غريبة هي الإنسانية في انتظارها الدائم لمخلص ما، لبطل ينتشلها من الضياع وينقلها من الظلام إلى النور. لربما بدأت هذه الفكرة مع بداية الحضارات القديمة وتكون مفهوم البطل الأوحد، هذا الإنسان الذي ينقذ قبيلته بأكملها من إغارة أو يقود مدينته برمتها لمركز السيادة أو يحرر جماعته من طاغية.
دوما ما كان هذا البطل أهم من الجماعة، الجماعة المستوجب عليها ليس فقط إطاعته ولكن التضحية من أجله، الجماعة التي كانت مهما اشتد بها الخطب لا تستجمع قواها لتقاوم ولكن لتدعو بقدوم هذا المخلص لينتشلها من الأسى وليحررها من عبوديتها.
وهكذا بقي البشر دوما ينتظرون مخلصا ما، إنسان أوحد (عادة رجل) يأتي ليوازن ميزان الحق (عادة الحق في جانب الجماعة محل الذكر) وليعلو بهم إلى أعلى مراتب الدنيا. نرى هذه الفكرة تتكرر عبر التاريخ البشري، حيث لا فكرة هزمت مفهوم الجماعة وخلقت طغاة أكثر منها. فحتى من تقدم الزمن وتطور الفكر الإنساني، بقي البشر ينتظرون مخلصا، بطلا ما يعيد «للحق» نصابه. يحاول الغرب اليوم التخلص نوعا ما من هذه الفكرة بتعظيم مفهوم القيادة الجمعية وفكرة «الشعب يحكم الشعب»، إلا أن التوق «للمخلص» لا يزال ساكنا في جنبات النفس البشرية، فيظهر بين فترة وأخرى حتى في أكثر المجتمعات تقدما وديموقراطية.
في مجتمعاتنا العربية والإسلامية لا تزال فكرة المخلص غاية في الإلحاح، وقد كان لنا تجارب مع أبطال خلقتهم أممهم، بدؤوا مخلصين للمبدأ لينقلبوا لاحقا إلى طغاة بفعل التمجيد المستمر، ولربما لنا في رمز مثل جمال عبد الناصر أوقع مثال على تأثير التمجيد المستمر الذي يضع على كاهل «البطل» عبئا هو أكبر من طاقة إنسان منفرد، والذي يخلق منه طاغية أحيانا يرى في العنف والديكتاتورية سبيل قيادة، والذي يهدل من عزيمة الأمة بأكملها وهي تقبع أسفل قيادة إنسان منفرد تعليه مقام إله وتنتظر خلاصها بين يديه. حالة الخميني لا تختلف كثيرا من حيث المبدأ العريض رغم الاختلاف الشاسع في الأحداث، فالرجل بدأ بطلا بين التجمعات اليسارية قبل حتى الدينية، ليتحول بعدها إلى رمز مقدس، والرموز المقدسة لا يمكنها أن تكون ديمقراطية، فهي، بحكم تعريف قداستها، لا تشارك أحدا في رأي ولا تقبل خلافا أو معارضة. وهكذا يتحول الزعيم الوطني الذي كان من المفترض أن يخلص أمته من طاغية إلى طاغية آخر.
ولقد زحفت هذه الفكرة حتى إلى الأديان التي يعتنقها الإنسان، فلا يكاد يخلو دين على وجه الأرض من فكرة المخلص المرتقب الذي ينتظره أتباع هذا الدين ليأتي آخر الزمان فيحق الحق وينصر أمته (حيث أن بقية الأمم كلها ضالة) وينشر العدل والسلام. المفارقة الغريبة هي أن البشر يحيون مئات آلاف من السنوات، وفي الغالب سيحيون ملايين قادمة أخرى من السنوات، في عذاب وأسى وظلم وحروب وصراعات حول من يمتلك الحق ومن هو في جانب الله، ليأتي المخلص الديني في آخر الزمان بتسارع من الأحداث، فيحق الحق ويعلي شأن هذا الدين ويسيده على العالم، ثم تنتهي الحياة وتقوم القيامة.
غريب جدا هذا المفهوم وغريب أكثر توق البشرية له، فمن المفترض أن الأديان تهبط على البشر لتحقق لهم رخاء أخلاقي وتيسر حيواتهم على الأرض لحين حلول نهاية الزمان، إلا أن الحاصل الآن هو صراعات وحروب وقتل وإبادات بأسماء هذه الأديان ونيابة عن مخلصي آخر الزمان، انتظارا وتمجيدا لهؤلاء المخلصين، الذين ما أن يأتون، حتى تنتهي الدنيا. كيف إذن استفاد البشر؟ كيف حقق لهم الدين فكرة الرخاء اذا كان العدل لا يستتب و»الدين الحق» لا يسود إلا والدنيا على شفا حفرة من الفناء؟ لربما حان وقت مراجعة مفهوم المخلص الديني كما تمت مراجعة مفهوم المخلص السياسي، ربما حان وقت إحلال العدل والسلام الآن…والكف عن الانتظار.