هالني المسار الذي أفضى إليه الحوار، وأفزعتني مقاربة صديقي
المغرم بالتشابهات التاريخية، فرحت أدقق مصادره، وحين استوثقت منها أردت مشاركتكم في
ما توصلت إليه، لتحكموا بأنفسكم على المدى الذي وصل إليه تجاهل السلطة في مصر لشكوى
الناس.
بدأنا بتعليقات ساخرة، كافتتاحية "تراثية" مصرية،
عن التضاد والصراع بين الأصفر والأخضر، الزرع والصحراء، فسكان الضواحي "الراقية"،
في مصر الجديدة والمعادي والزمالك، بلغت شكواهم، من تعمد إزالة الأشجار والورود من
الشوارع والميادين، ذروتها، وقاموا بكل ما يمكنهم من التنبيه على خطورة ما يجري، والنصح
ببدائل معقولة وغير مكلفة، وكتابة عرائض، ورفع دعاوي، لكنهم لم يجدوا آذانا صاغية،
ولم يعد أمام بعضهم من حلول سوى الهجرة، داخليا أو خارجيا.
وكنا أمام وقائع محددة لا لبس فيها، فما يجري من شق طرق وجسور
جديدة، وتوسعة للقديم غير مسبوق، وعندما أردنا المقارنة أصر صديقي على أن المقارنة
الدقيقة لا بد أن تكون مع ما جرى وفق بنود معاهدة 1936، فاستغربت مقترحه، لكنه أصر
على أننا كي نعرف طبيعة ما يجري فيجب علينا استدعاء بنود المعاهدة، وفي تحديد أكثر
دقة، أكد أن شروط الجيش البريطاني للموافقة على المعاهدة هي فقط ما سينير لنا
"المعضلة" الثلاثية: المدينة والطرق والأشجار.
وزعمت أن المدخل "التاريخي المقارن" ليس صائبا
دائما، فقال: لتنظر أولا، ثم احكم هل سينير طريق الفهم أم لا. قلت: أريد نقاشا متعلقا
بالثقافة والحضارة ومعيشة الناس، وليس نقاشا سياسيا، فقال: الأمر كذلك، فأنا اقترح
مقاربة ثقافية وليست سياسية، ولا حتى أمنية، مع أن أسلوب إدارة الموضوع برمته سياسيا-
أمنيا، لكني أريد وضعه في إطار ثقافي وحضاري شامل.
سألت: ماذا في معاهدة 1936 يفيدنا في وضعنا الحالي، الذي
قد لا نختلف كثيرا في تقدير الحاجة لحلول جذرية لمسائل: التكدس والاختناق المروري،
والزحام الذي يهدر الوقت والطاقة، وإعادة توزيع "المركز" وعلاقاته بالأطراف
الناتجة عن قرار إنشاء عاصمة جديدة للبلاد؟
فأجاب: دعنا من موضوع العاصمة جانبا، على خطورته البالغة،
ولنركز على أسلوب التعامل مع معضلة الحاجة لحلول جذرية متعلقة بالطرق والمحاور الرئيسية
التي نحتاجها، وكيفية معالجة ما يعترضها من تجمعات سكنية، أو منشآت، ومن بينها بالأساس
الفضاءات الخضراء داخل تلك التجمعات.
وواصل: دعوتك للنظر إلى بنود معاهدة 1936، لأنها هي التي
أنشأت ما نعرفه من محاور وطرق رئيسية تربط بين العاصمة ومختلف الأقاليم الجغرافية المصرية.
