كتاب عربي 21

مؤشرات كفاءة الحكم

شريف أيمن
عانت الدول العربية من الحكم العسكري والنخب السياسية معا- الأناضول/ جيتي
عانت الدول العربية من الحكم العسكري والنخب السياسية معا- الأناضول/ جيتي
يقول نزيه الأيوبي (ت: 1995) عن الأنظمة العربية إنها "قد تكون قوية، بل ومفترسة من الناحية الأمنية، ولكنها ضعيفة من ناحية الشرعية أو القدرة على جمع الضرائب". واللافت في كلام الأيوبي أن هذه الأوصاف ارتبطت بالأنظمة في منطقتنا بعد تولي ما تُسمَّى بحركات التحرر الوطني للحكم، فحدَثَ أن المجتمعات العربية قامت بالتضحيات وتقديم الأرواح في سبيل التخلص من الاستعمار الأجنبي، ولما وصلت القيادات المسلحة إلى الحكم، جرى انتزاع الحرية من يد الشعوب المضحية، وأمعن الحكام الجدد في الاستبداد إلى الحد الذي منع مقاومي الاحتلال السابقين من أن يقفوا أمام بطشهم الذي جاوز حدود إجرام المحتلين.

وربما اختار الأيوبي الشرعية والجباية، باعتبارهما من أهم مؤشرات الرضا الشعبي عن الحكم، فالمجتمع الذي لا يرضى عن شعبية حاكمه سيستحدث الوسائل التي تجعله يفلت من دفع مقدرات جبايته، وستكون أدوات الإكراه المسلحة للحاكم هي المظهر الوحيد لكونه حاكما، يحكم بالقهر والجبر بدلا من القبول والرِّضى.

المجتمع الذي لا يرضى عن شعبية حاكمه سيستحدث الوسائل التي تجعله يفلت من دفع مقدرات جبايته، وستكون أدوات الإكراه المسلحة للحاكم هي المظهر الوحيد لكونه حاكما، يحكم بالقهر والجبر بدلا من القبول والرِّضى

تبرز في هذا الصدد ما أسماها لوسيان باي (ت: 2008) أزمات التنمية السياسية الست: الشرعية، الهوية، الاستقرار السياسي، توزيع الموارد الاقتصادية، التغلغل، المشاركة السياسية. وهي الأزمات التي يمكن اعتبارها أزمات حكم، أو مؤشرات كفاءة الحكم بالمقابلة، مع استبعاد المعنى الضيق لمفهوم التنمية. وتجدر الإشارة إلى أن فكرة وضع المؤشرات وليدة التأثر بثقافة العلوم الطبيعية، وإرادة وضع مقاييس لكل شيء يتم بحثه علميا.

توصف الحكومة (باعتبارها جهة التنفيذ) بأنها كائن عضوي يباشر السلطة لا بوصفه صاحبها، وإنما هو أداة الدولة في ممارسة مظاهر السلطة في المجتمع، وتعتمد الحكومة في قيامها على ركنين؛ ركن مادي، وهو يتعلق باحتكار أدوات الإكراه المادي، وركن معنوي، يتعلق بتصور الجماعة المحكومة لهذا الاحتكار على أنه شرعي، وبقصد تحقيق الخير العام للمجتمع. وهذان الركنان يمثلان ظاهرة الضبط السياسي الناشئة من انقسام المجتمع إلى حاكمين ومحكومين، فالشرعية نتاج رضى المجتمع عن الحاكم باعتبار أنه يسعى لتحقيق الخير العام، فإذا فَقَدَ المجتمع تصور الخيريَّة عن الحاكم، فقَدَ الأخير رضى المجتمع.

أما الهُويَّة، فهي تعني عُلو الولاء العرقي أو الطائفي على الولاء الوطني، لكن بحكم إشكالات منطقتنا فنحن أمام أزمة هوية أعمق من تلك السائدة في التنظير السياسي الغربي، فهناك غياب للولاء الوطني والثقافي أمام الحضارة الغربية، وأصبحت اللغات الأجنبية تُدرَّس ويُتحدَّث بها لا من باب الضرورة العملية أو العلمية، بل من باب الوجاهة الاجتماعية، أو احتقار الذات الوطنية. وهذا الانهزام يندرج تحت تصنيف التبعية، وهي من أخطر مؤشرات ضعف الدول لا النظام السياسي فقط.

