الأمة التركية أمة عريقة عظيمة... وهي وريثة إمبراطورية استطال بها عمران الأرض بقيم الخير ستمائة عام وزيادة من التاريخ... وقد علمتها الدروس التاريخية كثيرًا حتى انتهت إلى تجربة نهضوية فريدة على يد جيلٍ وفِيٍّ لهذا التاريخ العظيم...
ولم يكن غريبًا أن يصون الأتراك هذه النعمة ولا أن يسمحوا لأنفسهم بالرِّدَّةِ عن هذا الإنجاز الفريد... بل لن يسمحوا بإعادة إنتاج الإخفاقات مرة أخرى... ومن ثَمَّ، فلا قلق على الأتراك في تجربتهم التي قطعوا فيها شوطًا كبيرًا بلوغًا إلى غايتهم في بلدٍ عظيم بقدر الرسالة التي يحملها...
إنَّما القلق من تلك الكائنات الأميبية التي تعيش في خير هذا البلد بروح الغجري وبنفسية الانتهازي الذي يتخطف فرص الحياة من الآخرين... القلق من أولئك الذي يعيشون قلقًا وجوديًّا فيما يرقصون على أنغام آمال العودة إلى بلدٍ لم يعملوا بحقٍّ لها... ويتطاربون بألحان بقاء في بلدٍ لم يفوا بحقه فحسب، بل ما فتئوا يستجلبون له المتاعب والحرج والمشكلات دون مبررات منطقية!!... فعين زائغة هنا... وأخرى زائغة هناك!...
وسأحاول التفكير في مستقبل الجالية المصرية في تركيا على خلفية الاحتمالات المتعددة لنتائج الانتخابات الرئاسية التركية المقبلة.
وقد تكونت فكرة هذا المقال من وحي كلمة ممثل الجالية المصرية في حفل الإفطار السنوي للجاليات العربية باسطنبول، والتي تضمَّنت كلماتٍ حائرةٍ لا تعكس أنَّ تغيُّرًا نوعِيًّا قد حدث في العقلية المصرية «المُتْعَبَةِ» و«المُتْعِبَةِ»... فقد عبَّرَ صاحب الكلمة عن تأييده، ومعه الجالية المصرية، للسيد رجب طيب أردوغان في الانتخابات المقبلة باعتباره ممثلاً المشروع الإسلامي الذي يحلم به... مُقحِمًا الجالية في شأن سياسي تركي داخلي... وقد كان خليقًا به التنويه بأنَّ الشعب التركي شعبٌ واعٍ، وإننا نحترم اختياره مهما كان... ونتمنى للشعب التركي كل توفيق إلى اختيار الرئيس الذي يحقق أمانيه في التنمية والتطوير والرقيِّ والازدهار وتجويد ظروف الحياة... هكذا كنت أتوقع من صاحب الكلمة... تجنيبًا للجالية أية مشكلات هي في غِنى عنها...
وخلال هذه السطور سأحاول النظر إلى مشكلة الوجود المصري في تركيا من زاوية أخرى... تتركز حول إثارة بعض التساؤلات الوجيهة في هذا السياق...
وهي محاولة للاستشراف والتوقع والافتراض والاحتمال... حتى يمكن وضع المزيد من تصورات الحلول والبدائل والخيارات التي يمكن أن تكون مخرجًا مِمّا يمكن وصفه بِـ«الحالة» أو «المسألة المصرية» فيما لو اقتضت المصلحة التركية عبر القيادة الجديدة المرتقبة، التي سيختارها الشعب التركي، أن يتم التفكير في التخفف من عبء أنشطة الجاليات التي تُوصفُ بالمعارِضة في بلدانها الأصلية...
أولاً: لا يختلف شريفان حول رغبة استمرار تجربة العدالة والتنمية في استكمال مشروعها في بناء الدولة التركية القوية، ولا سيما بقيادة السيد رجب طيب أردوغان، ولكن ينبغي أن يكون واضحًا لدينا أنَّ التغيير من سنن الحياة ودوام الحال من المحال...