وإليك التفصيل: المادة الأهم في معاهدة "الصداقة والتحالف"
التي عقدتها المملكة المصرية وبريطانيا العظمى، والتي وقعها نيابة عن صاحب الجلالة
ملك مصر، حضرة صاحب الدولة، مصطفى النحاس باشا رئيس مجلس الوزراء، في لندن في 26 آب/
أغسطس سنة 1936، هي المادة الثامنة، وهذا نصها: "بما أن قنال السويس الذي هو جزء
لا يتجزأ من مصر. هو في نفس الوقت طريق عالمي للمواصلات. كما هو أيضا طريق أساسي للمواصلات
بين الأجزاء المختلفة للإمبراطورية البريطانية فإلى أن يحين الوقت الذي يتفق فيه الطرفان
المتعاقدان على أن الجيش المصري أصبح في حالة يستطيع معها أن يكفل بمفرده حرية الملاحة
على القنال وسلامتها التامة، يرخص صاحب الجلالة ملك مصر لصاحب الجلالة الملك والإمبراطور
بأن يضع في الأراضي المصرية بجوار القنال بالمنطقة المحدودة في ملحق هذه المادة قوات
تتعاون مع القوات المصرية لضمان الدفاع عن القنال. ويشمل ملحق هذه المادة تفاصيل الترتيبات
الخاصة بتنفيذها".
فموجب هذه المادة أصبح وجود القوات البريطانية في منطقة القناة
وفي الإسكندرية "مشروعا"، ولأنه، بموجب مواد أخرى، قد خرجت القوات البريطانية
من باقي المدن المصرية، فقد ألزم ملحق المادة الثامنة الحكومة المصرية بتهيئة الظروف
لتحرك القوات البريطانية في حال الطوارئ والحرب على مختلف المحاور داخل مصر، وصولا
للسودان، وهنا تبرز البنود (6، 7، 8) في هذا الملحق، المتعلق بالطرق البرية والجسور
والسكك الحديدية، وسوف أوردها لك، على طولها، كي تصلك الأسس التي بنيت عليها فكرتي
بدقة.
(6) تحقيقا لبرنامج الحكومة المصرية في تحسين الطرق ومواصلات
السكك الحديدية في القطر المصري ولإبلاغ وسائل المواصلات فيها مستوى حاجات الفنون الحربية
الحديثة ستتولى الحكومة المصرية إنشاء الطرق والكباري والسكك الحديدية المبينة بعد
وصيانتها:
(أ) الطرق:
(1) بين الإسماعيلية والإسكندرية عن طريق التل الكبير والزقازيق
وزفتى، وطنطا وكفر الزيات ودمنهور.
(2) بين الإسماعيلية والقاهرة عن طريق التل الكبير ومنه يستمر
على ترعة المياه الحلوة إلى هليوبوليس.
(3) بين بورسعيد والإسماعيلية فالسويس.
(4) مواصلة بين الطرف الجنوبي للبحيرة المرة الكبرى والطريق
الممتد من القاهرة إلى السويس على مسافة خمسة عشر ميلا تقريبا غربي السويس.
ولإبلاغ هذه الطرق المستوى العام للطرق الجيدة الصالحة لحركة
المرور العامة سيكون عرضها عشرون قدما ويكون لها تحويلات حول القرى... إلخ. وتنشأ من
مواد من شأنها أن تجعلها صالحة دائما للانتفاع بها في الأغراض الحربية. وأن تنشأ بحسب
ترتيب أهميتها سالف الذكر. وأن تطابق المواصفات الفنية المبينة بعد وهي المواصفات المعتادة
للطرق الجيدة الصالحة لحركة المرور العام.
وتكون الكباري والطرق صالحة لتحمل صفين كاملين من سيارات
النقل الميكانيكي الثقيلة ذات الأربع عجلات. أو ذوات الست عجلات أو من الدبابات المتوسطة
الحجم. ففيما يتعلق بالسيارات ذات العجلات الأربع يكون البعد بين الدنجل الأمامي لأية
سيارة، وبين الدنجل الخلفي للسيارة التي أمامها عشرين قدما ويكون الثقل على كل دنجل
خلفي أربعة عشر طنا وعلى كل دنجل أمامي ستة أطنان وتكون المسافة بين الدنجلين ثماني
عشر قدما وفيما يتعلق بالسيارات ذات العجلات الست. تكون المسافة بين الدنجل الأمامي
لكل سيارة منها وبين الدنجل الخلفي للسيارة التي أمامها عشرين قدما والمسافة بين الدنجل
الخلفي والدنجل الأوسط أربع أقدام وبين الدنجل الأوسط والدنجل الأمامي ثلاثة عشر قدما
ويكون الثقل على كل من الدنجلين الخلفي والأوسط 8.1 أطنان وعلى كل دنجل أمامي أربعة
أطنان أما الدبابات فتقدر باعتبار أن وزنها 19.25 طنا وطولها الكلى خمس وعشرون قدما
والبعد بين مقدم إحداها ومؤخر السابقة لها رأسا ثلاث أقدام ويكون ثقل الـ19.25 طنا
محملا على شريطين يرتكزان على مسطح قدره ثلاثة عشر قدما من الطريق أو الكوبري.
