كتب

الحقيبة المعرفية للدكتور طه جابر العلواني.. قراءة في كتاب

كتاب يشرح الحصيلة المعرفية للمفكر الإسلامي الراحل طه جابر العلواني  (عربي21)
كتاب يشرح الحصيلة المعرفية للمفكر الإسلامي الراحل طه جابر العلواني (عربي21)
الكتاب: جامع فقه الأمة رحيق الحقيبة المعرفية للدكتور طه جابر العلواني
تحرير: الدكتور سيد عمر
دار النشر: دار الكلمة
الطبعة الأولى
سنة النشر: 2021
عدد الصفحات: 602


مسار فكري طويل خاضه الدكتور طه جابر العلواني، قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى، عرف فيه جملة من التحولات، قبل أن ينضج نسقه الفكري في المراحل الأخيرة من عمره، لكنه مع الزخم المتنوع الذي أنتجه طوال فترات عمره، بدءا من انشغاله بأزمة الخلاف الفكري والفقهي بين مكونات الأمة، والحاجة إلى التأصيل لأدب الاختلاف، وانتهاء بتفسيره للقرآن، وتمحور مشروعه حول حاكمية القرآن، وهيمنة مقاصده وقيمه العليا، كان يسير في الجوهر في نفس المنحى، تخدم البواكير الأولى بتآليفه ما انتهى إليه من قناعات ومفاهيم، إذ خاض غمار البحث في إصلاح الفكر الإسلامي، وإصلاح آلته المنهجية، وساهم في تقديم مراجعات عدة في منهج التعامل مع المصادر الشرعية، قرآنا وسنة، ومع التراث الفقهي، وانتهى به نظره، في آخر حياته، إلى تأصيل المفاهيم المفتاحية، التي دعا مثقفي الأمة إلى الاهتمام بها، وتأصيلها، وجعلها أدوات منهجية لفهم القرآن ومقاصده الكلية الجامعة.

والحقيقة، أن تراث الدكتور طه جابر العلواني، يحتاج أن يقرأ في مساره، وتدرس تحولاته، وتبحث المنهجية البحثية التي كان يلتزمها، قبل استقراء ما انتهى إليه من قناعات ومفاهيم.

كما تحتاج دراسة هذا التراث أن يقع بحث جدل التأثر والتأثير بين فكر الرجل وفكر المؤسسة (المعهد العالمي للفكر الإسلامي)، وشكل تدبير العلاقة بينهما، وجدل التبني والتحفظ، والمسارات التي أخذها فكر الرجل، بعد أن تخفف من إكراه المسؤولية داخل المؤسسة.

يكتسي هذا الكتاب أهمية خاصة، كونه أولا يندرج ضمن جهد مؤسسي، لبحث ودراسة جهود أربعة رواد من مؤسسي المعهد العالمي للفكر الإسلامي (طه جابر العلواني، إسماعيل الفاروقي، عبد الحميد أبو سليمان، والدكتورة منى أبو الفضل)، وكونه ثانيا، لا يركز فقط على المشروع الفكري للدكتور طه جابر العلواني، وإنما يضع كل ثقله على الحصيلة المعرفية التي خلفها، وعلى المفاهيم المفتاحية التي أصل لها، واقترحها لتكون آليات مهمة لفهم المنظومة المرجعية الإسلامية، وساء في مصادرها (القرآن والسنة) أو في تراثها الفقهي والأصولي والعقدي. 

