الدولة الأردنية التي دخلت
مئويتها الثانية تقف على أعتاب مراجعات عميقة تتناول ملفات مهمة قد تطال شكل
العلاقة مع المجتمع ومستوى الحريات العامة وصيغ الانتخابات ونوعية المشاركة في
صناعة القرار وبناء المجتمع، الأمر الذي قد يتطلب النهوض بالأحزاب وإعادة تعريف
أدوارها والطرق التي تعمل وتدار بها وربما المساحة المتاحة لها في المشاركة.
مقارنة بالأنظمة السياسية في الدول المجاورة،
حظي الأردن بمستويات أعلى من التقدير لدى العالم، فقد كان أكثر التزاما بالأجندات
العالمية وإسهاما في خدمة الأمن والسلم العالميين، كما كان أقل مخاطرة وأكثر سماحة
في التعامل مع من يعترضون على ما يتبع من سياسات أو يخالفون وينتقدون الأوضاع
القائمة، ومع ذلك فلم تتحقق للبلاد المستويات المأمولة من المشاركة السياسية، كما
عانت البلاد من أزمات اقتصادية متتالية وتدن في مستويات المشاركة السياسية وتراجع
لمكانتها على مؤشرات الحرية والنزاهة وغيرها من المعايير التي يعتمدها العالم في
متابعته لما يجري في بلدان العالم على امتداد مساحته الشاسعة.
على مدار العقود الماضية، ومنذ استئناف
الانتخابات البرلمانية، لم يشعر الناس بملاءمة القوانين والأنظمة الانتخابية ولا
قدرتها على تمكين أبناء الدوائر من اختيار من يمثلهم، ففي أحسن الأحوال يفوز
المرشح بأقل من 15 % من أصوات الدائرة التي يترشح عنها وتذهب بقية الأصوات للعشرات
من المرشحين تاركة النائب الجديد بلا قاعدة واسعة يستند إليها، مورثة المنطقة
مرارة التقسيم والتفرقة.
حتى اليوم، لا يدرك الناس الفلسفة الكامنة
وراء هذه التجزئة والتقسيم ولا دواعي التغيير الدائم للقوانين والأنظمة الانتخابية
لدرجة أن الناس يحتاجون إلى دليل إرشادي مكتوب لفهم المنطق أو تفسير الأسباب التي
تجعل شخصا يحصل على أرقام ناخبين أعلى في دائرته يخسر لحساب شخص حصل على أرقام أقل
بحجة أن قائمة الثاني كسبت، علما أن القوائم لا ترتكز على برامج ولا إيديولوجية أو
هم مشترك. باستثناء الانتخابات التي جرت العام 1989، لا يرى الأردنيون أن أيا من
الانتخابات التي أجريت في أعقابها تعكس بدقة الرأي العام والتوجهات والمواقف التي
يحملها الناخبون في المناطق الانتخابية. ويزيد من حيرة الناس الإصرار المستمر على
تغيير الأنظمة الانتخابية قبيل كل انتخابات تجرى.
في الانتخابات النيابية الأخيرة، تراجعت نسبة
المشاركة العامة في الاقتراع لتصل إلى ما يقارب 29 % ممن لهم حق الاقتراع، واكتظت
قوائم المرشحين المعروضة على الناخبين في دوائر المملكة بأسماء لا يعرف الناس
تاريخ الكثيرين منهم؛ حيث لم يسبق لبعضهم أن أبدى اهتماما بالشأن العام، ناهيك عن
العمل السياسي، وافتقر العديد منهم للخبرة اللازمة للنظر في مشاريع القوانين
والرقابة على تنفيذ السياسات التي يحتاج لها النائب.
وبالرغم من كل هذه الملاحظات، يقبل الأردنيون
على كل مرحلة من مراحل مسيرة بلادهم ودولتهم بشيء من الأمل والرغبة في التعاطي مع
ما يطرح، فقد مل الناس الانتظار وسئموا تفسيرات البعض بأن “الأردن غير جاهز لقفزة
في المجهول”، تلك الجملة التي رددها العشرات ممن لم يريدوا للأردن التحول ورغبوا
بأن يبقى كما هو.
في دعوة جلالة الملك الحكومة والنواب، إلى
مراجعة أطر العمل السياسي وتطوير قوانين الانتخاب والأحزاب أمل جديد تسنده الرسالة
التي بعث بها لمدير دائرة المخابرات لإعادة الهيكلة والاهتمام بالقضايا الأمنية
لإتاحة المجال للمؤسسات صاحبة الاختصاص الأصيل القيام بأدوارها، وهو تحول جديد نحو
التنمية والتطوير نتمنى أن يعمل الجميع على ترجمته.
معضلة التغيير في بلادنا ليست بنقص الإرادة
لدى رأس الدولة، بل في التأويلات التي يقوم بها من يوكل لهم تنفيذ الرغبات
الملكية. كل ما أتمناه أن يقرأ النواب والحكومة ما قدمه الملك في الأوراق النقاشية
والرسائل الأخيرة، وأن يتوقفوا عن رؤية أنفسهم بأنهم الأحرص على مصلحة الوطن
والمواطن والأوصياء على البلد كما فعل كل الذين أعاقوا محاولات التغيير السالفة.
(عن صحيفة الغد الأردنية)