الكتاب: إعادة النظر في النظام الدولي الجديد
الكاتب: يورغ سورنسن، ترجمة أسامة الغزولي
الناشر: سلسلة عالم المعرفة، يصدرها المجلس الوطني للثقافة و الفنون والآداب في الكويت، العدد480، يناير 2020،(عدد الصفحات 335، من القطع المتوسط).
على الرغم من استقرار النظام العالمي الجديد على الريادة الأمريكية وسيادة اقتصاد السوق، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود حركية اقتصادية دولية لإعادة النظر ليس فقط في الريادة الأمريكية، وإنما في الخارطة الدولية بشكل عام.
كتاب "غعادة النظر في النظام الدولي الجديد"، وهي من إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، وهو في الأصل للكاتب الدنماركي "يورغ سورنسن"، وقام بترجمته أسامة الغزولي، يعمل على تفكيك مقومات النظام العالمي الجديد ورهانات إعادة تشكيله في ظل استمرار الهيمنة الأمريكية.
وقد سبق لـ "عربي21"، أن نشرت قراءة أولى للكتاب بقلم الكاتبة والباحثة الأردنية عبير فؤاد، وننشر اليوم وجهة نظر جديدة لذات الكتاب بقلم الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني، تعميقا للحوار أولا، ولفهم أكثر شمولا لتوجهات العالم اليوم.
في نعت الليبرالية
هل يجوز نعت الليبرالية الجديدة، أو الليبرالية العولمية، أو الليبرالية المتوحشة "ديكتاتورية الأسواق "و"ديكتاتورية تقنيات الاعلام الجماهيري"، بالتوتاليتاتورية؟ .
دأبت الإيديولوجيا السائدة في الغرب على نقد ووصف النظام الشيوعي الذي كان سائدا في روسيا ودول أوروبا الشرقية بالنظام التوتاليتاري. وقد كان لمفهوم التوتاليتارية، الذي يعرف بالشمولية، دور كبير في إسقاط التجربة التاريخية للشيوعية. ومن أهم خصائص هذه التوتاليتارية، تميزها بعدد من الثوابت والعلامات الفارقة: الحزب الشمولي الواحد، الدور المركزي للإيديولوجيا، إلغاء الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع، تقديم دولة السلطة على سلطة الدولة، تضخم أجهزة القمع والإرهاب وافتراسها المجتمع، نفي مشروعية الصراعات الداخلية وتقديس مبدأ الانصهارية .
غير أنه مع انتصار إيديولوجيا النيوليبرالية، أو الليبرالية الجديدة في زمن العولمة، التي تزعزع أسس الحياة الاجتماعية في مختلف أنحاء المعمورة شمالا وجنوبا، والتي تقوم على المرتكزات التالية: الدعوة المتطرفة إلى الحرية الاقتصادية، وإنكار دور الدولة في ضبط آليات وحركة النظام الرأسمالي والتخفيف من شروره الإجتماعية (تحديدا في مجال التوزيع والعدالة الإجتماعية)، هيمنتها على المنظمات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) وتعاملها مع البلدان النامية من منطلق التكيف وضرورته مع السوق الرأسمالي العالمي، وإبعاد الدولة وإضعافها، وترك آليات السوق لكي تعمل طليقة، برزت في العالم الغربي إيديولوجيا نقدية هي الأكثر شيوعا اليوم، إيديولوجيا مضادة للعولمة الرأسمالية المتوحشة، تصف الليبرالية الجديدة أو الليبرالية المتوحشة، بإيديولوجيا كاملة لإدارة الأزمة في النظام الرأسمالي العالمي .
فهناك اليوم في صفوف مناهضي العولمة، من يرى أن الليبرالية الجديدة تعبير عن توتاليتارية الأسواق، وعن توتاليتارية تقنيات الإعلام الجديدة، وأن الذي شجعها على اكتساحها في التطبيق مختلف مواقع الساحة العالمية، ضعف قوى اليسار، وهو الضعف الذي بلغ ذروته بانهيار دول شرق أوروبا والاتحاد السوفييتي .
