مقالات مختارة

المملكة غير المتحدة

جميل مطر
1300x600
1300x600
كتب جميل مطر: اليوم يبدأ العد التنازلي لآخر أيام المملكة المتحدة كما عرفناها منذ أن غربت الشمس عن إمبراطورية بريطانيا العظمى. لن تعود المملكة المتحدة، أياً كانت نتيجة الاستفتاء الذي يُجرى اليوم على استقلال اسكتلندا، إلى ما كانت عليه. يستطيع على كل حال، أبناء الجيل الذي أنتمي إليه أن يزعموا أنهم كانوا شهوداً على يوم انتهت عنده فعلا وإسماً «بريطانيا العظمى»، الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، وكانوا شهوداً بعد هذا اليوم من صيف عام تأميم قناة السويس على سنوات عديدة التزمت فيها حكومات المملكة المتحدة توجيهات ونستون تشرشل وغيره من قادة الإمبراطورية لخلفائه الانسحاب المتدرج من مستعمرات في أقاليم شرق السويس وأقاليم في أفريقيا . تركوا لهم أيضاً وصيتين قيميتين. أوصوهم السير في ركاب الولايات المتحدة الأميركية القطب الإمبراطوري الصاعد في نهمٍ وشره، لفرض نفوذه وقيمه على الأراضي التي رحل عنها جنود الإمبراطوريات الأوروبية المنهزمة والمنتصرة على حد سواء.. أدرك القادة أن الإمبراطورية وصلت إلى نهاية طريقها، بل وقدَّروا أن المملكة المتحدة التي خرجت من عباءة الإمبراطورية لن تصمد كدولة عظمى في عالم خرج من الحرب لا يتسع إلا لقطبين. كان أمل قادة الإمبراطورية العجوز أن يشعر البريطانيون والعالم بأسره أن إمبراطوريتهم جددت نفسها، بصورة أو بأخرى، في إمبراطورية جديدة تنطق بلغتها وتدين بعقيدتها الاقتصادية وتبشر بقيمها السياسية، هي الولايات المتحدة. وبالفعل، رأينا بعض رؤساء حكومات المملكة المتحدة وقد تقلدوا دور الناصح الذي لا يمكن لواشنطن الاستغناء عنه، باعتبار خبرة وتجارب البريطانيين في حكم العالم وفي تشكيل تحالفاته وعقد التوازنات ونشر ثقافة الغرب. لعبت مارغريت تاتشر هذا الدور بنجاح كبير ثم حاول طوني بلير الاستمرار في هذا النهج. وفعلاً، يبقى التاريخ شاهداً على أهمية الدور البريطاني البارز في تشجيع رؤساء أميركيين عديدين على شن مغامرات حربية ضد دول وشعوب أخرى، وحماية إنجازات «الحضارة الغربية».

تعلقت الوصية الثانية بعلاقة المملكة المتحدة بأوروبا. لم يستطع القادة الإمبراطوريون التخلي عن «عنصريتهم» التاريخية تجاه شعوب وقيادات أوروبا وعزوفهم التقليدي عن الانغماس في مشكلاتهم وصراعاتهم، وفي الوقت نفسه، أدركوا أن أوروبا التي تسببت في نشوب حربين عالميتين لا تُترك لحالها، ولدى المملكة المتحدة فرصة ثمينة لتلعب دور الموازن الخارجي، مستفيدة من ارتباطها الوثيق بالقطب الأميركي الأعظم. المؤكد لنا كمراقبين من خارج الغرب هو أن سبعين عاماً استغرقتها حكومات لندن لتنفيذ الوصيتين لم تُصلحا من حال الشك المقيم بين ساسة أوروبا وساسة المملكة المتحدة.

الاستفتاء على استقلال اسكتلندا يعني أن المملكة المتحدة، حتى وإن استمرت بعده تحمل الاسم نفسه، إلا أنها في نظر أميركا وأوروبا، لن تكون في واقع الأمر تعبيراً صادقاً عن الاسم الذي تحمله. ستبقى مملكة ولكن ليست متحدة كما كانت، أي ستكون مملكة أقل شأناً ومكانة ونفوذاً. أكاد أنضم إلى المحللين الذين يلقون باللوم على ساسة لندن، أي هؤلاء السياسيون الذين يطلق عليهم الاسكتلنديون عبارة «جماعة وستمنستر»، نسبة إلى مقر التشريع والحكم في لندن. الخطأ الأكبر الذي وقع فيه اللورد كاميرون، إذا كنا نعتبر أن الانفصال تطور تعيس، هو أنه لم يضع أمام الشعب الاسكتلندي خياراً ثالثاً الى جانب خياري الاستقلال والاستمرار، خيار يسمح بانتقال سلطات أكثر وأوسع للقيادات المحلية في اسكتلنده.

