يبدو أن الخريطة السياسية التركية اليوم أصبحت أشد احتقانا من
السابق، ويبدو أيضا أن جميع الأحزاب السياسية التركية بدت عازمة على كسب هذه
الانتخابات، والمتتبع الجيد للخريطة الانتخابية للأحزاب المشاركة في الانتخابات
المحلية المرتقبة في 31 مارس 2019، سيجد أنها موزعة بشكل يخدم النفوذ الحزبي لكل
من هذه الأحزاب، من أجل كسب الانتخابات، التي ستشكل على الأبرز عنوانا لكتابة فصل
جديد للحياة السياسية التركية.
يدرك
حزب العدالة والتنمية أن الانتخابات المحلية المرتقبة تشكل تحديا كبيرا له، لهذا
ذهب باتجاه تقوية تحالفاته الانتخابية مع حزب الحركة القومية وأحزاب أخرى تحت
عنوان «تحالف الجمهورية»، في حين حسم حزب الشعب الجمهوري تحالفاته الانتخابية مع
حزب الجيد وأحزاب أخرى تحت عنوان «تحالف الشعب»، ومع تأكيدنا على أن الحظوظ
الانتخابية لكلا التحالفين سوف لن تكون بعيدة عن النتائج التي أفرزتها الانتخابات
العامة في 24 يونيو 2018، إلا أن استطلاعات الرأي الأخيرة أشارت إلى إمكانية حصول
تقدم طفيف لتحالف الشعب، لأسباب كثيرة أهمها تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية،
أثر الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا اليوم، إلى جانب طبيعة تعاطي تركيا مع
الملفات الإقليمية، وهو ما يتضح أكثر مع قرب موعد الانتخابات.
الصراع
الانتخابي سينحصر حول المدن الرئيسية الثلاث، إسطنبول وأنقرة وأزمير، أما المدن
الأخرى فتأثير النتائج الانتخابية فيها سيعتمد إلى حد كبير على ما ستفرزه هذه
المدن الثلاث، أضف لذلك إن إمكانية حزب العدالة والتنمية على الظفر بأصوات بلدية
إسطنبول تبدو كبيرة نسبية، في حين ستكون المنافسة محتدمة على أنقرة وأزمير، التي
تتداخل في خطوط التماس بين الأحزاب المتنافسة، مع أرجحية طفيفة لتحالف الشعب،
ولذلك فإن نظرة الأحزاب المتنافسة لهذه الانتخابات تختلف عن سابقاتها.
إن عدم تمكن
حزب العدالة والتنمية من تجاوز ما نسبته 35% من مجموع الأصوات في الانتخابات
المحلية المقبلة، يعني أن شبح الانتخابات المبكرة سيكون السيناريو الأقرب بعد ظهور
النتائج، كما أنه سيكون أمام تحديات حقيقية قد تجعله يفقد أغلبيته المطلقة داخل
المجلس الوطني، وهو ما عبر عنه المرشح السابق لرئاسة الجمهورية والقيادي في حزب
الشعب الجمهوري محرم إنجه، بأن الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة سيكون
خيارنا الأول بعد هذه الانتخابات، في حالة كانت النتائج مشجعة لذلك، وبالتالي فإن
عدم تجاوز المشاكل الحالية من قبل حزب العدالة والتنمية، يعني أنه سيكون أمام
استحقاق تاريخي جديد.
ويبدو أن قادة الحزب على دراية كاملة بطبيعة هذا التحدي، لذا هناك
مبادرات اقتصادية جديدة بدأت تطرح من أجل تجاوز هذه المشكلة، أمام تخفيض نسبة
الضرائب وأسعار الفائدة، إلى جانب تقديم عروض متميزة للاستثمار الأجنبي، وغيرها من
المشاريع التي تهدف للنهوض بالواقع الاقتصادي التركي قبل الدخول في السباق
الانتخابي المرتقب.
وبالتوازي
مع ما تقدم شكلت حالة عدم الاستقرار في سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار، عقبة
أخرى أمام حزب العدالة والتنمية، فالسياسة النقدية لهذا الحزب هي الأخرى أثير
حولها الكثير من التساؤلات، ويبدو أن الاستناد للمبادرات الشعبية في تقوية قيمة
الليرة أمام الدولار لن تصمد كثيرا، فضلا عن أن علامات التباطؤ الاقتصادي تبدو
واضحة في كافة المجالات، حيث هيمن الحذر على ربات البيوت اللواتي يذهبن للمتاجر
لشراء الاحتياجات اليومية في ضوء ارتفاع كبير للأسعار، في الوقت الذي تشهد فيه
السوق التركية حالة من تراجع الطلب، خصوصا أن تركيا اليوم توجه مشكلة كبيرة في
طبيعة علاقاتها الخارجية، بالإضافة إلى غياب أي بوادر حقيقية لحل الأزمة السورية،
لذلك فإن التراجع الاقتصادي شكل العنوان الأبرز للمنافسة الانتخابية، المحلية مارس
2019.