أغلبية القوى العظمى في عالم ما بعد الحرب الباردة تنتمي إلى حضارات مختلفة. وبهذا المعنى سوف يهيمن "صراع الحضارات" على السياسات الدولية. وسوف تنخرط في الصدام، على وجه الخصوص، الدول الغربية في مواجهة الدول المسلمة والكونفشيوسية
في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: "إعادة النظر في النظام الدولي" المتكون من مقدمة، وتسعة فصول، والصادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت، يقدم لنا الأكاديمي الدانماركي يورغ سورنس، مقاربتين بشأن طبيعة تشكل النظام الدولي الجديد عقب نهاية الحرب الباردة. فهو يقيم ما يدعيه المتفائلون الليبراليون والمتشككون الواقعيون بخصوص هذا النظام الدولي الجديد، كما تكشفت ملامحه عقب انتهاء الحرب الباردة ـ وهو الحدث الأكثر أهمية، بأكثر من معيار، في ثلاثة أرباع القرن الماضية.
ومن المفهوم أنَّ أول ردّ فعل كان التفاؤل الليبرالي، وإن كان هناك ما يمكن قوله فهو ينحصر في أن الأحداث أشارت إلى انتصار الليبرالية السياسية والاقتصادية، بأنه آن الأوان لأن تحتوي الديموقراطية الليبرالية واقتصاد السوق الليبرالي العالمَ بأسره، وأن يتبع ذلك، بعد حين، السلام والتعاون والأمن والنظام والقيم المشتركة والرفاه، بل ورغد العيش للجميع (Fukuyama 1989, 1992).
يقول الباحث يورغ سورنسن:" لكن رد الفعل التالي كان أكثر تشاؤماً وأكثر تشككاً، بكثير؛ ظهر ذلك في بواكير التسعينيات من القرن الماضي، حتى إن كان ذلك العقد فترة شهر العسل الليبرالية بآمالها العِراض. توقع الباحثون الواقعيون أن ينفجر العداء بين الأصدقاء القدامى بعد أن اختفى العدو المشترك (Mearsheimer 1991) وفي الوقت ذاته، نتج عن الخُيلاء الليبرالية شكل متبجح من العالمية الليبرالية التي بلغت مستوى الإمبريالية. وساعد هذا المسلك على إنتاج صدام بين الحضارات، مع تزايد احتمالات الصراع، على الفوالق بين الحضارات (Huntington 1993, 1996). وأصبح الانقسام المركزي هو ذلك الذي يفصل بين الدول الغربية، من جهة، والدول / الحضارات الإسلامية" (ص26 من الكتاب).
الجدل حول طبيعة النظام الدولي بعد الحرب الباردة
إذا كانت الليبرالية الكلاسيكية الغربية هي بمنزلة إيديولجيا الامبراطورية البريطانية، فإن التوتاليتارية الليبرالية الجديدة هي إيديولجيا الامبراطورية الأمريكية. فالعولمة الاقتصادية التي تشكل "توتاليتارية الأسواق" ديناميتها الطاغية على عصرنا، تحتاج التكملة لجهة إيجاد استراتيجية شمولية على الصعيد الأمني والعسكري.
ومنذ نهاية الحرب الباردة في تشرين الثاني / نوفمبر 1989 التي توافقت مع انهيار جدار برلين ، و بعد انتهاء مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في كانون الأول / ديسمبر 1991 التي توافقت مع زوال الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية، بلغت الولايات المتحدة الأمريكية قمما في السيطرة العسكرية والاقتصادية والسياسية لطالما كانت غير قابلة للتخيل، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تطمح وحدها إلى تحديد قواعد الحياة الدولية من خلال تبوئها مركز قيادة النظام الدولي الجديد أحادي القطبية .
وافتتحت حرب الخليج الثانية، وحرب كوسوفو، مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية، لجهة قيام نظام توتاليتاري جديد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. فباسم التدخل الإنساني الذي بات يعتبر الأرفع أخلاقيا، لم تتردد الإمبراطورية الأمريكية في الاعتداء على ركيزتين أساسيتين في السياسة الدولية، وهما سيادة الدول وأنظمة الأمم المتحدة .
