الكرة أبسط مثال على الحالة العربية حتى لو سلمنا بأنها رياضة لا دخل للسياسة بها. في الواقع تترجم النفسنة بين الدول العربية بعضها مع بعض. فإذا كانت هناك نفسنة من دول تملك الثروة، فهناك في المقابل نفسنة من دول تملك التاريخ والحضارة.
لسنا مع هذا ولا ذاك ولا نبرئ أيا منهما، لكننا نتمنى دراسة وافية لتفادي هذه المنزلقات الخطرة التي تنعكس سلبا على علاقات الشعوب ذات الدم الواحد واللغة الواحدة. نشاهدها فعلا في لقاءات المنتخبات الكروية. لا ننسى الأزمة الشهيرة بين منتخبي مصر والجزائر ودعوات الفلتان اللفظي من البعض هنا وهناك، التي وصلت إلى رمي الأعلام تحت الأقدام والتهديد بالحرب والمعايرة والتنابز بالصفات السيئة.
نجم الكرة المصري المحترف في ليفربول محمد صلاح لم يصوت له في استفتاء الأفضل في العالم سوى 4 منتخبات عربية من بينها بلده. لم تصوت له جميع دول الخليج التي ترتبط بعلاقات راسخة ومصيرية مع مصر، ولم تصوت له من دول المشرق والمغرب العربي سوى فلسطين وسوريا وموريتانيا.
ثم تأتي المفارقة من تركيا وإيران اللتين لا تتمتعان بعلاقات سياسية جيدة مع مصر ومع معظم دول الخليج. لقد صوت قائدا منتخبيهما لمحمد صلاح كما جاء في البيان التفصيلي الذي نشره الفيفا.
من حقنا أن نعاتب الأشقاء الذين فضلوا التصويت لنجوم من أمريكا اللاتينية وأوروبا. لو كان الأمر مجرد كرة قدم ورياضة توحد بين العالم وتقضي على العنصرية لهان الأمر. لكن الواقع أن تاريخنا العربي له شواهده الكثيرة على الانقسام والنفسنة التي نعاني منهما، وهي حالة سلمت منها تركيا وإيران فأيدتا صلاح كلاعب مسلم ينتمي لديانتهما ومنطقتهما.
علماء النفس الاجتماعي لم يولوا هذه الظاهرة العربية أي اهتمام، رغم أنها عميقة الجذور منذ ستينيات القرن الماضي، عندما بدأت الثروة تقفز ببعض الدول، في الوقت الذي تراجعت فيه حضارة الدول الأخرى ونفوذها.
من المفترض أن تكمل الدول الشقيقة بعضها بعضا، فمن أصبح عنده الثروة يتحول إلى إضافة لمن كان له السبق في المجال الحضاري والبشري. هذه الروح التضامنية لم تغرس أبدا بسبب الخلافات السياسية في مراحل مختلفة منذ الخمسينيات. لكن الخلافات وحدها ليست السبب الوحيد، بل إن معظم الدول التي وقفت معها مصر في فترة الاستعمار، اتخذت منحى تعصبيا فيما بعد خصوصا في أثناء مباريات الكرة القدم أو المنافسات الرياضية عموما.
كل ذلك رغم أن الدول التي سبقناها حضاريا وتاريخيا باتت الآن دولا راسخة في الحضارة الحديثة، تمتلك أفضل مقوماتها، بنية أساسية ورفاهية منقطعة النظير ومتعلمين على أعلى مستوى في الجامعات الأجنبية. سبقتنا بمسافات طويلة في مجال كنا نتميز به. ذلك لا يجب أن ينقص منا ولا يكون سببا في أي نفسنة والعكس أيضا بالنسبة لهم. لكن ما يحدث فعليا هو النفسنة وشعور متبادل بالنقص يظهر في المناسبات الرياضية والثقافية، وأحيانا يتحول إلى صراعات سياسية على النفوذ.
ليس لصالح العرب أبدا النفسنة والشعور بالنقص. خلافات الأنظمة السياسية مؤقتة. من نخاصمه ونتخانق معه إعلاميا اليوم سيصبح صديقا غدا كما حدث مرارا منذ مطلع الخمسينيات. نفسنة الشعوب هي الأخطر وهي التي تحرق الأخضر واليابس مما تبقى لنا من وحدة معنوية.
عن صحيفة المصريون المصرية