قضايا وآراء

عن خطيئة مجاراة القوى السياسية الفلسطينية لعباس وتبعاتها

خلدون محمد
1300x600
1300x600

إذا كان من تعريف أمثل لمحمود عباس (أبو مازن) كرجل سياسي، فسيكون أنه "رجل لا صاحب له"، فقد أدار ظهره لجميع حلفائه وأصدقائه ورجاله الأقربين قبل البعيدين: (محمد دحلان وسلام فياض وياسر عبد ربه ورامي الحمدلله ونبيل عمرو ونبيل شعث وسليم الزعنون وناصر القدوة وغيرهم). ومن باب أولى كانت إدارة ظهره الكاملة والصريحة والواضحة للبعيدين منه الذين لم يرَ فيهم إلا خصومًا مقيتين مزدرين ووضيعين لا يستحقون منه عناء الحوار ولا اللقاء ولا الاتفاق، فضلًا عن التواضع لهم وإشراكهم في الشأن العام. 


وإذا كان المرء يُعرَف بمن يصادق ويصاحب كدلالة على أخلاقه وعقله، فإن اختيارات أبو مازن كرئيس لإدارة شعب كالشعب الفلسطيني يمرّ بمرحلة تحرر وطني؛ وينسج علاقاته الحميمة مع الدوائر الأمنية الأشد عداءً لشعبه ويختار من بين أبناء الشعب بطانة هي الأسوأ والأسفل أخلاقيًّا ووطنيًا وسياسيًا.. اختيارات تكشف لنا حقيقة الرجل وعقليته، لأن اختيارات المرء جزء من عقله، كما قالت العرب. فمن هو حسين الشيخ أو ماجد فرج أو محمود الهباش؟ إنهم الرموز الأكثر عفنًا وفسادًا وانحرافًا وغدرًا. هؤلاء وأضرابهم الذين يتغطّى بهم محمود عباس كانوا حتى سنوات قليلة سابقة نكرات من نواحي عديدة، وهم لا زالوا نكرات في عالم الفكر والشرف والوطنية، وإن عرفوا بشيء فهم عُرفوا بنقيض ذلك كله: اللاشيء والجهل واللاوطنية!!


إن من يختار هؤلاء ويقدمهم على الشعب الفلسطيني وعلى مقاوميه ومجاهديه وشرفائه وعقلائه ومفكريه وأعيانه، إنما هو في الحقيقة متطابق مع ما يمثلونه من قيم ومكانة. 


وإجمالًا فقد كان أبو مازن نفسه نكرة، ولا يكاد يعرفه أحد، عندما كان اسمه يُضاف للجنة فتح المركزية: أبو عمار، أبو إياد، أبو جهاد، خالد الحسن، سعد صايل، كمال عدوان، أبو يوسف النجار أبو الهول، ممدوح صيدم... وإذا كان أبو مازن بعد رحيل زملائه الأقوياء في مركزية فتح، وبقائه في المرتبة الثانية بعد عرفات (رغم معرفة الجميع عن تخصصه في ملف العلاقات والاتصالات الخلفية مع الصهاينة منذ سبعينيات القرن الماضي) يبدو كشخص ملتبس من ناحية علاقاته بالداخل الفلسطيني، خاصة وأنه كان يُظهر تمايزًا في بعض المحطات على طريقة (أبو عمار) في معالجة بعض المسائل. ولكن ما كان مفاجئًا حقًّا في تجربته للحكم وممارسته للسلطة هو تخييبه لآمال الذين اعتقدوا بمثل ذلك التمايز. فالرجل أسفر عن "فتحاوي نموذجي" من حيث القيم السلبية التي أصبحت معروفة عن كبار رجالها من أخلاقيات شوارعية: كالغدر والكذب والخداع واحتقار الآخرين والأنانية والطيش والتآمر والجبن... والرجل في ذلك بزّ جميع أقرانه وزملائه السابقين والحاليين في هذه الصفات. وبرهنت صفاته هذه على خطأ من لا زال يعتقد أو يتوهّم أن هناك "مسلكية ثورية" – كانت ذات يوم دليلًا أخلاقيًّا وتنظيميًّا – يمكن أن تلتزم بها قيادات فتح، فهناك اليوم مسلكية جامعة لكل الأخلاقيات الهجينة التي أنتجتها مرحلة ما بعد الاستقلال في العالم العربي، في السبعين عامًا الأخيرة، وما عبرته من اختلالات حقبة النفط، وتوالي الهزائم الثقيلة، وتولّي الطبقات الدونية وتصدرها للزعامة والحكم، بكل رعونة وفجاجة واختلال. 


في رأينا، لم يعد أبو مازن هذا، وبكل ما ذكرناه عنه وما لم نذكره، هو المشكلة! إن المشكلة في الحقيقة في القوى السياسية الفلسطينية التي لا تزال تتواصل معه، بخاصة الإسلامية، وهي المرشّحة الوحيدة في المشهد الراهن لتغيير الوضع، إذا ما زال قادتها يتعاملون معه بالرغم من كل سياساته الكارثية التي مسّت أسس القضية الفلسطينية، قبل أن تمسَّهم، إذ لم توفّرهم هم أنفسهم في طريقها، فهم لا زالوا لم يستخلصوا - كما يفعل أي مشتغل بالسياسة - من كل تجاربهم المريرة معه لا الدروس ولا العبر، وبالتالي نراهم عاجزين عن اقتراح مخرج من أكبر عقبة من العقبات الماثلة في وجوههم، وفي وجه قضيتهم. 


