قضايا وآراء

"صحوة علمانية".. ولكن بلا مضمون أيديولوجي.. ماذا بعدها؟

خلدون محمد
1300x600
1300x600

إن من أكثر الدلالات شيوعًا لمصطلح العلمانية "secularism" شديد الإشكالية، هو ذلك المعنى الذي ترجمه أهم قاموس إنجليزي – عربي "المورد"، على أنها: "الدنيوية – عدم المبالاة بالدين أو بالاعتبارات الدينية".


وهذا يعني الانغماس في الواقع الأرضي المحسوس والانسلاخ عن الجانب الروحي والغيبي. ونجد في التعبير القرآني "النسيان" بمعنى "الترك والتخلي" عن الدين، ما يؤكد هذا المعنى. كما ورد في آيات كثيرة: "نسوا الله فأنساهم أنفسهم"، "نسوا الله فنسيهم"؛ بمعنى تركهم، فالله منزّه عن النسيان و"نسوا حظًا مما ذُكّروا به.."، "كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى..". فالعلمانية في كل الأحوال تقوم أساسًا على أخذ موقف من الدين، قد يكون معاديًا في أقصى تجلياته، أو محايدًا في أدناها، ولكنها بالتأكيد تنبذ الدين أو تضع له قيودًا أو تحجّمه في أضيق نطاق.


شهد التاريخ الإنساني موجات من التديّن، وموجات من هجران الدين. ولعل أجيال القرن العشرين شهدت تعاقب تلك الموجات، من مخاصمة الدين واعتباره "أفيون الشعوب" ومومياء محنّطة في متاحف التاريخ، والنظر إليه كمعطى رجعي تخلفي وكعائق أمام النهضة والتقدم، كما جسّدت ذلك النظريات والفلسفات - المادية – بالأخص منها الماركسية – فكنا هنا مع علمانيات مؤدلجة ومؤطّرة مفاهيميًا، لكن مع تآكل الأيديولوجيات العلمانية ثم انهيارها – لأسباب ذاتية وبنيوية في الغالب الأعم – وفي المقابل وجود تعطش روحي كان كامنًا وسرعان ما تفجّر من خلال حركات وتيارات إحيائية شملت مختلف الأديان والعقائد في أربعة أرجاء الأرض؛ سواء في البوذية أو الهندوسية أو اليهودية أو المسيحية. وبالأخص برزت ظاهرة "الصحوة الإسلامية" كأهم الظواهر الإحيائية في الثلث الأخير من القرن العشرين.


هناك ملاحظة لا تخطئها العين في العقدين الأخيرين في منطقتنا العربية، بصعود موجة عاتية غير مسبوقة من "الدنيوية" التي تنطوي على ترك الدين، وحتى ترك منظومات الروابط الاجتماعية والتراحمية التقليدية المتوارثة، يصاحب ذلك درجات بهذا المقدار أو ذاك من التحلل من القيود وتعزيز النزعة الفردية، وقد ساهمت عوامل عديدة في توليد هذه الحالة الهجينة التي تمر بها المنطقة.. منها:


أنه ورغم نجاح الصحوة الإسلامية اجتماعيًّا وثقافيًّا في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين في إعادة الاعتبار للإسلام فكرًا وهوية ومنهج حياة، غير أنها تعثرت في اجتياز عتبة السياسة، وكانت الآمال كلها معقودة على ترجمة تلك الصحوة بصيغة حكم سياسي عادلة وملبية لحاجات شعوب المنطقة في الحرية والاستقلال وصيانة كرامة الإنسان وتوفير شروط الحياة الكريمة والنهوض والتنمية واللحاق بركب الأمم المتقدمة. وتزامن ذلك مع تضاؤل ما تمثله القضية الفلسطينية كقضية مركزية جامعة للأمة العربية والإسلامية، خاصة بعد توقيع اتفاق أوسلو، ودخول المنطقة في "العصر الإسرائيلي" ثم ما صاحب ذلك من حروب الخليج العبثية منذ 1980 والتي تكلّلت بسقوط 2003. 


ثم جاءت الهجمة على العالم الإسلامي بعد أحداث أيلول 2001، ثم انفجار الحروب الأهلية التي أعقبت الربيع العربي، صعود حركة "الثورة المضادة" في المنطقة، وانكشاف المنطقة على لعبة أمم كبرى، استخدمت فيها "السلفية" المنغلقة كمذهب فكري معاد للعصر، ويعرض الإسلام بأكثر الأدوات تنفيرًا وتعقيدا للآخرين من الدين والتديّن، وتقديم الدين باعتباره عدوًا "للدنيا" وللحياة، الأمر الذي ساهم في هروب الناس من الدين، وربما من شتّى القيم الترابطية. وهذه حالة تحلّلية تسود بالعادة الأمم التي تدخل حروبًا طويلة طاحنة، حدث ذلك مع فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، وسنجد في الفلسفة والأدب الوجودي الذي ساد أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية خير كاشف لتلك الحالة بأفكارها الفوضوية والعبثية والعدمية والتي أخذت تمجّد الانتحار كقيمة عليا للحياة، أو "اللاحياة". وكان كتاب "الوجود والعدم" لجان بول سارتر، وكتاب "اللامنتمي" لكولن ولسون، وروايات وكتب ألبير كامو مثل "الغريب" و"المتمرد" خير كاشف عن تلك الحالة. 


