في خطوة تُعد الأولى من نوعها، أطلقت جماعة الإخوان المسلمين المصرية ما يمكن وصفها بخارطة طريق ورؤية جديدة تهدف لإنهاء الأزمة القائمة في البلاد منذ انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013؛ فلأول مرة تطرح الجماعة مجموعة من البنود والإجراءات الواضحة والمحددة بشأن كيفية التعاطي مع الأزمة الراهنة، وإن كانت تلك الرؤية قد يصفها البعض بغير الواقعية بشكل ما أو بآخر.
ونتوقف أمام بعض الدلالات في تحليل مضمون بيان الإخوان الذي أصدرته الجماعة، اليوم الثلاثاء، والذي في حقيقته لا يُعد مجرد بيان ضمن عشرات أو مئات البيانات التي أصدرتها الجماعة عقب الانقلاب، لأنه حمل بين طياته ما يمكن اعتبارها مبادرة سياسية جديدة تطرحها الإخوان على مختلف القوى المجتمعية والسياسية وعلى الأطراف المعنية بطبيعة الحال.
ورغم أن البعض قد يرى أنه من الأفضل للإخوان عدم طرح أي مبادرات سياسية باعتبارها طرفا رئيسا في الأزمة، إلا أن الكثيرين يرون أن ذلك بمنزلة خطوة متقدمة من الجماعة في مواقفها ورؤاها لتصورات حل الأزمة باتجاه القبول والانفتاح على الآخر بعيدا عن أية خلافات. وأن تلك الخطوة قد ينبني عليها لاحقا تحركات أو تغيرات ما في المشهد.
ونبدأ بعنوان بيان الإخوان: "تعالوا إلى كلمة سواء"، حيث يكاد يكون متطابقا مع عنوان النداء الذي طرحه مساعد وزير الخارجية الأسبق، السفير معصوم مرزوق، منذ نحو أسبوع، ويكاد يكون متقاربا مع دعوة وزير الدفاع صدقي صبحي التي وجهها لجميع المصريين في 22 نيسان/ أبريل 2016 للالتقاء على كلمة سواء، وذلك قبل أن يقوم السيسي بالإطاحة به من منصبه عقب انتخابات الرئاسة. وهذه دعوة مباشرة للالتقاء على أرضية مشتركة بين الجميع بعيدا عن الخلافات الأيديولوجية أو انقسامات الماضي.
وتعقيبا على دعوات صريحة أطلقها البعض سابقا من داخل المعسكر المناهض للانقلاب لتسريح أو تفكيك المؤسسة العسكرية وكذلك هدم مؤسسات الدولة ليتم إعادة بناءها من جديد عقب إسقاط الانقلاب وبالشكل الصحيح من وجهة نظرهم، يأتي بيان الإخوان ليرفض تماما مثل تلك الدعوات مؤكدا حرص الجماعة "المتين على الدولة ومؤسساتها التي هي ملك للشعب المصري وحده، ومن بينها المؤسسة العسكرية الوطنية (وهنا للمرة الأولى تصف الإخوان المؤسسة العسكرية بـ "الوطنية" منذ الانقلاب)، ما يعد تغيرا جذريا في رؤية وموقف الإخوان من المؤسسة العسكرية التي تعد الطرف الرئيسي في الأزمة، والتي ترتبط الإخوان بخلافات وصراعات تاريخية معها، وإن كانت الجماعة تقول سابقا إنها تفرق بين قادة الجيش والمؤسسة العسكرية كمؤسسة.
ويأتي خطاب الإخوان "الجديد" بشان المؤسسة العسكرية باعتباره حريصا على تماسكها ووحدتها واحترافيتها، مؤكدا أنها "إحدى مؤسسات الدولة المهمة التي يتكون قوامها من أبناء المجتمع المصري كافة ومن كل أطيافه عامة، وأنهم (الإخوان) حريصون على استمرارها في أداء مهامها التي ينص عليها الدستور والقانون؛ في حماية حدود الوطن وأمنه القومي والحفاظ على وحدة وسلامة أراضيه؛ ما يقتضي إيقاف توغلها في الحياة السياسية والاقتصادية، وهو ما ألقى عليها مهمة غير مهمتها، وهي إدارة شؤون الحكم في البلاد، كما يحتم عليها التحول إلى مؤسسة احترافية بعيدة عن تجاذبات السياسة ومصالح رأس المال والاقتصاد".