وعلى
الصعيد ذاته يشير عدم تمكن حزب العدالة والتنمية من ترسيخ نموذج وطني واضح بعد
مرور ما يقارب 17 عاما من سيطرته على الساحة السياسية التركية، إلى مدى التحدي
الحقيقي الذي يعيشه اليوم، خصوصا أنه يمثل أوسع تيار سياسي إسلامي شهده التاريخ
السياسي التركي، كما أن عدم مقبولية بعض المرشحين لرئاسة البلديات الكبرى قد تشكل
عقبة سياسية أخرى أمام الحزب، على اعتبار أن بعضهم ليس من سكان المدن الأصليين،
كما هو حال مرشح حزب العدالة والتنمية لرئاسة بلدية أنقرة محمد أوزحسكي، الذي كان
رئيسا لبلدية قيصري.
إن
طبيعة التحالفات الانتخابية هي الأخرى ستشكل تحديا أمام الحزب، ففي الوقت الذي وثق
فيه الحزب تحالفاته الانتخابية مع حزب الحركة القومية، إلا أنه بالمقابل يخشى من
خسارة أصوات الكرد في مدن جنوب تركيا، بسبب موقف حزب الحركة القومية من مسألة
التعاطي مع المشكلة الكردية، أضف لذلك أن حزب الجيد بقيادة ميرال أكشنار يتوقع له
أن يستحوذ على الكثير من أصوات الحركة القومية، بسبب موقفها الواضح من سياسة تركيا
الداخلية، المتعلقة بموضوع اللاجئين السوريين والأكراد، فضلا عن ذلك يدرك دعاة
الحفاظ على الموروث الكمالي في تركيا اليوم، بأن فوز حزب العدالة والتنمية
بالانتخابات المقبلة سيطوي إلى حد كبير صفحة جمهورية أتاتورك، ولهذا تجري حملة
تثقيف واسعة بضرورة المشاركة بهذه الانتخابات، من أجل التقليل من فرص حزب العدالة
والتنمية للفوز بها.
في
الجانب المقابل لابد من القول بأن حزب العدالة والتنمية يتمتع بالعديد من مفاتيح
القوة، التي يمكن أن يعول عليها في الانتخابات المقبلة، والتي يأتي في مقدمتها
الكاريزما الشخصية للرئيس أردوغان، والدعاية القوية لحزب العدالة والتنمية، والدعم
الكبير من قبل وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، فضلا عن رجال الأعمال والشركات
الكبرى، الذين سخروا الكثير من إمكانياتهم لخدمة الحزب في الانتخابات المقبلة.
إن
استعدادات حزب العدالة والتنمية للانتخابات بدأت مبكرة جدا، من خلال إجراء
انتخابات أولية على مستوى المناطق والبلديات الصغيرة، كما أجرى تغيرات على مستوى
المرشحين لمناصب البلديات الكبرى، مثل تقديم رئيس البرلمان السابق بن علي يلدرم
كمرشح لمنصب رئيس بلدية إسطنبول، بالإضافة إلى تقوية حظوظ مرشحي حزب الحركة
القومية في أضنة وبورصة ومرسين وأنطاليا، ناهيك من فتح ملفات الفساد الخاصة برؤساء
البلديات التي يديرها أشخاص من حزب الشعب الجمهوري.
يدرك الرئيس أردوغان أهمية هذه
الانتخابات، ولهذا دعا إلى مؤتمرات استثنائية داخلية للحزب، وأكد على أعضائه
وكوادره بضرورة الاستعداد للانتخابات، كما أكد أن هناك تحديات اقتصادية كبيرة
تواجهها تركيا، وأن الفوز بهذه الانتخابات سيضع حدا لكل المشاكل التي نعيشها
اليوم، بالإضافة إلى إرسال رسالة واضحة لتحالف الشعب الذي يقوده حزب الشعب
الجمهوري بأن الانتخابات الرئاسية ستجري في موعدها المحدد في نوفمبر 2019، ولن
تكون هناك انتخابات مبكرة، مشيرا إلى أن هذا الحزب خسر جميع الانتخابات التي خاضها
أمام حزب العدالة والتنمية، وبالتالي فإن الخسارة ستكون هي النتيجة التي سيتحصل
عليها في الانتخابات المحلية المقبلة.
وفي
تطور لافت أثارت الأخبار التي تحدثت عن نية الرئيس التركي السابق عبدالله غول
تشكيل حزب سياسي جديد في تركيا، قد تكتمل ملامحه في 1 إبريل 2019، وسيشكل حدثا
مهما في الساحة السياسية التركية، ويمكن القول بأن بروز هذا الحزب على الساحة
سيعتمد بدرجة كبيرة على النتائج التي ستفرزها الانتخابات المقبلة، وموقع حزب
العدالة والتنمية منها، إذ لا يخفى على أحد طبيعة الخلاف الموجود بين أردوغان
وغول، حول الكثير من الملفات وأهمها، طبيعة النظام السياسي وطريقة التعامل مع
تنظيم فتح الله غولن، ما أدخل العلاقة بينهما في نفق مظلم، خصوصا أن رغبة غول في
العودة للساحة السياسية التركية لم تبد واضحة حتى اللحظة، إلا أنه أوجد بدائل
سياسية يمكنها أن تلعب دورا كبيرا في طرح بديل سياسي قوي في مقبل الأيام.
