تزداد أهمية التاريخ في لحظات التحول الكبرى في حياة الأمم، ويصبح استحضاره فعلًا إلحاحيًا يساهم في توسيع دائرة فهم الواقع والتأسيس للمستقبل خصوصًا إن نتج عن جهد مؤرخين أصحاب بصيرة كرّسوا حياتهم للكشف عن الحقائق التاريخية أو مفكرين أفنوا أعمارهم في الحفر عميقا للبحث في جوهر تراثهم الحضاري وما يحويه من قيم ومعتقدات، إلا أن هذا الاستحضارقد يأتي بمفعول عكسي إن نتج من ممارسة انتقائية لا تأخذ بعين الاعتبار السياقات التاريخية، ورؤية أحادية لا تستطيع الإحاطة بالحدث التاريخي من جوانبه المتعددة، وغالبًا ما يحدث هذا إذا ما وقع حدث تاريخي فريسة لتلاعب كاتب صحفي، عاشق للإثارة، ومتحرر من قيود البحث العلمي، ومن الالتزام الصارم بأدوات الكتابة التاريخية الرصينة.
في ضوء هذه المقدمة المقتضبة، أين نضع مقالة الكاتب التركي زاهد غول "صفحات مدهشة من حياة بن غوريون في الدولة العثمانية" المنشورة على موقع "رصيف 22" والتي سرد فيها تفاصيل من سيرة الزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون إبان دراسته للقانون في إستنبول في الفترة ما بين 1912 و1914؟
إن قراءة متأنية لمقالة غول توصلنا إلى مجموعة من الخلاصات المفجعة وغير المتوقعة.
سأركز هنا على اثنتين من هذه الخلاصات، نظرا لأن حجم المقالة لا يتسع لتناول غيرها.
أعاد غول تعريف المشروع الصهيوني بما ينفي عنه ارتباطه بالاستعمار الغربي ويخلِّصه من صفاته "الجينية" العدائية للمنطقة ولشعوبها والمتعالية على تاريخها وحضارتها العريقة، بحيث بدا أقصى ما يرغب فيه أتباع هذا المشروع الاستعماري، العيش في دولة توفر لهم الأمن وتسمح لهم بممارسة حياتهم الطبيعية،في مرحلة شكَّلت استمرارا لحالة النزوح اليهودي نحو الدولة العثمانية هربا من الاضطهاد.
جاء استحضار غول لسيرة بن غوريون اليهودي الروسي تلميذ الحقوق في إستنبول، تأكيدًا لهذه الخلاصة المركزية، إذ بدا الزعيم الصهيوني الشهير، في سرد غول، شابا عبقريا ونشيطا، لديه "طموحات" بريئة لـ"حمل التبعية العثمانية، والانتماء للمجتمع العثماني ومحبته والدفاع عنه، مثل أي مواطن عثماني بغض النظر عن انتمائه الديني أو القومي أو الاثني أو غيره"، وقد دعم هذه الخلاصة صورة لبن غوريون مع صديقه إسحاق بن زيفي بالشارب والبدلة والطربوش التركي والتي تصدرت المقالة، بالإضافة إلى اقتباسات متعددة لمقولات نسبت لبن غوريون تصب في نفس الخانة.
تاريخيا لا ينكر أحد أن فكرة التبعية العثمانية كانت متداولة بين العديد من الصهاينة، لكنها كانت واحدة بين أفكار متعددة ولم تكن تمثِّل التيار الرئيس في الحركة الصهيونية ولا هي مجمع عليها داخل هياكلها التنظيمية، وأتت غالبًا ضمن سياقها التاريخي الخاص، فالاستيطان في فلسطين يتطلب في مراحله الأولى الإعلان عن الخضوع للدولة العثمانية وقوانينها كونها صاحبة السيادة القانونية والسياسية على الأرض.