ثم تأتي الزاوية الثالثة من الأهمية، كونه صدر عن مركز الدراسات المعرفية بالقاهرة، ذلك المركز الذي كان قريبا من الدكتور طه، يشاركه همه البحثي، ويعرف تفاصيل انشغالاته، بل وحتى أسلوبه في البحث العلمي، هذا إن لم نقل إنه كان خادما له، ومعينا، أو ربما شريكا في تبني مفاهيم كثيرة من مشروعه الفكري. وتبقى الزاوية الرابعة من الأهمية ذات خصوصية، بحكم أن مؤلف الكتاب، يعتبر من أوائل الذين انفتحوا على المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وأسهموا في تأصيل قناعاته، فرغم تخصصه في العلوم السياسية، إلا أنه لم يكن بعيدا عن المجال التداولي الذي رسخته مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، إذ تقاسم الرؤية مع هذه المؤسسة سواء على مستوى تأصيل الرؤية المعرفية الإسلامية، أو على مستوى تصحيح المفاهيم ومراجعتها أو إعادة بنائها، أشرف على إخراج كتاب من جزءين حول بناء المفاهيم الأصلية لعلوم الأمة نشره المعهد العالمي للفكر الإسلامي في جزءين.

النواظم الخمسة لفكر الدكتور طه جابر العلواني

لم يضعه الكتاب ضمن أهداف استقراء عناصر المشروع الفكري للدكتور طه جابر العلواني، وتتبع مسارات تشكله، وإنما اتجه رأسا إلى تجميع حقيبته المعرفية، والإسهام المعرفي والمنهجي، الذي قدمه، وما انتهى إليه، من نواظم معرفية، أو مفاهيم مفتاحية، اجتهد العلواني في تأصيلها، لبناء فقه الأمة، ومساعدة مفكريها على إيجاد منهجية في التعامل مع مصادرها وتراثها المعرفي.

وإذا جاز أن نقوم بعملية توصيف لمنهجية الكتاب، فأقرب وصف لذلك، أن نعتبر الكتاب بمثابة كشف عن نسق العلواني في التفكير (النظم الفكري) والمفاهيم المركزية التي ساعدته على بناء هذا النسق أو هذه المنظومة الفكرية.

يعتبر الكتاب أن مفتاح الحقيبة المعرفية العلوانية، هو كدحه المعرفي المتواصل، وانشغال همه الفكري بهموم أمته، بهدف الحفر المعرفي عن سؤال إشكالي انشغل به العقل الإصلاحي مبكرا، ولم يستطع إلى الآن أن يجد له الجواب العلمي، كيف انتهى المآل بأمة الإسلام إلى الانتقال من حالة "خير أمة أخرجت للناس" إلى وضعية "الوهن" والأمة "التي تتكالب عليها الأمم كما تتكالب الأكلة إلى قصعتها". بحيث حاول العلواني أن يميز في انشغاله المعرفي بين تشخيص المرض وتحديد أسبابه، وبين وصف أعراضه، رافعا شعار تحديد معالم الطريق التي يصفها القرآن لأمته حتى تستعيد عافيتها العمرانية النابعة من القيم القرآنية الكلية الثلاث (التوحيد، التزكية، العمران)، وتستعيد وضعية "خير أمة أخرجت للناس".

وخلافا لكثير من المفكرين والمثقفين الإصلاحيين، فإن العلواني، اتجه رأسا إلى القرآن، للتفاعل والاشتباك مع هذا السؤال، معتبرا أن القرآن، هو الذي يوفر الرؤية الكلية التي تمكن المسلم من الإمساك بخيوط الإجابة عن هذا السؤال، وتحقيق القصد منه، أي الانتقال بالأمة من حالة الوهن إلى حالة اليقظة والشهود الحضاري.

وهكذا قاد الحفر المعرفي في القرآن، بقصد استقراء عناصر الرؤية الكلية إلى بناء نسق معرفي علواني يتأسس على خمسة نواظم أساسية، هي:

