سأحاول الجمع بين تجربة نفق سجن كفاريونا وهذه التجربة، وبالمناسبة نفق سجن كفاريونا نجح فيه اثنان من الأسرى في انتزاع حريتهما سنة 1996، وهما توفيق زبن وغسان مهداوي، حيث كنت في ذاك السجن حينها كشاهد عيان واطلعت فيما بعد على كافة التفاصيل، فكتبتها في قصة سمّيتها النفق وفيما بعد أخرجت مسرحية عام 2010.
بداية لست من الذين يحوّلون كلّ شيء إلى انتصارات، بل مع التقييم الموضوعي بعيدا عن العواطف والمشاعر، وكذلك مع التريّث قليلا حتى تنجلي الصورة ونتمكّن من رؤية الحدث من أغلب زواياه بعيدا عن الوقوع في براثن إعلام الأعداء المغرض، والموظّف بطريقة شرسة ومخادعة وكاذبة بامتياز.
والسؤال المهم في حدث تمكّن فيه ستة أسرى من التحرّر من سجن جلبوع عبر نفق حفروه هو: ماذا حقّقوا وهل نجحوا في الوصول إلى أهدافهم كلّها أو جزء منها؟
بلا شك أنهم لم يصلوا إلى أهدافهم بنسبة مائة في المائة، إذ أن الهدف الواضح هو الحريّة بكل ما تعنيه الكلمة والاستمرار في الحياة خارج السجن. ولكن هل ثمّة أهداف أخرى تحقّقت؟ وهي بالمناسبة قد لا تقلّ أهمية عن حياة ستة فلسطينيين خارج السجن، لنا أن نسرد بعضا منها لنرى الحياة التي تحقّقت بخروج هذا النفر من سجنهم، ولنا أن نسرد ذلك على لسان حالهم حيث يقول:
- أولا بخصوص الهزيمة الأمنية التي منيت بها استخبارات السجون، فقد أوصلتها إلى الحضيض، وحيث هي في حالة من الهوس الأمني في الوضع الطبيعي فماذا وقد اخترقت كل تحصيناتها؟ وهنا أقارن بين النفق الذي شقّ طريقه تحت سجن كفاريونا عام 1996 حيث كانت الأرض هناك رملية يسهل حفرها ويسهل تسريب رملها في دورة المياه، بينما جلبوع في منطقة جبلية.
وبعد الهروب من سجن "كفاريونا"، اتخذ الاحتلال قرارا بصبّ طبقة مسلحة من الباطون والحديد لكل أرضيات الطوابق الأرضية في كل السجون، إضافة إلى طبقة من مادة بلاستيكية (وهذا كلّفهم مئات الملايين) مع مضاعفة الجهود الالكترونية واليدويّة ومع هذا حفرنا النفق وخرجنا من هذه القلعة المحصّنة. هذا من شأنه أن يضاعف درجة الهوس الأمني الذي يعيشونه بطبيعة الحال وهذا سوف يكلّفهم كثيرا ماديّا ومعنويا.
- لقد أرينا العالم كلّه خاصة أحراره وبأم عينيه أن هناك ظلما رهيبا؛ من احتلال غاشم ويمارس الظلم بكل أشكاله البشعة ومنذ فترة طويلة من الزمن على شعب محتل وأسرى قابعين في سجونه منذ عشرات السنين، وهذه مهمة لضرب صورة الاحتلال الذي ينفق على إظهارها بصورة حسنة أموالا طائلة وجهودا جبارة. وهذا ما حصل في فترة عملية سيف القدس والتي وقف معظم أحرار العالم فيها مع القضية الفلسطينية.
فلا بدّ بين الحين والآخر أن يطرق الشعب الفلسطيني جدران الخزان بكل قوة، لقد طرقنا نحن الستة جدران الخزان ليسمع العالم كله صداه، وقبل العالم لنسمع شعبنا وكل عربي ومسلم، ولتسري الدماء في العروق وليستيقظ الغافلون من غفلتهم، ولنعيد البوصلة تجاه هذه القضية العظيمة؛ قضية الإنسان الفلسطيني العاكف منذ عشرات السجون في زنازين القهر والعذاب. فهل وصلت أحرار شعبنا الرسالة كما وصلت كلّ آفاق الدنيا وأقطارها؟ وهل نجحنا في تسليط الضوء بقوّة من جديد على قضيتنا، قضية فلسطين؟ وهل نجحنا بتسليط ضوء مثله على هذا المشروع الفاشي النازي المجرم، فنجحنا بإظهاره بالصورة التي يستحقها؟ أعتقد أننا نجحنا أيما نجاح ونحن نظهر هذا الفلسطيني الذي يخترق حديد جبروت قهرهم ويخرج للعالم بكلّ عزّة وإباء بروح مثابرة قويّة شامخة تستحق الحياة.
