الأيام القليلة الماضية غنية بالأحداث ومشحونة بالمشاعر، ولا تخلو من
النشوة والإثارة والقلق؛ فالأردنيون -أيا كانت مواقعهم- مشتبكون مع الحدث، ويعبرون
عن مواقفهم وآرائهم وخياراتهم بكل وسائل التعبير المتاحة وبحرية ومسؤولية وانضباط.
الآلاف خرجوا للساحات والميادين للهتاف والاحتجاج، ومثلهم تولوا مهام الرصد
والتصوير والنشر، وآخرون تولوا متابعة ما يدور من خلال ملازمتهم لوسائل التواصل
الاجتماعي، التي أصبحت تعج بآلاف القصص والأخبار التي تحتاج إلى الكثير من الجهد
والبحث للتحقق من صحة مضامينها.
ربما
إنها المرة الأولى التي يشعر فيها المواطنون بأنهم معنيون بكل ما يدور حولهم. وقد
تكون المرة الأولى التي أحس فيها الجميع بحمى الأسعار وقربها من التهام أساسيات
عيشهم وتهديدها لقدرتهم على الوفاء بأساسيات الحياة لبيوتهم وعوائلهم.
في هذه المرة لم يركن الناس لخطابات النواب وتمثيلياتهم، فقد أيقنوا
أن لا قدرة حقيقية لهم على التأثير، فلطالما وعدوا بأنهم لن يمرروا برامج الرفع
على أسعار السلع وسيراجعون برامج التسعير للطاقة ويدفعون باتجاه المزيد من
المشاريع التنموية، لكنهم سرعان ما يبدلون مواقفهم ليطلوا على قواعدهم بسيل من
المبررات الواهية.
لم
يسبق للجمهور الأردني أن تفاعل مع القرارات الحكومية بمثل هذا المستوى من السرعة
والحماسة والعفوية والشمول والتناغم كما تفاعل مع مشروع قانون الضريبة وقرار رفع
أسعار المحروقات لشهر حزيران. الاستجابة التي شارك فيها الآلاف من أبناء مدن
وبلدات وقرى وبادية المملكة بالخروج إلى الشوارع والساحات العامة كانت لافتة
ومؤثرة ومعبرة عن مشاعر ومواقف واتجاهات موحدة للمشاركين. غالبية الذين أسهموا في
إطلاق شرارة الإضراب أعضاء في النقابات والاتحادات والمنظمات والروابط المهنية
التي تمثل الطبقة الوسطى.
في
اليوم التالي، وعلى إثر الإعلان عن التسعيرة الجديدة للمحروقات، توافدت جموع كبيرة
من فئات عمرية مختلفة إلى الميادين والساحات والشوارع للتعبير عن غضبها واستنكارها
للقرار الذي اعتبره البعض تحديا لمشاعرهم وتجاهلا لشكواهم وتعبيرا عن استمرار
الحكومة في تجاهل أوضاع ومعاناة المواطن الذي لم يعد قادرا على الوفاء بالتزاماته
الأساسية وهو يواجه الارتفاعات المتتالية لكلف السلع والخدمات والتراجع المطرد
لقدرة الدخل على تسديد فواتير وكلف مستلزمات أسرته المعاشية.
النواب
والأحزاب وقوى المعارضة ودعاة الإصلاح لم يتمكنوا من أخذ مواقعهم بين صفوف الجماهير
التي انتظمت قبل وصولهم وتوحدت من دون أن تخضع للاستقطاب والتعبئة التي تقوم بها
فصائل العمل المنظم. البعض من المشاركين أتوا بعد أن أنهوا الركعات الثماني الأولى
من التراويح والبعض غاب في ذلك المساء عن طاولة المقهى وفوت على نفسه متابعة
المسلسل الذي شاهد ما عرض منه قبل حلول الخميس.
لا أظن أن أردنيا واحدا يريد أن يرى البلاد تنزلق إلى ما انزلقت إليه
بعض البلدان الشقيقة، لكن الجميع يئس من أداء مجلس النواب وأصابه الضجر من أجواء
العيش في عنق الزجاجة من دون وجود بارقة أمل للخروج من هذا المأزق الأبدي. في
الليلة الأولى حاول المتظاهرون تأكيد سلمية حراكهم والتعبير بطريقة لا تختلف عما
يقوم به الألمان أو الفرنسيون بحيث يوقفون مركباتهم بالقرب من رئاسة الوزراء
ويطفئون محركاتها في محاولة رمزية تعبر عن عدم قدرة الناس على دفع تكاليف الوقود
الجديدة وفي محاولة لتجسيد مشاعرهم الرافضة وشعارهم "معناش" بصورة
درامية بليغة.
على الطرف الآخر، حاولت الأجهزة الأمنية الموازنة بين توفير الأجواء
الآمنة للمواطنين وحماية حق في التعبير عن مواقفهم وضمان سلامة وحقوق الآخرين في
استخدام الشارع بصفته مرفقا عاما، الأمر الذي أدى إلى سحب ومخالفة بعض المركبات
التي أعاقت المرور في الشارع.
ما حصل خلال الأيام الماضية يقدم صورة مخبرية مصغرة لما يمكن أن تقوم
به الرقابة الشعبية من تصحيح للمسار اذا ما أخفقت المؤسسات في أداء مهامها، ويعبر
عن امتلاك الوطن لطاقة بشرية تحمل رؤية وحلما لما ينبغي أن تكون عليه الأمة.
الغد الأردنية