أولها، حاكمية القرآن وهمينته على ما سواه، ويمكن أن نحيل في هذا الصدد لكتابه "حاكمية القرآن" ويقصد بذلك توجيه النظر المعرفي إلى القرآن، بوصفه كتابا كونيا معادلا للكون المنظور، وأنه ما دام القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وأن الله لم يفرط في بيان أي شيء فيه، وأنه أمر البشرية بفهمه على قدر استطاعتهم، وأمر منهم برد كل شيء تنازعوا فيه إليه، فإنه، المصدر الوحيد، الذي يتضمن الرؤية الكلية، والمقاصد الجامعة لفقه الأمة، وأن النظر فيه، يمكن من رسم المنهج المعرفي للتعاطي مع مختلف الأسئلة والتحديات التي تعرض للبشرية، وأن ما تمنه القرآن يعتبر حاكما على ما سواه، ومهيمنا عليه، وأنه لا يجوز بأي حال أن تقرأ هذه الحاكمية، نظرة تراثية، تجعل من السنة، بحكم بيانها وتفصيلها وتقييدها ونسخها، حاكمة على القرآن، بل المطلوب هو إعادة النظر في العلاقة التي تربط القرآن بما سواه من مصادر المعرفة الشرعية، بالشكل الذي يستعيد فيه القرآن حاكميته ويصير حكما على ما سواه. لقد أثمر هذا الناظم في فكر العلواني مراجعات عدة، مست بعض العقل الأصولي، إذ تبنى رؤية جريئة في فهم "نسخ القرآن" وعلاقة السنة به، كما أثمرت مراجعات أخرى، مست منهج التعامل مع القرآن وتفسيره، بل مست أيضا منهج التعامل مع السنة النبوية، إذ اختار في كثير من القضايا الإشكالية، مثل قضية الحدود، الوقوف عند الأصول الكلية في القرآن، وقراءة ما ورد في السنة في ضوء هذه الأصول، بما في ذلك إعادة توجيه عدد من الأحاديث التي اٌرت عقوبات جنائية لم يقرأها القرآن، وذلك حتى يصير القرآن حاكما على السنة، لا أن تصير السنة حاكمة عليه.

وثانيها، الوحدة البنائية للنظم القرآني: فالقرآن في تصور العلواني يمثل وحدة بنائية، تتطلب قراءته وفهمه، استحضار القراءة السياقية له، بوصفه بمثابة جملة واحدة، أو كلمة واحدة، لا تقبل فكرة أن يأتي بيان القرآن من خارجه، أو فكرة احتياج القرآن لمصدر آخر، يبينه، وأنه مكتف بنفسه عن غيره، وأن المصادر الأخرى هي التي تحتاج إلى القرآن، لا أن يكون القرآن في حاجة إليها، لأن من كانت صفته الحاكمية والهيمنة، كان هو الحاكم على غيره المهيمن عليه، لا المفتقر إلى مصدر من خارجه، يحكم عليه.

يعيد العلواني بهذا النظام تأسيس العلاقة بين القرآن والسنة، ولا يدخل في مقابلة بينهما، بل يجعل الوحدة البنائية للسنة النبوية تابعة للوحدة البنائية للقرآن، يحققان التكامل.

ثالثها، الجمع بين القـراءتين: وينطلق العلواني من تأمل أمر الله للخلق، وأنه طلب منهم القراءتين معا، أي النظر في القرآن، والنظر في الكون، بما يفيد أن صفة هذه القراءة أنها إنسانية صادرة عن الإنسان، بكل ما تعنيه الإنسانية من النسبية، والابتعاد عن الإطلاق، وأنها ترمز لوحدة البشرية، وما تعنيه من ضرورة استفادة اللاحق منها بما أنجزه السابق، وما خلفه من معرفة وخبرات وتجارب، ومن ضرورة التواصل معه. 

وينبه العلواني في هذا الصدد إلى خطأ القراءات المنفردة وسلبياتها، وأيضا الاقتصار على إحدى القراءتين وإهمال الأخرى، ما تعنيه أيضا من ضرورة تجاوز أخطاء القراء، ويركز على ضرورة استحضار المنهجية القرآنية المعرفية في الجمع بين القراءتين. ويرى العلواني، تبعا لهذا النظام، أن فقه الواقع يشكل الميدان الصحيح لصياغة السؤال المعروض على القرآن، إذ تصير هذه الساحة، مفتوحة للبحث عن كيفية ترقيتها بالهدي القرآني قدر استطاعة البشرية، بحيث ينتج عن إدراك العلاقة بين القرآن وبين السنن التي أودعها الله في الكون، بناء عقلية منهجية محررة من الخوارق، وقائمة على علاقة السبب والسببية دون التنقيب عنها وتحري الوعي به، ومنفتحة على التراكم المعرفي الذي حققته البشرية في مختلف مساراتها.