لطالما نادى كثيرون بضرورة إعلان الجماعة موقفا واضحا وصريحا ودون مواربة من قضية العنف، فيأتي بيان الإخوان ليؤكد بشكل جلي تماما أن الجماعة ترفض العنف بكل صوره وأشكاله وبغض النظر عن مبرراته أو ذرائعه، وتجدد إصرارها على التمسك بالسلمية التي قالت إنها خيار الشعب في ثورته، وخيار الإخوان في التغيير، لافتة إلى أن "السلمية ثابت أصيل له جذور عميقة في منهج الإخوان وتاريخهم، ويتطابق مع مبادئهم الثابتة التي يستوحونها من فهمهم للإسلام ومنهجه وتشريعاته، التي تؤكد حرمة الدماء والأموال والأعراض، ولا تجيز العدوان عليها بأي حال من الأحوال، أو بأي ذريعة من الذرائع".
ويؤكد بيان الإخوان أن الشعب المصري هو المصدر (الوحيد) للشرعية، يمنحها لمن يشاء، وهو ما يعد إشارة من الجماعة بقبول الاحتكام إلى الشعب مرة أخرى باعتباره مصدرا أصيلا ووحيدا للشرعية وليس شيئا آخر.
ورغم أن الجماعة قالت إن الشعب أعطى الشرعية للرئيس محمد مرسي، وأن التمسك بعودته ليس تمسكا بحق شخصي، أو مكسب حزبي، وإنما هو تمسك بحق الشعب واختياره الحر، إلا أنه وفقا لمراقبين يُعتبر هذا مطلبا سياسيا وإعلاميا ترفعه قيادات الجماعة حفظا لماء وجهها أمام قواعدها ويعد ورقة قوة بالنسبة لها حال الجلوس على مائدة المفاوضات يوما ما.
وجماعة الإخوان تؤكد في هذا البند أنها تجاوزت تماما أي أحاديث تدعو إلى عودة الشرعية "كاملة" أو عودة الرئيس مرسي إلى "كامل" فترته الرئاسية السابقة (3 سنوات) أو بصلاحيات "كاملة"، فقد ارتأت الإخوان أنها بهذه الصيغة المفتوحة تسمح بالحوار والنقاش بشأنها مع الآخرين، وكي لا تحرق أوراقها أو تفقد تأييد بعض المتمسكين بهذا المطلب دون مقابل.
ودعا بيان الإخوان إلى تفعيل عقد مجتمعي جديد، وكأنه دعوة صريحة لبدء فتح صفحة جديدة وطي صفحة الماضي دون القفز على ما جرى سابقا. وتؤكد الإخوان أن الجماعة في العقد المجتمعي الجديد ستكون فصيلا من فصائل العمل الوطني والجماعة الوطنية التي قالت إن مشروعها هو مشروع وطني وحضاري وسياسي متكامل؛ يهدف إلى تحقيق لحمة وتماسك المجتمع بكل أطيافه وتنوعاته، وتحقيق الإجماع الوطني والتوافق السياسي. ما يُعد دعوة مباشرة للتوافق مع الآخر، أيا كانت مواقفه السابقة وأيا كان حجم الخلافات معه في الماضي، وبعيدا عن الأوزان الشعبية للقوى السياسية، ويأتي تفعيلا لمبدأ الديمقراطية التوافقية وليست التنافسية.
وتطرح الجماعة لأول مرة رؤيتها الخاصة حرصا منها على "إخراج الوطن من النفق المظلم الذي أدخله فيه الانقلابيون"، قائلة: "أفضل طريق للخروج من هذا النفق المظلم هو عودة الرئيس مرسي إلى سدة الحكم على رأس حكومة ائتلافية يتم التوافق عليها من القوى الوطنية لمدة محددة وكافية، يتم خلالها تهيئة البلاد لإجراء انتخابات حرة نزيهة تُشرف عليها هيئة قضائية مستقلة، تتوافق عليها القوى الوطنية دون إقصاء لأحد".
وتدعو الجماعة إلى تصحيح مناخ الاستقطاب عبر إجراءات بعينها تتمثل في "الوقف الفوري للتعذيب الممنهج، والقتل خارج نطاق القانون، والإخفاء القسري، ومداهمات البيوت، وكافة الممارسات التي تزيد من الاحتقان الشعبي، والإفراج الفوري عن جميع المعتقلين، وإلغاء وشطب وإسقاط كل التهم الملفقة والأحكام الجائرة الصادرة بحقهم، ورفع كل ما ترتب عليها من مصادرة للأموال أو فصل من الوظائف أو منع من السفر أو غير ذلك، والأمر نفسه بالنسبة للمطاردين والملاحقين أمنيا داخل الوطن وخارجه، وذلك كخطوة أولى لتهيئة مناخ الحريات".
وبشأن قضية "دماء الشهداء والجرحى"، فتحيل الجماعة القرار النهائي والبات فيها إلى أصحاب الحق الأصيل وهم أولياء الدم، وكأن الإخوان تُخرج نفسها من دائرة اتخاذ القرار في هذه القضية الشائكة، قائلة:" لا يمكن لفرد أو حزب أو جماعة أن تفتئت عليهم بأي حال من الأحوال، ثم تشير إلى "رعاية الجرحى وأبناء الشهداء وتكريمهم واجب على المجتمع والدولة"، ما يعد دعوة للدولة برعاية وتكريم الجرحى وأبناء الشهداء.
