحلها أو أن يستسلم لها. قد تكون اللحظات الشديدة أكثر تأثيرا على تكوين الشخصية من اللحظات السهلة، لكن فى عملية القص واللصق التى أقوم بها أريد أن أسقط الصور الصعبة والموت والترحال والمرض والخرف والضعف وأخيط وألصق كل ما هو جميل علنى أمسك بيدى لحافا كالذى أراه فى المجلات وهو عبارة عن قصاصات ملونة محبوكة معا فى مربع كبير بهيج.
•••
صادف الأسبوع الماضى الذكرى الثانية لرحيل صديق. فكرت فى زوجته وفى قلة الحيلة أمام الغياب. لو كنت مكانها لفردت على جسدى لحافا خيطته من أوقات حبى له منذ التقيته. لو كنت مكانها لكنت أسقطت من الحساب سنوات المرض والحزن الذى تبع رحيله وجلست معه أضحك وأشاكسه فى صباح يوم جمعة خريفى كسول غاب هو فيه. «عمرى ضايع يحسبوه ازاى على» تسأل أم كلثوم حبيبها وهى تتحدث عن حياتها قبل أن تلتقى به.
•••
بالورقة والقلم: كم من الأوقات سعيدة ويجب الاحتفاظ بها بالمقارنة مع ما يجب قصه من الذاكرة؟ أظن أن «الدنيا حظوظ» كما كانت تقول الجدة، وأن للبعض أقواس قزح تلون سماءهم منذ الصغر بينما تهب عواصف لا تنتهى بآخرين. أنظر أحيانا إلى صور أراها على وسائل التواصل الاجتماعى لأطفال تعلو وجوههم أبهج الضحكات فأبتسم ثم أرى أرجلهم الحافية فى الثلج أو خيم يعيشون فيها جرفتها الأمطار. هنا لحظات ملونة وسط الضباب، هنا ضحكات طفولية يغطى عليها صوت الرعد لكنها تعود.
•••
ماذا أقص وماذا ألصق إن كنت أريد أن أرتب أوراقى وأقول «لقد كانت حياتى عامرة بالأحداث»؟ سوف ألصق صورا لا تنتهى عن لقاءاتى بالأصدقاء خصوصا وإن توسطت اللقاء مائدة، لا يهم ما عليها ولا ضرورة لأن يكون ما عليها فاخرا، المهم مشاركتى وأصدقائى اللقمة. سوف ألصق أيضا صور أطفالى لتذكرنى أن بسنوات مضت منذ رأيت عيونهم للمرة الأولى وتساءلت إن كانوا فعلا أولادى. أظن أننى سوف ألصق أيضا صور من أيام الدراسة، أى دراسة، ففى الدراسة الكثير من الأسرار، هل تذكرون بعضها؟ سوف أرفق بعض الصور عن أماكن أحببتها، قد تكون ناصية شارع فى القاهرة أو حارة فى دمشق أو سطح عمارة فى مكان لا أذكره إنما أذكر اعتناء أصحابه بالزرع فيه.
•••
مع التقدم بالعمر صرت أقص المنغصات، أرميها وأتصالح مع حدوثها حتى لو لم أتصالح مع من كان فيها. قد لا أتصالح مع صديقة اختلفت معها لكنى تصالحت مع أن الموقف حدث ولا يمكننى أن أغيره. ذكريات قص ولصق سوف تساعدنى على التصالح عموما وعلى مسامحة نفسى وغيرى علنى أتخلى أخيرا عن تسربات بقيت فى قاع العلاقات كباقى البن فى فنجان القهوة. أقص الحزن وألصق الفرح، حتى إن وقع الشريط يوما ما فى يد أحد أطفالى، سوف يرون أننى أيضا حسبت سنواتى على عدد لحظات الفرح ورميت الباقى خلفى.
(الشروق المصرية)