إذا انعدم الفساد، وقامت المؤسسات بدورها الوطني بغرض تحقيق الخير للمجتمع، أمكن وصف النظام السياسي بالاستقرار، وإذا كان غير ناجح في القيام بدوره فيمكن للمجتمع أن يقوم بتغييره بصورة طبيعية لا تستدعي الانزلاق نحو مغامرات دموية

ثم تأتي أزمة الاستقرار السياسي، وهي منقسمة إلى قسمين؛ أحدهما يتعلق بعدم تجانس المجتمع في الحدود الجغرافية للدولة، وثانيهما يتعلق باستقرار مؤسسات الحكم، ويتصل هذا الاستقرار بنقطتين كذلك؛ قيام مؤسسات الدولة بدورها في إطار القبول الشعبي لها، وغياب الفساد داخل هذه المؤسسات، فإذا انعدم الفساد، وقامت المؤسسات بدورها الوطني بغرض تحقيق الخير للمجتمع، أمكن وصف النظام السياسي بالاستقرار، وإذا كان غير ناجح في القيام بدوره فيمكن للمجتمع أن يقوم بتغييره بصورة طبيعية لا تستدعي الانزلاق نحو مغامرات دموية.

اعتبر لوسيان باي كذلك أن اختلال توزيع الموارد الاقتصادية مؤشر لأزمة من أزمات الحكم، فموارد المجتمع مِلك له كله، واحتكار فئة لها أو لأغلبها، أو قيامها بتوزيعها على الفئات المُناصرة لها دون غيرها، فكل ذلك من مسببات السخط الاجتماعي، ومؤشر غياب للعدالة يستدعي اضطراب النظام السياسي، وفقدانه لبعض أو كل شرعيته. وبالطبع لا تعني العدالة في توزيع الموارد أن تُوَزَّع بالتساوي بين أفراد المجتمع، بل توزَّع بقدر جهد كل فرد، ودون وضع عوائق أمام أحد تمنعه من نيل حقوقه.

عقب ذلك تأتي أزمة التغلغل، وهي تعني قدرة وصول النظام السياسي إلى كل مكان في نطاق حدوده الجغرافية، وهذا لا يعني الوصول الأمني فقط، بل الإداري كذلك. وبالنظر إلى الدول العربية، فنحن أمام قدرة للوصول الأمني غالبا، لكننا نجد غيابا إداريا في كثير من الأماكن النائية، بل حتى في الأماكن المأهولة، تقوم العادات العرفية بالقيام بأدوار إدارية متجاهلة وجود مؤسسات الحكم في نطاقها.

نحن أمام حالة مأزومة في المؤشرات الستة في أغلب البلدان العربية إن لم تكن كلها، رغم أن بلادنا غنية بالموارد الطبيعية والبشرية التي تسمح لها بأن تكون في منزلة اقتصادية وسياسية وعسكرية أفضل بأضعاف المرات مما هي عليه

وأخيرا وضع باي مؤشر المشاركة السياسية، ويعني به المشاركة الشعبية في العملية السياسية، وقد رعت حكومات ما بعد التحرر الوطني ثقافة اللا مبالاة السياسية، ويمكن النظر إلى الحالة المصرية التي كانت تحيا حياة حزبية وسياسية شديدة الحيوية، ثم قام الضابط الجاهل والمغرور بسحقها تحت قدميه، فأدَّى غياب الأحزاب وانعدام الحياة السياسية إلى تبلد استمر لأكثر من سبعين عاما في مصر، لم تقطعه حيوية إلا في سنتي الثورة عام 2011.

تغني النظرة العابرة لأوضاع بلادنا عن الحاجة إلى أن يقوم متخصص في العلوم السياسية بوضع تصنيف للأنظمة السياسية القائمة، فنحن أمام حالة مأزومة في المؤشرات الستة في أغلب البلدان العربية إن لم تكن كلها، رغم أن بلادنا غنية بالموارد الطبيعية والبشرية التي تسمح لها بأن تكون في منزلة اقتصادية وسياسية وعسكرية أفضل بأضعاف المرات مما هي عليه.

لكن بلادنا عانت من الحكم العسكري من جهة، ومن النخب السياسية من ناحية أخرى، ومرارتنا من النخب المدنية لا تقل عن مرارتنا من الأنظمة العسكرية، فكم من فرصة أضاعتها بسبب التناحر والتنافس السياسي، الأمر الذي يسمح لمتطفل على العلوم السياسية مثلي، بوضع مؤشر سابع يسميه "أزمة النُّخب المدنية".
التعليقات (0)