واستطردت قائلة:" تحقيق العدالة الناجزة، سواء في قضايا الدماء والأموال والأعراض والجرائم السياسية؛ ما يقتضي إعمال مبادئ العدالة الانتقالية في الأحداث التي مرت بالبلاد منذ ثورة يناير حتى الآن بواسطة هيئة قضائية مستقلة متوافق عليها بين القوى الوطنية".
وفي رسائل طمأنة لمن لديهم تخوفات من عودة الإخوان للمشهد مرة أخرى وخاصة الأقباط، يحاول بيان الجماعة أن يبعث برسائل طمأنة غير مباشرة بتأكيد أن "أعضاء الإخوان جزء أصيل من النسيج المجتمعي، ولا يرون أنفسهم بديلا عن الشعب، أو ممثلا وحيدا له، ولا يحتكرون الوطنية ولا العمل الوطني، ويعتقدون أن الوطن يسع الجميع، ويحتاج في بنائه إلى الجميع، وأن التهميش والإقصاء سوأة نفسية وفكرية وخسارة اجتماعية ووطنية في آن واحد، وهم لا يفرقون بين مصري وآخر تحت سماء الوطن أو في خارج أراضيه، ويرون أن المواطنة هي القاعدة الصلبة لبناء الدولة المدنية الحديثة التي تسعى لها ثورة يناير".
واستخدام الإخوان مصطلحي "المواطنة" و"الدولة المدنية الحديثة" إشارة ورسالة، بحسب مراقبون، موجه إلى الأقباط تحديدا وباقي الفئات التي لديها تخوفات عميقة من عودة الإخوان التي قد يرى البعض أنها قد تتبعها خطوات انتقامية. ورغم أن هذاين المصطلحين ليسا بجديدين على خطاب الإخوان، فقد استخدمتهما سابقا قبل وبعد ثورة يناير، إلا أنه من المرات القليلة التي تشير إليهما الجماعة في خطابها ما بعد الانقلاب.
وردا على كثير من المطالب التي يوجهها البعض للجماعة من أجل إجراء مراجعات حقيقية لمواقفها السابقة، قالت: "إننا نؤمن بأن مراجعة النفس واجب كل جماعة وفصيل، وهي حق للوطن على الجميع، وتعد نقطة الانطلاق لأي تصحيح، كما تمثل قاطرة الإصلاح المنشود، شريطة أن تجرى في مناخ صحيح وملائم بعيدا عن الشحناء والإثارة، ولذلك ندعو كل القوى الفاعلة في المجتمع المصري إلى مراجعة مسيرة المرحلة الماضية بكل تجرد وشفافية، وبكل حياد وموضوعية بعيدا عن التراشق والتشفي وتصفية الخلافات أو التنصل من المسؤولية وإلقاء التهم جزافا".
والجماعة بذلك تقول إنها مستعدة تماما لإجراء مراجعات حقيقية وشفافة لمواقفها السابقة، وأنها مستعدة لتحمل مسؤوليتها، وذلك حال توافر المناخ المناسب لذلك.
وفي ختام بيانها بقولها ناشدت الجميع ودعتهم إلى حوار وطني مجتمعي شامل في مناخ صحي، حتى يمكن استعادة اللحمة الوطنية والانطلاق نحو وطن واحد لشعب واحد، وهي الدعوة التي أطلقها كثيرون خلال الفترة الماضية، ومنهم أستاذ العلوم السياسية حسن نافعة، والسفير معصوم مرزوق، وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان كمال الهلباوي، وآخرين، وكأن الجماعة تعلن استجابتها بل ودعوتها للحوار الوطني المجتمعي الشامل.
وجاء الإعلان عن خارطة طريق الإخوان تزامنا مع الذكرى الخامسة لمجزرتي رابعة والنهضة، ولذا فينبغي التوقف أمام هذا الأمر، خاصة أن الكثيرين قد يرون أنه من غير المناسب أن تُقدم الجماعة على إعلان رؤيتها لحل الأزمة في توقيت كهذا، خاصة أن البعض يرى أنه من المناسب إحياء ذكرى المجزرة بالحديث عن بشاعة ما جرى ودعوات القصاص مع التأكيد على حقوق الضحايا دون طرح أي مبادرات سياسية من قبل الإخوان خاصة في هذا التوقيت. وهو ما قد يعتبره البعض منتهى القدرة على التوازن وضبط النفس والابتعاد عن الخطاب الشعبوي الذي يدغدغ مشاعر الجماهير دون تقديم تصورات واضحة للخروج من الأزمة.