- أمّا عن رسالتنا الثانية فلم نشأ كتابتها على الورق وإرسالها كبسولة.. كان بالإمكان أن نسطر ببلاغة اللغة والبيان أقوى العبارات وأعمق الكلمات وأعظم التشبيهات، كان بإمكاننا مثلا أن نقول: أما آن لنا أن نتحرّر بعد هذه السنوات التي تجاوزت على بعضنا الثلاثة عقود؟ لقد كلّ وملّ منّا حديد السجن دون أن ينال من أرواحنا، لقد عملت سنوات السجن في أعمارنا، أشعلت الشيب في رؤوسنا ودبّت الشيخوخة في أجسادنا. أما آن لفرسانكم أن يترجّلوا ولو قليلا؟ لقد فقدنا كثيرا من أحبابنا دون أن نلقي نظرة وداع أخيرة.. أتدرون ماذا يعني عقد من الزمان خلف القضبان؟ ماذا عن عقدين أو ثلاثة؟
لا أريد الاستمرار في رسالة كلامية، إذ آثرنا أن نصدّر رسالة تكتب بملعقة، رسالة طولها نفق بخمسة وعشرين مترا، رسالة تخترق جدران الأمن الصهيوني وتصل بعنفوان إرادة رجالها إلى العالم أجمع، لقد آثرنا أن تكون رسالتنا رسالة عزة وكرامة وانتصار، رسالتي تثبت أن هذا المعزول والمجرّد من كلّ شيء يستطيع الانتصار، فما بال من هم طلقاء ويملكون كثيرا من الإمكانات؟ رسالتنا بهذه الطريقة ستكون أبلغ وأقوى وأعمق وأوسع انتشارا، وقد تحقّق هذا تماما كما أردنا وزيادة.
- لقد نجحنا أيضا نجاحا منقطع النظير في رفع المنسوب الثوري لدرجة عالية في قلوب أبناء شعبنا، رفعنا راية الثورة والتحرير وأثبتنا أن هزيمة هذا العدوّ ممكنة، وأن عدونا مهما كانت قوته فإن بإمكان الضعيف أن يضرب بنقاط قوّته نقاط ضعف عدوّه فينتصر ويتفوّق عليه. وهذه قاعدة مهمة من قواعد الاشتباك، لقد نجحنا في إظهارها للناس وبأبهى صورها الممكنة.
- ولقد نجحنا أيضا في أن نتفوّق على هذا العدو المجرم بأخلاقنا، فأظهرناه بصورته الحقيقية كالضباع الضالّة التي فاحت رائحتها وظهرت مخالبها بعيدا كلّ البعد عن الصورة التي يدّعيها، انقلب بكلّ توحّش وشراسة ينكّل بالمعتقلين في كلّ السجون والذين لا ناقة لهم ولا بعير في ما جرى في جلبوع. أخرج مخالبه وعوى عواءه القذر بكلّ صلافة وصفاقة؛ في عدوان سافر على أناس أسارى ليسوا في ميدان معركة وقتال وإنما في سجون دون أية إمكانيّات للمواجهة، بينما هو مسلّح بكلّ إمكانيات البطش والتنكيل. أصبحت الصورة واضحة بمجموعتين من البشر: أسرى مكبّلون ومحاصرون ووحوش مفترسة تتناوشهم بأنيابها المفترسة من كلّ مكان.
- ولقد نجحنا أيضا في إرسال رسالة بليغة لفصائلنا ومن جنّدنا وجنّد أسرانا (وهذا حق يجب أن يقال): إلى متى تنتظرون الإفراج عنا؟ ماذا أنتم فاعلون لإخراجنا من هذه السجون؟ ماذا فعلتم وماذا تخططون؟ وماذا تبذلون؟ صحيح أن هناك من يحاول ويفرغ جهدا كبيرا من جهده في هذا المضمار، ولكن ماذا تفعل البقيّة الباقية؟ ماذا فعلت لأسراها الذين أمضوا العشرات من السنين؟ هذه رسالة داخلية نقولها لكم بلغة لا لبس فيها.
فهذه هي الرسائل التي كتبناها بلغة عرقنا ودمنا وأعصابنا وصبرنا ومصابرتنا ومثابرتنا وقدراتنا العقلية والجسدية وخبراتنا الأمنية مقدمين بين ذلك كله سنوات عمرنا التي أفنيناها في السجون، فهل وصلت الرسالة؟ وهل تحقّق ما كنا نرجوه؟ لقد تحقّق على ما نعتقد أكثر من 90 في المائة، وأن مسألة إعادة الاعتقال لم تكن غائبة عن أذهاننا لأن نهاية كلّ مطارد معروفة لنا؛ اعتقال أو شهادة. الأهم أن المنسوب الثوري والتحرّري قد ارتفع في نفوس أحرار شعبنا، وهذا هو الذي يبشّر بحرية عزيزة لنا ولكلّ أسرانا.
عملية جلبوع.. عندما ينجح الأسرى ويفشل الناشطون