«القوميون» الاسكتلنديون المطالبون بالاستقلال يتهمون حكام لندن بأن سياساتهم الاقتصادية تسببت في انحدار الصناعة في اسكتلندا وإغلاق العديد من المصانع وبطالة عمالها. هم أيضاً مسؤولون عن تدهور نظام الرعاية الصحية في بلادهم وعن ارتفاع تكلفة الرسائل البريدية! قد يكون في الاتهامات مغالاة أو سوء تقدير، كما يحدث دائماً في مطالب القوميين الانفصاليين في كل مكان، فالتدهور الصناعي حدث في كل أركان القارة الأوروبية وليس فقط في اسكتلندا بسبب انتقال مراكز الصناعة إلى آسيا وبخاصة الصين. من ناحية أخرى، ما زال الاسكتلنديون يحصلون على مزايا اجتماعية وصحية تفوق ما يحصل عليه المواطن في إنكلترا وويلز وإيرلندا الشمالية. يعود هذا الامتياز في حقيقة الأمر إلى أن الاسكتلنديين استطاعوا بمهارة سياسية فائقة الحصول من الحكومة المركزية في لندن على مكتسبات اجتماعية وفيرة مستخدمين التهديد بالانفصال.

لا شك في أن الأداء السياسي لحكومة لندن لم يكن على المستوى المنشود، ولكن لا شك أيضاً أن الانفصاليين لم يرتبوا مواقفهم وأسبقياتهم بحسب الاهتمامات الاقتصادية بقدر ما رتبوها متأثرين بالعاطفة. إن كل من اتيحت له زيارة الجزر البريطانية وقراءة تاريخ العلاقات بين شعوبها يعرف جيداً أن المسألة القومية في هذه الجزر ظلت حية لمئات السنين. بل ويعرف أيضاً أن الأساطير الوطنية والقومية ما زالت تحرك مشاعر ومواقف أهل اسكتلندا أكثر من أي اعتبار مادي. أحد العاملين في الحقل الثقافي في إدنبره قال لي ذات زيارة، إن الاسكتلنديين لم يكفّوا عن التمسك بالأساطير القومية واختراع أساطير جديدة إلى درجة أنهم صاغوا أسطورة تحمل اسم الممثل الشهير ميل جيبسون. يقول الصديق من إدنبره إن الفيلم السينمائي BRAVEHEART الذي أدَّى فيه جيبسون دور البطل الأسطوري ويليام والاس لعب دوراً كبيراً في تصعيد روح الاستقلال ومشاعره في اسكتلندا.

مرة أخرى، تطغى قضية الهوية على غيرها من القضايا التي حركتها مسيرة العولمة وتصاعدت مع أزمات النظام الرأسمالي على امتداد العقود الثلاثة الماضية. مرة أخرى تتعرض أهم تجربة في تاريخ أوروبا إلى تهديد للقيم والمبادئ والإنجازات التي يفخر بها الاتحاد الأوروبي. كان هدف السياسيين الأوروبيين إقامة أوروبا الموحدة على حساب سيادة الدول الأعضاء، فإذا بنا أمام حركات انفصالية تستفيد من تراجع مبدأ السيادة وتسعى للانضمام أعضاء مستقلين كاملي الإرادة في الاتحاد الأوروبي. أتصور أن إسبانيا مثلا لن تسمح بانضمام اسكتلندا في حال استقلت إلى الاتحاد الأوروبي، وأتصور أن فوز الانفصاليين في استفتاء اليوم سيرفع من معنويات أهل كاتالونيا وشعوب أخرى في القارة الأوروبية تسعى لتحقيق شخصيتها وإرادتها الحرة، ولكن في سياق هوية أوروبية أوسع.

لا خلاف على أن ظاهرة الانفصال تحمل تناقضات تثير الشكوك في فرص نجاحها. هؤلاء الذين يطالبون بالاستقلال والسيادة يعرفون جيداً أن القيود على السيادة وحرية القرار المفروضة على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تزيد عن القيود المفروضة على حرية أقاليم ومقاطعات عديدة في تلك الدول. لا خلاف أيضاً على أن تكلفة الدفاع والأمن في دول حديثة الاستقلال قد تمثل عبئاً لا تحتمله اقتصاداتها، وإن قبلت الانضواء في حلف دولي فمعنى قبولها هذا تنازلها عن جانب من إرادتها وحريتها وسيادتها.
ينتهي الجدل غالباً بالاعتراف بأن تأكيد الهوية والاعتراف بها والدفاع عنها هي العناصر الأهم في نشوب حركات الانفصال والسعي إلى الاستقلال.

(السفير اللبنانية 18 أيلول/ سبتمبر 2014)
التعليقات (0)