رابعها، إعادة اكتشاف الرؤية الكونية القرآنية المقاصدية الحاكمة، بحيث تنتج عن هذه الخطوة، مراجعة التراث الإسلامي والتراث الإنساني، بناء على هذه الرؤية وهذه القيم الحاكمة، بحيث حاول العلواني تخريج الأصول الكلية الحاكمة وتأصيلها وحصرها في (التوحيد، التزكية، العمران)، كما حاول تتبع حضورها وأثرها في التجربة الإسلامية ودورها في صناعة الحضارة الإسلامية، وأنه لهذا السبب أصبحت تشكل في منظوره المعرفي معايير لتقييم التراث الإسلامي، والتراث الإنساني بمختلف تعبيراته.

أما الناظم الخامس، فهو أقرب إلى المفاهيم التي تشتبك مع الواقع السياسي، إذ ألح فيه العلواني على ضرورة تحرير العقل المسلم من عطب تضخيم العقل المسلم لمفهوم الدولة وتغييب مفهوم الأمة، وأن القراءة الصحيحة لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، تقول بأن انشغال الرسول كان يدور حول بناء الأمة، وأن الأمة هي التي صنعت دولتها كنسق سياسي، كما خلقت بقية أنساقها المختلفة.

المفاتيح المعرفية العلوانية

يصعب أن نستعرض في هذه المراجعة كافة المفاتيح المعرفية التي اشتغل بها العلواني ودعا إلى تشغيلها، لكن سنكتفي بذكر أهما:

يتربع في صدارة هذه المفاهيم مفهوم الحوار مع القرآن، لينهي به مأساة هجر القرآن داخل الأمة، ويقصد بهذا المفهوم التأسيسي، تدبر القرآن، والتدبر به، والوعي بكلياته ومقاصده الحاكمة، والحوار معه، والحوار به مع أمة الإجابة، ثم يأتي بعد ذلك مفهوم بناء منهاجية قرآنية، للتصديق بها على التراث وتقييمه معايرته، بل ولتقييم التراث الإنساني برمته، لإعادة بناء مفهوم إخراج الأمة ذات الخيرية، والأمة الشاهدة على الأمم، حتى يتم إعادة بناء الخطاب العالمي الإسلامي، الذي يرد الفروع إلى الأصول والجزئيات إلى الأصول الكلية الجامعة.

على أن هذا القصد، لا يتحقق إلا بمفهوم مفتاحي آخر، هو ما اصطلح عليه العلواني، بإعادة بناء منظومة من المفاهيم المفتاحية الكلية النابعة من الوحدة البنائية للقرآن، مثل مفهوم الأمة، ومفهوم الدولة، ومفهوم الدعوة، ومفهوم الحاكمية القرآنية.

وإذا كان قصد إعادة هذه المفاهيم هو مراجعة الفكر السياسية للأمة، فإن تقديم العلواني لنماذج في المراجعة المنهاجية القرآنية، اتجه أساسا إلى مراجعة الفهم التراثي للقرآن، ومراجعة المنهجية الفقهية التراثية، وأيضا مراجعة المنهجية العلمية الغربية المادية.