ومثل هذه الموجة "الدنيوية" التي تعقب بالعادة الهزائم الكبرى، نجدها قد ضربت منطقتنا العربية، بالأخص بعد هزيمة عام 1967 المريرة لبضع سنوات سبقت ظهور الصحوة الإسلامية في النصف الثاني من السبعينيات، التي ازدهرت فيها مذاهب كالماركسية، ليس من جانبها الفكري – على أهميته – بقدر ما كانت تمنحه من مبررات "مادية" للتحلل القيمي!! وربما ستكفينا إطلالة على الألبومات التي تُظهر زيّ فتيات الثانويات في سنوات 1967 – 1975 في مدارسنا، ونقارنها بمثيلاتها في الثمانينيات أو التسعينيات، لنرى حجم التغير، ولا بأس هنا أن نقتبس عن المراقب الأهم في المنطقة العربية "محمد حسنين هيكل" الذي أورد في كتابه "عند مفترق الطرق" ما نصّه: "إننا أحسسنا بنوع من التآكل الأخلاقي نتيجة إحساسنا بقصور قوتنا عن حماية سلامنا وأمننا، إن كثيرين كانوا يعايروننا بشارع الهرم والترخّص الذي تفشى فيه بعد سنة 1967، ناسين أن ذلك كان الوجه الآخر للهزيمة... ولولا جهد خرافي في إعادة بناء القوات المسلحة، لسارت الأمة كلها على منطق ما تفشى في شارع الهرم، التصدع.. التآكل.. الانهيار.." وإذا كان لمصر "شارع هرمها" فإن لكل عاصمة عربية من دول الطوق ما شابهه من شوارع، وليس أقلها "شارع الحمراء" – العامر!! – في بيروت، واليوم تزدهر شوارع أحياء رام الله الغربية كالطيرة والحي الدبلوماسي!! 


إن الهجمة "الدنيوية" على مجتمعنا الفلسطيني نراها واقعة تحت تأثير ثلاث مؤثرات أساسية الأولى: مؤثر عالمي له علاقة بموجة الحداثة الجديدة الكاسحة التي تشبه في استحواذيتها "تنّين هوبز" الذي يبتلع ما أمامه. وهذه مسالة لا تعاني منها مجتمعاتنا العربية الإسلامية فقط، بل هي معضلة عالمية تعاني منها مختلف المجتمعات البشرية المعاصرة التي تجد نفسها تدخل في خضّات اجتماعية – سيكولوجية غير مسبوقة. وتجتهد مراكز البحث والدراسات العلمية في الدول المتقدمة إلى معالجات المضاعفات الهائلة المترتبة على ما تغرقنا به التكنولوجيا – على رأي هنري كيسنجر في أحد كتبه الأخيرة – في الوصول إلى كل فرد تقريبًا، لكنها ساهمت في تذريره وعزله عن محيطه. ولعلها حالة تشبه "لا منتمي" كولن ولسون.


أما المؤثر الثاني فهو مفعول أثر الهزائم المتراكمة منذ هزيمة عام 1948 وما تبعها من هزائم منكرة، صاحبها بالضرورة إحباطات وانفلاشات نتيجة الفشل المتراكم وخيبات الأمل المتناسلة التي تُوّجت بسقوط القدس عام 1967 ثم سقوط بيروت عام 1982، وسقوط بغداد عام 2003 (وربما سقوط كابل عام 2001 أيضًا)، ثم الانهيار الذي شهدته أكثر من عاصمة ومدنية عربية بعد اندلاع "الثورات المضادة" في صنعاء، وطرابلس، ودمشق، وجلب، وتعز، والموصل، وبنغازي، وتونس، والخرطوم، وغيرها، وغيرها.