(ب) السكك الحديدية:
تزاد تسهيلات السكك الحديدية في منطقة القنال وتحسن لسد حاجة القوات بعد زيادتها في تلك المنطقة ولتسهيل سرعة نقل الرجال والمدافع والعجلات والمهمات بالقطارات وفقا لما تقتضيه حاجة الجيوش الحديثة.
ويرخص بموجب هذا لحكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة
بأن تنشئ على نفقتها الخاصة ما قد تقتضيه حاجات القوات البريطانية في المستقبل من الإضافات
والتعديلات على السكك الحديدية. فإذا مست هذه الإضافات أو التعديلات الخطوط الحديدية
المستعملة للنقل العام وجب الحصول على إذن ذلك من الحكومة المصرية.
يجعل الخط بين الزقازيق وطنطا مزدوجا.
يحسن الخط بين الإسكندرية ومرسى مطروح ويجعل دائما.
7. فضلا عن الطرق المبينة في الفقرة السادسة (1) السالف ذكرها.
وللأغراض ذاتها ستنشئ الحكومة المصرية الطرق المبينة بعد وتقوم بصيانتها:
الطرق من القاهرة بمحاذاة النيل جنوبا إلى قنا وقوص.
من قوص إلى القصير.
من قنا إلى الغردقة.
وستنشأ هذه الطرق والكباري التي تقام عليها وفق المستوى المبين
في الفقرة السادسة السالف ذكرها.
وقد لا يتيسر إنشاء الطرق المشار إليها في هذه الفقرة والطرق
المبنية في الفقرة السادسة في وقت واحد ولكنها ستنشأ في أقرب وقت مستطاع.
8. وحينما تتم الأماكن المشار إليها في الفقرة الرابعة على
ما يرضى الطرفين المتعاقدين (ولا تدخل في ذلك المساكن الخاصة بالقوات التي ستبقى مؤقتا
بالإسكندرية طبقا للفقرة الثامنة عشرة الآتي ذكرها) وتتم الأعمال المشار إليها في الفقرة
السادسة السالف ذكرها (عدد السكك الحديدية المبينة في الشطرين 2 و 3 من الجزء
"ب" من تلك الفقرة) تنسحب القوات البريطانية الموجودة في أنحاء القطر المصري،
غير الجهات الواقعة في منطقة القنال والمبينة في الفقرة الثانية السالف ذكرها. مع استثناء
القوات الباقية مؤقتا بالإسكندرية وتخلى الأراضي والثكنات ومنازل الطائرات البرية ومراسي
الطائرات البحرية والأبنية التي تشغلها القوات وتسلم إلى الحكومة المصرية إلا ما قد
يكون منها ملكا للأفراد.
هذه هي البنود الثلاثة ضمن ملحق المادة الثامنة من المعاهدة.
ولتنفيذها أزيلت تماما قرى، وقطعت أشجار، واصفرت آلاف الأفدنة التي كانت تزرع من آلاف
السنين.
الأمر ثقافي وحضاري وليس سياسيا، مطلقا. ولتوضيح ما أقصده
فأنا بحاجة لمزيد من البحث والوقت، لكني أعتقد أن فكرتي وصلت في ما يتعلق بالمقاربة
التاريخية المقارنة.