إن عباس وما يمثّله ويعكسه من "نظام سياسي سلطوي" و"شلة حكم المقاطعة" في رام الله، هو عقبة العقبات، وإن لم يتم تشخيصه كعقبة في وجه المستقبل الفلسطيني بعد كل تلك السنين العجاف، فستكون هناك مشكلة مستعصية في الرؤية. ومن يدقق قليلًا في اختيارات الإسلاميين في تزكيتهم له؛ مرة كرئيس للوزراء عام 2014، ومرة كرئيس "متفق عليه" حسب السيناريو الحالم، الذي اعتقد معه واضعوه بأنه الأكثر أمانًا، عندما كانت حركتا فتح وحماس (الرجوب - العاروري) تخططان له "في الوساع" وذلك عشية الذهاب لانتخابات نيسان 2021 الملغاة، وأخيرا لقاء المجاملة بينه وبين هنية في الجزائر قبل أسبوعين نزولًا عند رغبة المضيف الرئيس الجزائري.. كل ذلك يعيد التذكير بأن مسألة الدروس والعبر والاستخلاصات غير قائمة، وأن حماس تبدو في مثل هذا الظهور كمن لا يزال يمنح عباس نوعا من الشرعية السياسية المطلوبة التي يتلطّى خلفها أمام العالم الخارجي، وحتى أمام الداخل الفلسطيني. هذا العباس الذي تقوم أجهزته بالخصوص في الشهور الأخيرة بالبطش بعناصر وكوادر حماس في الضفة الغربية. 


هنا يبدو سلوك حماس السياسي عديم الحيلة، وشبيه بدرجة سذاجته وطيبته وتردده وقلة تقديره وتخطيطه وتقييمه بأشباهه من سلوك الحركات الإسلامية الإخوانية في مصر أو تونس أو غيرهما التي تمارس السياسة والعلاقات السياسية العامة على طريقة "الدعاة" وليس "الدهاة"، أو ما تقتضيه الحسابات السياسية الصارمة، التي تخضع لنوع من الدراسة وموازنة الأمور وتعقلها وترشيدها. وفي مثل هذه الحالة المفترضة من النجاعة السياسية التي نتوقعها في سلوك حركة سياسية تعبر عقدها الرابع وتعيش في جغرافيا سياسية مركبة ومشحونة، نفترض أن تخضع سياساتها للدرس والتمحيص والمراجعة.

 

وفي هذا تدخل عملية توزين عباس، أو بوجه أدقّ مطلوب من حماس ومن باقي القوى السياسية إعادة تعريفه على ضوء سِجلِّه الحافل في الحكم خلال الـ17 عامًا الماضية: هل هو رئيس شرعي، ويمثّل الفلسطينيين في سياساته وإجراءاته؟ ما هي حدود التعاطي مع تلك السياسات بوصفها "اجتهادات سياسية"؟ هل هناك حدود، أو مسوّدة أخلاقية ووطنية وسياسية لما يمكن للاجتهادات السياسية أن تطرحه، وتظل في التعريف وطنية وسياسية وأخلاقية، وما دونها خيانة وغدر وتآمر؟ إذا كانت أوسلو كارثة – كما تقول ذلك كل الأدبيات السياسية الفلسطينية، بما فيها ربما مواقف لفتح نفسها - فما هو الموقف من الاستمرار وبثبات في هذه الكارثة؟!- والأهم ما هو الموقف الذي يمكن أن يتم تثبيته داخليًّا وخارجيًّا من (أبو مازن) كزعيم كارثي وخطير ذهب بعيدًا جدًا في مرحلة إعادة إنتاج أوسلو؟! ألا يوجد هناك مراكز أبحاث أو مفكرين واستراتيجيين يمكن الاستنارة بخلاصات أبحاثهم ومعلوماتهم لنتمكن من بلورة تعريف واضح لما عليه حاله، ومن ثم صياغة السياسات والاستراتيجيات والخطط المناسبة للتعامل مع هذا الشخص الخطير والكارثة والعائق أمام تطلعات الفلسطينيين؟ ألا تتحمل القوى السياسية التي تجاريه، وتتواصل معه بالرغم من كل شيء، مسؤولية بقائه. وربما تشجيعه على الإمعان في خطه السياسي الكارثي؟!


وهنا لا بد أن نسجل دهشتنا في قدرة حركة فتح على الإمساك بزمام المبادرة والتزعم في شتى الأحوال، فهذا لا ينطبق فقط عليها حين أطلقت طلقتها الأولى التي جعلتها "أمّ المبررات" للتزعم والتسيّد، بل وأيضًا تدهشنا أكثر وهي تتخذ من تلك الطلقة الأولى زمام مبادرة لارتكاب الخيانة الرسمية الأولى، فهي لديها من الجسارة والمجازفة أو قل العبث؛ ما يكفي لتحجب الصورة وتجلس خلف المِقْوَد! كما تذهلنا قلّة حيلة الآخرين وترددهم إن لم نقل ارتجافهم، عن الإقدام والإمساك بزمام المبادرة، مع أن الظروف على سوئها، مواتية كي يتقدموا - سياسيًّا -المسرح بعد أن تقدّموه مقاوماتيًّا من دون منازع. ويبقى السؤال المحيّر: لماذا يتصرف المقاومون - سياسيًّا- من وضعية اليد السفلى مع الفاشلين والعابثين، بدل أن يكونوا أصحاب يد عليا؟!

 

0
التعليقات (0)

خبر عاجل