ومع ذلك فقد كان المشروع الصهيوني، بعكس ما تصور غول، يتجه بتسارع نحو اكتمال أركانه باعتباره مشروعا سياسيا استئصاليا يهدف إلى سلخ فلسطين من عمقها العربي والإسلامي وجعلها خالصة للصهاينة قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى وقبل أن يصبح بن غوريون شخصية صهيونية محورية.
وهنالك شواهد كثيرة تؤكد ذلك منها محاولات ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية شراء فلسطين من الدولة العثمانية وسعيه الدؤوب لتأمين الدعم الدولي سياسيا وماليا وقانونيا لمشروعه عبر التواصل مع كبرى الدول الفاعلة على المسرح الدولي في ذلك الوقت، بالإضافة إلى أفكاره حول مستقبل اليهود في فلسطين والتي نشرها في كتابه الشهير "دولة اليهود" الصادر عام 1896، ناهيك عن التجربة العملية لبن غوريون في الاستيطان قبل انتقاله للدراسة في إستنبول، وأفكاره التي تمحورت حول ضرورة الاستقلال السياسي لليهود في فلسطين والتي أعلن عنها في مرحلة مبكرة من حياته، وضمَّنها في مبادئ حزب عمال صهيون منذ العام 1907.
لا شك بأن موضوعًا تاريخيًا حساسًا مثل علاقة الدولة العثمانية بالمشروع الصهيوني لا يمكن أن نخلص بنتائج دقيقة حوله بالركون إلى تفاصيل حياة طالب جامعي درس في إستنبول، حتى لو كان بوزن بن غوريون، فالأمر بحاجة إلى دراسة معمقة للمصادر المختلفة وفي مقدمتها وثائق رسمية عثمانية وصهيونية وغربية وشهادات مختلفة من فاعلين رئيسيين في تلك المرحلة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما لدينا حتى الآن يشير إلى عكس ما يوحي به كلام غول، والشواهد على ذلك كثيرة منها ما ذكرناه من رفض السلطان العثماني عبد الحميد الثاني لاقتراحات هرتزل، واتخاذ الدولة العثمانية إجراءات مشددة بحق حركة الهجرة والاستيطان الصهيوني في فلسطين، وما تبعها من نفي للصهاينة خارجها مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.
لقد فهم العثمانيون أطماع الحركة الصهيونية في مرحلة مبكرة من تاريخها، الأمر الذي دفع برأس الهرم في الدولة العثمانية لرفض مطالب هرتزل، خصوصًا أن المشروع الصهيوني أظهر منذ بداياته أنَّه لن يوفر الضمانات الكافية لجعله مسار تحول طبيعي في المنطقة، ولن يكون بمقدوره عدم التعرض لأصحاب الأرض بالقتل أو الطرد، بل على العكس من ذلك فقد كانت شواهد الواقع تؤكد عدوانيته وعنصريته تجاه السكان الأصليين.
وقد بدأت الاعتداءات الصهيونية على الفلسطينيين في وقت مبكر أواخر القرن التاسع عشر، ولم يكن بن غوريون استثناءً فقد عارض الاندماج الصهيوني داخل المجتمع الفلسطيني ونظَّر فور وصوله لفلسطين عام 1906 للفصل بين التجمعين الصهيوني والعربي ونادى بفكرة العمل العبري وحماية المستوطنات بالسلاح اليهودي، وقد طبَّق ذلك بكل صرامة وعنف.
تصوروا لو أن الدولة العثمانية قبلت بالمشروع الصهيوني في حينه وحاولت ضبط إيقاعه وفق إرادتها السياسية والقانونية معتمدة على ادعاءات طالب جامعي مثل بن غوريون، لم تسعفه سيرته القصيرة في الاستيطان في فلسطين في تأكيد براءته السياسية وطهر نضاله! تصوروا لو أن ما جرى من ظلم للفلسطينيين وسلب لحقوقهم كان برعاية عثمانية. لو حدث هذا فعلا لفقدت الدولة العثمانية جزءًا أصيلا من إرثها الطويل، ولتحول حالها من دولة راعية للمظلومين على مدار قرون إلى دولة تشارك الظالمين ظلمهم.