لذلك، اسمحوا لي بافتراض بعض التساؤلات التالية:
- ماذا لو اختار الشعب التركي مرشَّحًا آخر غير أردوغان، لا سمح الله، يرى أنَّ من مصلحة بلاده التخلص من صداع حركات المعارضة، ولا سيما المصرية، فلم يزل الأتراك ينظرون إلى مصر ككل باعتبارها قلب العالم الإسلامي، وقبلة الثقافة والعلم والأزهر الشريف... وقد لا يتوقفون طويلاً عند رواسب تجربة ديمقراطية أجهضت بانقلاب عسكري غاشم... ويرغبون بصورة أو بأخرى التعامل مع الواقع الجديد بما يخدم مسار العلاقات التاريخية بين البلدين...
ليكن معلومًا أنَّ الأتراك لم ينتخبوا أردوغان ولن ينتخبوه من أجل عيون الجالية المصرية أو لأنها وفَّرَ لها الحماية من تغول السلطات المصرية الحالية، ليس ذلك مطلقًا، بل انتخبوه من أجل تحقيق مصالح الشعب التركي
فكيف سيكون موقف الجالية المصرية في تركيا؟ هل ستعارض الرئيس الجديد وبأيِّ حيثية؟ وهل وضعيتها القانونية تسمح لها بهذه المعارضة... وما شكل هذه المعارضة وبأيِّ وجه... أم يريد هؤلاء المصريون أن يفتتن الشعب التركي بقضيتهم فيدافع عن قومٍ فرطوا في وحدة صفوفهم... ولم يحافظوا على نعمة الله عليهم... فضلاً عن كونهم لم يفلحوا في بلدانهم... فيما يتسببون بسوء سلوكهم في إحراج الأتراك والقيادة التركية التي فتحت بكل الحب لهم ذراعيها واحتضنتهم بكل تقدير ورعاية...؟
- ماذا لو رأي السيد أردوغان، بعد فوزه المأمول، أنَّ من مصلحة شعبه ضرورة التخفف من عبء المصريين والتعافي من صداعهم؟... بل دعونا نتساءل فيما لو فكر المصريون في الرحيل من تركيا نتيجة عماهم ورعونتهم وسوء تصرفهم؟...
- إلى أين ستكون وجهتهم القادمة فيما لو طُولِبوا بالرحيل في ظل احتمال رفض وجودهم بهذه الوضعية... وإذا كان من الوارد بقاؤهم مشروطًا بكفهم عن ذلك الشغب المتغابي أو الغباء المتشاغب الذي يضع الدولة التركية في مواجهة إحراجات وإكراهات هي في غنى عنها... ... فهل سيكون لدى الجالية المصرية استعداد ليعشوا سجنين في وقت واحد؛ سجن الغربة وسجن الذلة والصغار والاستحقار.... أم سيفضلون العودة ويكونون بصدد تنظيم جديد - تنظيم «العائدون من تركيا»؟!!! ألم تكفنا تجربة العائدين من البوسنة وأفغانستان التي لم تزل حلوقنا مغتصة بمراراتها وآثارها الوخيمة.
- وإذا تسنّت لهم العودة مقرنين في أصفاد الذل والاستضعاف والانكسار، لا سمح الله، فبأي وجهٍ سيلقون عظماء الداخل الذين كتب لهم سجنٌ واحد؟...
وغير ذلك أسئلة وجيهة تتعلق بحالة الجالية المصرية بتركيا... والتي تحتاج إلى وقفة حتى تستقيم الأمور...
ثانيًا: ليكن معلومًا أنَّ الأتراك لم ينتخبوا أردوغان ولن ينتخبوه من أجل عيون الجالية المصرية أو لأنه وفَّرَ لها الحماية من تغول السلطات المصرية الحالية، ليس ذلك مطلقًا، بل انتخبوه من أجل تحقيق مصالح الشعب التركي في ضواء برامج وخطط ليس من بينها التجمُّدِ عند مصالح الجالية المصرية القاصرة ومخاصمة العالم ومقاطعته من أجلها!... لعل ذلك واضحٌ لا يحتاج مزيد تفسير!.