تشير
الكثير من المصادر إلى أن أكثر الشخصيات المرشحة لرئاسة الحزب المقبل هو علي
باباجان نائب رئيس الوزراء السابق، والاقتصادي المعروف، كما أن هناك الكثير من
المحاولات لضم رئيس الوزراء السابق أحمد داؤود أغلو لهذا الحزب أيضا، رغم عدم
إبدائه أي رغبة حتى اللحظة، ويمكن القول بأن هذا الحزب في حال ما إذا فرض نفسه على
الساحة السياسية التركية، فإنه سيشكل تحديا حقيقيا لحزب العدالة والتنمية، على
اعتبار أنهما يتشابهان في الأفكار والمبادئ، فكلاهما يمثلان تيارا إسلاميا معتدلا،
ألا أن الحزب الجديد قد يبدو أكثر مرونة، خصوصا أنه سيكون الأقرب للتيارات
الإسلامية الأخرى كحزب السعادة، وقد يكون الأقدر أيضا على طرح حلول سياسية
واقتصادية للمشاكل التي تعاني منها تركيا اليوم.
والأهم
من كل ما تقدم فإن الحزب الجديد المزمع تشكيله، سيكون الأقدر على ملء الفراغ الذي
قد يتركه حزب العدالة والتنمية في حالة ما إذا كانت نتائج الانتخابات المحلية ليست
في صالحه، فالضرورة التاريخية اليوم قد تجعل التيار الإسلامي في تركيا أمام
استحقاقات كبرى، خصوصا أن هناك تناغما دوليا وإقليميا حاليا للبحث عن تركيا جديدة
بدون حزب العدالة والتنمية، ويدرك الحزب أن الانتخابات المقبلة ليست مجرد انتخابات
محلية، فهي بنظر قادته انتخابات الاستحقاقات الكبرى، التي سيكون عنوانها الأبرز
كتابة أول صفحة من صفحات الجمهورية الثانية، التي لطالما جاهد من أجلها الرئيس
أردوغان، وسوف تجعل الحزب يحسم خياراته جيدا استعدادا للانتخابات البرلمانية
والرئاسية المقبلة، فطبيعة النظام الذي تجري بموجبه الانتخابات المحلية، يجعلها
أقرب إلى أن تكون مؤشرا لاستطلاع الرأي العام، من حيث قياس توجهات الجمهور
الانتخابي، وقياس شعبية المرشحين، فضلا عن كونها اختبارا حقيقيا لمدى قوة البرامج
الانتخابية التي يدعو لها الحزب.
إن
خسارة حزب العدالة والتنمية للانتخابات المقبلة، سيضعه أمام مستقبل مجهول، مستقبل
ستكون خياراته قاسية جدا على مسيرة الحزب ومشاريعه الكبرى، لبناء تركيا حديثة
قادرة على تحقيق التنمية الوطنية الشاملة بكافة المجالات، فهناك الكثير من
السيناريوهات التي قد تفرض نفسها على الحزب، بل قد يكون مصيره كمصير حزب الوطن
الأم بزعامة توركت أوزال الذي سيطر على الساحة السياسية التركية خلال الفترة من
نوفمبر1983 حتى يونيو 1991، وفي أبريل 1999 انخفضت نسبة أصوات مؤيديه إلى الحد
الأدنى حيث حصل على 13.2% ودخل البرلمان في المركز الرابع، كما أنه قد يواجه موجة
كبيرة من الانشقاقات على مستوى الكادر المتقدم للحزب، والذهاب باتجاه تشكيل أحزاب
سياسية جديدة، أو الانضمام إلى الحزب الذي يسعى إلى تشكيله الرئيس السابق غول،
فضلا عن إمكانية انسحاب الكثير من رجال الأعمال والشركات الكبرى من دعم الحزب،
وبالتالي يمكن القول بأن استمرار الأزمة الاقتصادية الحالية، وإمكانية خسارة
الانتخابات المحلية، ستجعل عملية الفوز في الانتخابات البرلمانية المقبلة صعبة جدا.
إلا أن ذلك لا يمنع القول بأن الحزب مازال حتى اللحظة مسيطرا على الساحة السياسية،
وقادرا على المبادرة بالشكل الذي يحفظ حظوظه للفوز بالانتخابات، فالفترة السابقة
جعلته يمتلك خبرة كبيرة لإدارة العملية الانتخابية بالصورة التي تجعله ينافس
الأحزاب الأخرى من منطلق الحزب القائد لتركيا، وصانع تنميتها الحديثة.
عن صحيفة القدس العربي