وهذا النظام التوتاليتاري الذي يحكم سيطرته على العالم برمته هو نظام ترعاه وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية في الدرجة الأولى، بوصفه نظامًا يعبر في الواقع عن الرأسمالية العسكرية المالية المتعددة الجنسيات، التي تمتد شبكة مؤامراتها وتواطؤها لتستهدف معظم حكومات العالم، وهي الشبكة التي تحتكر الوسائل التكنولوجية، والاقتصادية، والتجارية لإحكام سيطرتها على العالم. ويتجه هذا النظام التوتاليتاري على الصعيد العالمي منذ نهاية الحرب الباردة نحو قيام سيادات محدودة شبيهة بما كان يريد بريجينيف والاتحاد السوفييتي إقامته في السبعينات في أوروبا الشرقية .
وفرضت الإمبراطورية الأمريكية بوصفها القوة العظمى المفرطة في قوتها وجبروتها أينما كانت في العالم تجارتها ومصالحها، و قانونها الإمبراطوري، الذي يعني في جملة ما يعني، للولايات المتحدة أن تنتهك القانون الدولي انتهاكًا فاضحًا و صارخًا، وتلغي دورالأمم المتحدة، وتستثنى من العهود والمواثيق الدولية التي إنما تطالب بتطبيقها على سواها من الدول. وهذا ما نلمسه في العديد من السياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة منذ بداية عهد التسعينات من القرن الماضي.
الإمبراطورية الأمريكية تتصرف بطريقة أحادية الجانب في تعاملها مع مختلف الأزمات الإقليمية والدولية، وهي تفرض على الجميع تفسيرها الخاص للقانون الدولي، وأفضل تعبير عن هذا القانون الإمبراطوري،
وفي الواقع كل شيء يدل على أن الإمبراطورية الأمريكية لم تعد تتقبل القانون الدولي ووجود الأمم المتحدة، وأنها في وضع الهيمنة التي هي عليه أصبحت ترفض القيود الشرعية لآليات عمل الأمم المتحدة وتصر على دور القوة في العلاقات الدولية وميلها الحاد إلى الخطوات الأحادية الجانب ونفورها من توقيع الاتفاقات الدولية. ويلاحظ آلان جوكس في بحثه "نظام التحالفات الجديد في الاستراتيجية الأمريكية" المنشور في دفاتر الدراسات الاستراتيجية في ربيع 1997 "إن قيام امبراطورية عالمية (أمريكية) عبر توسع اقتصاد السوق يؤدي إلى مسلسلات بلقنة ـ لبننة من خلال تدمير صلاحيات الضبط الخاصة بالدول التقليدية. فهذه الإمبراطورية الأمريكية المفرطة في قوتها Hyperpuissance كما يسميها أوبير فيدرين وزير الخارجية الفرنسي السابق، تسيطر على العالم سيطرة ساحقة في المجالات الخمسة الأساسية، التي تقوم عليها القوة: السياسية، الاقتصادية، العسكرية، التكنولوجية والثقافية. وهي ترفض رفضا قاطعا، أي الولايات المتحدة، تقاسم سيطرتها مع طرف آخر أو الحد منها فيما هي قادرة على ممارستها من دون ان يتمكن أحد (ولا حتى الأمم المتحدة) من الاعتراض .
الإمبراطورية الأمريكية تتصرف بطريقة أحادية الجانب في تعاملها مع مختلف الأزمات الإقليمية والدولية، وهي تفرض على الجميع تفسيرها الخاص للقانون الدولي، وأفضل تعبير عن هذا القانون الإمبراطوري، يتمثل في الطريقة التي انتزعت بها الولايات المتحدة من الأمم المتحدة سلطة تقرير الحروب الأمريكية السافرة ضد العراق، ويوغوسلافيا، لصالح الإمبريالية الأمريكية، وفي شكل غير شرعي.
في تقديمه للمقاربة الليبرالية المثالية حول طبيعة النظام الدولي ما بعد الحرب الباردة، يقول الباحث يورغ سورنسن: "سبقت الرؤية الليبرالية غيرَها من الرؤى إلى التأثير في عالم ما بعد الحرب الباردة؛ ولم تكن هذه مجرد مصادفة. انتهى ما يزيد على أربعة عقود من المواجهة الثنائية القطبية بين قوة عظمى ديموقراطية ليبرالية ومنافسها الشيوعي الأوتوقراطي إلى انتصار مؤزر لليبرالية السياسية والاقتصادية. وتحول ذلك إلى سند مباشر للرؤية السياسية المتفائلة الليبرالية بخصوص التقدم وهذا هو ما تعنيه نهاية التاريخ: "عالمية الديمقراطية الغربية الليبرالية كشكل نهائي للحكم" (Fukuyama 1989: 3, 4; 1992) كان من المتوقع أن يسارع النظام الدولي إلى التحول إلى الليبرالية والديمقراطية، ولأن الديمقراطيات يساعد بعضها بعضا ولا يستخدم بعضها العنف ضد بعض، فسرعان ما سيكون النظام سلميا وتعاونيا. ويتعين أن نلاحظ أن الليبراليين يأخذون التطورات الداخلية مأخذ الجد، وبالنسبة إليهم يكون التحول إلى الديموقراطية داخل الدول هو حجر الزاوية في نظام عالمي جديد"(ص 37 من الكتاب)..