ثالثًا: إنَّ احتضان تركيا للمظلومين وأصحاب القضايا أمرٌ مفهوم من الناحية الأخلاقية... لكنه قد يكون مجالا لإعادة النظر من ناحية المصالح السياسية، ولاسيما في ظل العجز الذي بدا في إدارة ملف المعارضة المصرية في الخارج؟ وانقسامات في الحالة الإخوانية... وكذلك عدم توافر الجالية المصرية على أفكار وتصورات وحلول بديلة لأزمة الداخل المصري فضلاً عن المضمون الإعلامي المتواضع عبر الفضائيات التي تبث من تركيا... هذه الظواهر قد لا تُشعِر الأتراك بالذنب إذا ما فكروا في تنفيض أيديهم من ملف المعارضة المصرية... الأمر الذي قد يترتب عليه فقدان الجالية المصرية جزءًا كبيرًا من زخمها الحقيقي..
وقد تتطور الأمور إلى ما هو أسوأ، لا قَدَّرَ الله، إلى حالات شبيهة بحالات العائدين من البوسنة وأفغانستان والشيشان.
والذي يلوح لي من تصورات حول حلول إجرائية يمكن للجالية المصرية تبنِّيها في المرحلة القادمة:
-تَجنُّب خوض الجالية المصرية في الشأن السياسي التركي، حتى من جانب المكتسبين للجنسية التركية منهم، ومن أراد الاشتغال بالسياسة التركية من الأتراك الجدد فلتسعه الأحزاب التركية بعيدًا عن لافتة الجالية المصرية حتى لا تُضارّ مواقفها ولا تزداد قضاياها خبالاً وتعقيدًا...
-تعميق منهج الاستشراف والتوقع والاحتمال والافتراض... وإعمال فقه المآلات والنظر في عواقب الأمور... ووضع تصورات لكل افتراض محتمل وحل لكل إشكالٍ متوقع... حتى يمكن معالجة قضايا ومواقف الجالية بأكبر قدر من المكاسب وأقل قدر من الخسائر...
-ضرورة وضع حَدٍّ لانقسام الجبهة الوطنية الغيورة، ولاسيما الانقسامات في صفوف جماعة الإخوان المسلمين، فهذه ضرورة لبداية أيِّ عمل إصلاحي جاد ومستدام.
على الوجود المصري بالخارج أن ينفي خبثه ويطَّرح لوثه... لكي يتعافى ويستفيق لنفسه... ولا بد من أن تكون تجارب حياتنا خبرة لعواقب الأمور
لست متشائمًا، ولكنَّ الذين ربَّونا من قبل كانوا يسألون عن الشر لتوقِّيـه مخافة الوقوع فيه!!. ربّانا الأكابر الثقافة النبوية الشريفة التي تقول: «الكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ».... ربونا على توقع الشر حتى لا نقع في المزيد منه... وهذا فقه عمر، الذي كان يتحرَّى أحواله دون أن يستبعد وجوده في قائمة المنافقين وهو يدري أو وهو يظنُّ أنه ناج... فهو رضي الله عنه الذي قال «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا... وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم»... إن لم تكن تلك الكلمات باعثًا على التوقف والتغيير فماذا ننتظر إلا الفناء والاستبدال...
ونصيحتي إلى جيل الشباب المصريين في تركيا، أن يطَّرِحوا عنهم فكرة العودة، وأن يبادروا إلى الاندماج الكلي في المنظومة التركية مدللين على صلاحيتهم لخدمة وطنهم الجديد... وعلى الشباب الصغير أن يعيد بناء أمله في ظل الواقع الجديد... عليه أن يتكيف مع معطيات هذا الواقع فيثبت ذاته ويبرهن قدرته على مواجهة تحديات غربة ما قبل المواطنة... وأن يتحرر من الانكسار وجراح الماضي... وأن يلتفت إلى تنمية ذاته وتجويد ظروفه النفسية بمزيد من الاندماج ليكون مواطنًا تركيًّا جديرًا بشرف الانتساب لهذه الأمة العظيمة!...
وآخرًا، وليس أخيرًا، على الوجود المصري بالخارج أن ينفي خبثه ويطَّرح لوثه... لكي يتعافى ويستفيق لنفسه... ولا بد من أن تكون تجارب حياتنا خبرة لعواقب الأمور... إنَّ ما حدث ليلة إفطار الجالية العربية من ممثل الجالية المصرية ينبغي ألاّ يمر دون حساب المسؤول عنه فحسب، بل المسؤول عن استمرار مسلسل الإخفاق والتقصير في حق جيل معرَّضٍ للهلاك بسبب أخطاء ما كان ينقصها إلا التحقيق والمحاسبة فقط.