 

في هذا الجو من الفشل والإحباط ولدت أجيال ليس لها هوامش أمل، ولا ترى على الأفق دليل، فينعكس ذلك في سلوكيات "تحلّلية" الحالة في رام الله، بأقلام أجنبية، تعكس جانب من قيم الهزيمة، القيم الرخوة، القيم المنغمسة في الدنيوية، والتي وجدنا واحدًا من "النقاد" المستحدثين يدافع عنها باستماته مخلِّة عندما يبني معلوماته المغلوطة على مجرد تحسّسه المتضخم واشمئزازه المفرط الذي اعتدناه عليه في السنين الأخيرة، من أي مسلكيات جادة، خاصة إذا ما عكست الأخلاقيات الإسلامية الراسخة، فيذهب "خالد الحروب" في تعليقاته على حادثة، ما يشبه "الليالي التنكرية" في مقام "النبي موسى"، قبل عام ونصف تقريبًا، إلى اعتبار المَسّ بالحفلة الخلاعية في ذلك المقام المهيب كأنه مَسّ بالوحدة الوطنية، تقوم به عناصر "سلفية"!! مع أن شهود العيان الذين التقينا بهم وبعضهم كان ممن شارك بنفسه في فضح وكشف تلك الحادثة، ذكروا لنا أن مهاجمي تلك الحفلة كانوا من شباب (ولا نريد أن نقول زعران أو قبضايات) باب العامود، حتى أن بعضهم كان مسيحيًا من حارة النصارى في البلدة القديمة، وهؤلاء ليسوا بسلفيين ولا أصوليين متطرفين، كما ذهب الحروب، المتساوق مع افتراضات تعادي الأخلاقيات الإسلامية بمناسبة وبغير مناسبة، إلى القول في دفاعه المستميت عن منظومة "القيم الرخوة"، ولا ندري إذا ما كان هنالك أيٌ من القوى الوطنية الجادة تؤمن أو تدافع عن القيم الرخوة وإفشائها، فحتى الجبهة الشعبية ذات الخلفية الماركسية، وذات الحيثية الجماهيرية المسيحية، تحاول أن تستعير وتستدعي القيم التراثية والفلكلورية المتماسكة التي تراها أكثر مناسبة لمجتمع يمر في مرحلة تحرر وطني، فمجتمع كهذا أي نوع من القيم تصلح له وتناسبه وأيها لا يصلح له ولا يناسبه؟! يكفي أن نذكر هنا أن أحد حجج شمعون بيريس في مرافعته الشهيرة في الكنيست عن أوسلو، في التسعينيات، قال يكفي أن بعض نساء غزة أصبحن كاشفات الرؤوس يتمشين على شاطئ غزة!! طبعًا سينتفض "الحروب" مدافعًا عن "القيم الليبرالية" ويعتبرها أصلًا قيمًا تحررية، وسيفعل ما فعله نادبو وناقدو تنظيماتهم العلمانية التي يأخذون عليها انشغالها السابق بالقضايا الوطنية على حساب المسالة الاجتماعية، ووجدنا هؤلاء بعد أوسلو لا يغادرون تنظيماتهم وأحزابهم فقط، بل ويغيرون جلدهم وينتقلون من النقيض إلى النقيض. ولست بحاجة هنا على أي حال أن آتي بنقُول واقتباسات وردت لدى قادة "علمانيين" مهمين في الحركة الوطنية الفلسطينية كانت تعتنق الانضباط القيمي وتضع ضوابطها وشروطها للمسلكية الثورية الصحيحة!


أما المؤشر الثالث فهو محلي وداخلي أيضًا، فلدينا سلطة في الضفة الغربية تمجّد "القيم الرخوة" وتحارب "القيم الصلبة أو الجادة" فهي تعمل على ضرب مؤسسة المسجد على اعتبار أنها تهديد "سياسي" لها، على غرار ما فعلته دول عربية سابقة ذات خبرة وتلاحق النشاطات والتعبيرات المقاوماتية التي تتطلب بالعادة مقدارًا من الجدية والصلابة وتضخ في الشارع قيمًا هجينة تنتمي إلى الليبرالية الجديدة اقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا وتعادي غالبًا موروثنا الاجتماعي والوطني والنضالي والفلاحي والديني وتتمرد عليه!


لكن تتميز هذه "الصحوة العلمانية" بانها مجرّد "دنيوية" وتخلو من تأطير أيديولوجي ينظمها خاصة بعد سقوط أيديولوجيات القرن العشرين المادية المدوّي، وتبدو التعبيرات الإلحادية الحالية طائشة ويائسة وخفيفة وتفتقد إلى العمق والجذور، وهي أقرب إلى ردات فعل انفعالية وحالات "مرضية" منها إلى مدارس أو مذاهب فكرية متماسكة. 


وما نتوقعه هو أنه ستتلو هذه الحالة السائلة من الهجوم الدنيوي، صحوة جديدة، لأن الفراغ الروحي لن يطول طويلًا وسيتم استدعاؤه بإلحاح عندما تبلغ الروح أقصى درجات تيبّسها، وستبحث عن خلاصها وراحتها بعد هذا التآكل المستمر والتعب والإرهاق، وهذه سنّة اجتماعية تتعاقب فيها دورات الدين والدنيوية، على الأقل كان جيلنا شاهد على ثلاث دورات منها لغاية الآن.

 

0
التعليقات (0)

خبر عاجل