من وجهة نظر الرؤية الليبرالية التفاؤلية، شكل انهيار الاتحاد السوفييتي علامة قوية على انتصار الفكرة الليبرالية. وما تبقى كان المشكلة العملية المتمثلة في إنشاء نظم سياسية واقتصادية ليبرالية عبر العالم. وحقق ذلك قدرا من النجاح، في البداية. فقد قبلت أغلبية الدول مبادئ السوق الحرة التي يقوم عليها الاقتصاد الرأسمالي. وشهد العالم الموجة الثالثة من انتشار الديمقراطية ،إذ تضاعف عدد الديموقراطيات في العالم، من 43 في مطالع السبعينيات من القرن العشرين إلى 88 بنهاية تسعينياته. وأرادت أغلبية البلدان أن تشارك في التعاون العابر للقوميات عبر مؤسسات دولية. وأكد إعلان الألفية ، الذي أقرته الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في العام 2000 ، التزاماً عالمياً بمبادئ الليبرالية.لكن الأمور مضت في الاتجاه المعاكس في القرن الجديد. وفي مواضع كثيرة تبين أن الانتقال إلى الديموقراطية كان انفتاحا مرتبكا أكثر منه تحولاً حقيقياً في النظام السياسي، وبقيت أغلبية الدول شبه ديموقراطية أو شبه سلطوية.
الرؤية الواقعية
بالنسبة إلى معظم الواقعيين الأفرادُ معنيون بذواتهم ومتنافسون في طرائق من السهل أن تفضي إلى الصراع. والنظام العالمي للدول ذات السيادة فوضوي، فهو يفتقد سلطة واسعة النفوذ، ولا وجود لحكومة عالمية. وفي نظام من هذا النوع يتعين أن تتحمل الدول مسؤولية أمنها، وهي تعيش على الدوام في ظل أخطار ممكنة لأن الدول الأخرى قد تكون لديها نوايا شريرة.
ووفق التحليل الواقعي لقد بقي النظام الدولي آمناً نسبياً، في معظم فترات الحرب الباردة، بفضل استقرار توازن القوى. والثنائية القطبية بنية واضحة وشفافة لأنها قامت على قوتين عظميين، لكل منهما عدد كبير من الدول الحليفة. وفوق ذلك كان بوسع كل من القوتين أن تركن إلى ترسانة ضخمة من الأسلحة النووية. وكان من شأن حرب نووية شاملة أن تُلحق بالجانبين دماراً هائلاً.
يقول الباحث يورغ سونسن: "ويقر واقعيون كثيرون اليوم بأن التنافس بين القوى أو حتى الصراعات العنيفة، بين الحلفاء الغربيين، ليست أمرا واردا. لكنهم على رأيهم القائل بأن أخطار المواجهة العنيفة باقية في أجزاء أخرى من النظام الدولي. ومن أبرز التحليلات التي سبقت إلى هذا الرأي ما طرحه صمويل هنتنغتون Samuel Huntington (1993; 1996). وقد أكد أن الدول ذات السيادة تبقى هي اللاعبين الأكثر أهمية في السياسات الدولية، لكن الصراعات بينها في المستقبل سوف تقررها الفوالق بين الحضارات. وهذا يتصل بحقيقة أن أغلبية القوى العظمى في عالم ما بعد الحرب الباردة تنتمي إلى حضارات مختلفة. وبهذا المعنى سوف يهيمن "صراع الحضارات" على السياسات الدولية. وسوف تنخرط في الصدام، على وجه الخصوص، الدول الغربية في مواجهة الدول المسلمة والكونفشيوسية"، (ص 41 من الكتاب).