ها قد أزفت السنة الخامسة من "إعلان التحرير" على الرحيل.. خمس سنوات عجاف حصدت آلاف الأرواح وأهدرت مليارات الدينارات بحكم الفوضى الناجمة عن صراع سياسي عدمي لا متناه، هذا ينادي بتطبيق أحكام الشريعة ويعتبرها خطا أحمر دونه الموت رغم أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يدين به الشعب الليبي وبعقيدة سليمة وراسخة منصهرة في بوتقة العرف والعادات والتقاليد التي نسجت بخيوطها النسيج الاجتماعي الليبي بالكامل، وذاك ينادي بالمدنية والحداثة وأن ما دون نهجه وأطروحته هو ردة عن الحضارة ودعوة إلى الجهل والتخلف في حين أن المدنية تضرب بجذورها في التاريخ الوطني الذي شهد أول جمهورية في المنطقة وعاصر الحضارة الغربية من خلال الاحتلال الإيطالي والأسفار وخبرة الطلبة والتجار الذين جالوا المشرق بأزهره وشامه وعراقه ومغربه بزيتونته ورباطه، حتى أضحى المجتمع الليبي يتميز بطابع فريد بامتياز، محافظا على ثوابته الاجتماعية المنبثقة عن عقيدته الإسلامية الراسخة ومتحررا في تفكيره وتطوره بتطور الحضارة ومظاهر المدنية.
من كل ذلك نستطيع القول إن الصراع السياسي بين الأحزاب والتكتلات "السياسية" إن صح تسميتها بالسياسية لا يمكن اعتباره صراعاً أيديولوجياً بمعناه الفكري ولا يمثل انعكاسا لحال المجتمع وليس من الصعوبة ملاحظة حالة الانفصام بين الطبقة السياسية في صراعها والطبقة الشعبية التي يفترض أنها تمثل القاعدة لتلك الطبقة السياسية.
يستفاد من ذلك أن الخلاف الحقيقي الحاصل بين الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة لا يعدو أن يكون تهافت محموم على الاستفراد بالسلطة دون النظر في جانب الطرح والفكر والمشروع ولا يراعي خطورة استمرار هذا الصراع على مصير الوطن فالجميع يردد ذات الدعوات و المبادئ و ينشد ذات الأهداف و الأوهام أحياناً وإن اختلف اللحن أو تمايز الإخراج وهذا في رأيي ليس مستغرب حيث إن الحياة السياسية غير موجودة باعتبار أنها كانت من المحظورات من أول يوم تأسست فيه الدولة الليبية قبل نصف قرن ولعله من المفارقات العجيبة أن تشهد ليبيا صراعاً سياسياً في حين أنها لم تعش تجربة سياسية مطلقاً في تاريخ الدولة منذ نشأتها.
استطرادا.. وارتباطا بمقام الحال فإنه ومن خلال تتبع مجريات الحوار الوطني المنعقد في الصخيرات طيلة عام كامل أضنى الليبيين بالانتظار و طول الأمل وبعد مضي زهاء عام آخر على توقيع الاتفاق السياسي، يظهر جلياً أن جولات الحوار المنعقدة في الصخيرات كانت تهدف إلى تحقيق اتفاق "مكتوب" يرضي طرفي الصراع "وإن كان مرحلياً" وإهمال ضرورة إطفاء نيرانه المشتعلة منذ سنوات، وهذا ما يفسر استخدام الأطراف المتنازعة للحوار كوسيلة للمناورة وتحسين المراكز وتحقيق بعض النقاط واعتباره جولة من جولات المصارعة السياسية التي تعصف تجاذباتها بمصير الوطن برمته.
حاصل الأمر أنه علينا الاعتراف بعدم قدرة طرف سياسي بعينه على الاستفراد بالسلطة ولا يمكن في ذات الوقت ممارسة قواعد الديمقراطية لعدم الاتفاق على نموذج ديمقراطي ليبي يناسب الطبيعة الخاصة لليبيا و الليبيين من حيث التجربة و الثقافة العامة والحاجات الطارئة التي تقلب موازين الأولويات الطبيعية للشعوب و الدول المستقرة و من ثم فلا مناص من جلوس الفرقاء تجميد العمل السياسي في إطاره الحزبي " الوهمي" و الارتكان إلى منطق يتسم بالواقعية وتقبل الآخر وخلع جلباب الوهم الذي جعل كل طرف يعتقد أنه قادر على القيادة وتحديد مصير الوطن بمفرده.
ونستطيع أن ندلل على ذلك من خلال تشكيلة المجلس الرئاسي وتعاطي أطراف الاتفاق مع استحقاقات تنفيذه حيث صارت فصلاً من فصول مسلسل "المهادنة و المباغثة" الذي لا تنتهي حلقاته وبذلك انتقلت ساحة المعركة إلى حرم السلطة و رحم الدولة الذي لن يلد إلا انشطارا مؤسساتياً بفعل هذا الصراع السياسي داخل السلطة "التي يفترض أنها توافقية" فأصبحت الأطراف المتناحرة تتسلح جميعها بسلاح الشرعية التي انضوت تحته وأضحت السلطة ذاتها ممثلاً شرعياً لهذا الصراع الذي يمزق نسيج الوطن على جميع الأصعدة.
أما المجلس الرئاسي وبهذا الحال فقد بات ممثلاً شرعياً لسلطة الصراع و صراع السلطة، وبذلك يصار إلى حتمية مفادها أنه لا يعدو أن يكون إلا أداة من أدوات المعركة و المناورة بين المتصارعين، ومن ثم تستمر الحاجة الملحة إلى توافق حقيقي و موضوعي والإقرار بواقع المجلس الرئاسي الذي لا يعتبر والحالة هذه ممثلاً لسلطة الدولة بقدر أنه هجين مفعول به إلى حين.
أخيراً.. أعتقد جازماً أن ليبيا بحاجة إلى مصالحة سياسية بين الأطراف المتصارعة وتتويجها بترويكا تقود البلاد خلال مرحلة انتقالية يجب ألا تكون قصيرة حتى تحقق الغاية المستهدفة المتمثلة في إعادة الاستقرار وبناء قواعد الديمقراطية الليبية التي تراعي خصوصية ليبيا جغرافيا وديموغرافيا وتاريخياً على نحو واقعي يضمن تعافي الجميع من فوبيا التربص والانقلاب والاجتثاث، والهدف المشترك المتفق عليه من الجميع واضح وجلي. ليبيا ولا شيء دونها، فإن زالت زال كل شي ولن تنفع حينها لا سلطة ولا غنيمة.