ويبقى المفهوم المفتاحي المركزي الذي اشتغل عليه العلواني هو رسم معالم استعادة بناء الفرد والأسرة والأمة، وبسط شروط ذلك، بتشخيص الواقع الراهن ومعالجته من منطلق الرؤية الكونية القرآنية الحاكمة، وبالجمع بين القراءتين، ووضع الحجر الأساس لفقه الأمة الجامع، الذي لا يكتفي بتأطير العالم العربي أو حتى العالم الإسلامي، بل يتجه إلى الإنسانية جمعاء في شكل خطاب عالمي، يستعيد خيرية الأمة ووظيفتها في الشهود الحضاري، بما يتطلبه ذلك، من التنبيه على حاجة الجاليات المسلمة في الغرب إلى اجتهاد نابع من واقعها، يتناسج فيـه العلـم الاجتماعـي مـع الفقـه الـشرعي، وصـياغة الأسـئلة الكـبرى لفقـه الأقليات وأصوله، والانتقال من فقه الأولويات إلى فقه المقاصد القرآنية.

العلواني وتجربة إعادة مفهوم عالمية الإسلام

يسلط هذا الكتاب الضوء على ثماني لبنات في فكر العلواني، استند إليها لإعادة بناء مفهوم عالمية الإسلام، تبتدئ أولا، بتفسير القرآن بالقرآن، واستخلاص مفاتيح قرآنية منه، وتعرج ثانيا على إعادة بناء السيرة انطلاقا من حاكمية القرآن، السيرة النبوية، مع التركيز ثالثا على الحفر المعرفي في المفـاهيم المفتاحيـة، مثـل: التوحيـد، الحريـة التوحيديـة، والوحدة الإنسانية، وإصلاح الفكر الإسلامي، والتنبيه رابعا على الحاجة إلى ربط الجزء بالكل الإسلامي، وإعادة بنــاء الرابطــة بــين القــرآن والــسنة النبويــة، واعتبار ذلك مدخلا للوحــدة البنائية الجامعة (خامسا)، ورسم معالم الانتقــال بمنــاهج التغيــير مــن أدب الاخــتلاف إلى نبــذ الاختلاف، ومن التعليل إلى المقاصد القرآنية العليا الحاكمة (سادسا) ثم السعي إلى تعميم وعي الأمة بفقه النص والواقع، برسم معالم خطاب إسلامي عالمي منهجـي، يـتم تعميمـه في صـفوف الأمـة عـبر دورات تدريبيـة لطلبـة الدراسات العليا، وللأئمة، ولجمهور الأمة عـبر وسـائط التواصـل الاجتماعـي، وفي خطاب أمة الإجابة لأمة الدعوة في كل ربوع المعمورة (سابعا) ثم بناء إنسان التزكية (ثامنا).

وعلى العموم، فقد بذل الكتاب جهدا تصنيفيا واستقرائيا مهما لفكر العلواني وساعد في كشف النسق الفكري الذي ينتظمه، من خلال التركيز على النواظم والمفاهيم المفتاحية، لكن الأهم من ذلك كله، أنه التزم منهج الإحالة إلى الكتب المركزية التي استفيدت منها حيثيات ومفردات هذه الحقيبة المعرفية، وذلك يوفر للباحث خارطة معنية على قراءة مشروع العلواني وتتبعه لفهم نسقه ورصد تحولاته.

التعليقات (1)
نسيت إسمي
الجمعة، 27-05-2022 04:56 م
'' المنقذ من الضلال " لحجة الاسلام أبي حامد الغزالي 450 ـ 505 ه '' و المفصحُ ِبالأحوال لا تقف أزمة الغزالي في “المنقذ” عند النطاق الروحي والنوايا الأخلاقية، بل تنتقل إلى أسس الفكر ذاته، فتغدو المسألة أكثر من معضلةٍ شخصيّة وأزمة روحيّة، متحوّلةً إلى هجمة شكٍّ يمكنها أن تهزّ أفكار أرسخ العلماء، فتدفعه لفحص أسس معرفته وعقائده. هذا ما يذكره الغزالي الذي وصل للشكّ بكلّ شيء، فشكّ في الوجود الخارجي من حوله، وفي صحة الوسائل المستخدمة في العلوم الدينية والفكرية "سابقًا بذلك رينيه ديكارت في الشك بعدة قرون" ليصل بعدَ حوارات مطوّلة مع الذات إلى تأكيد أن العالِم ينطلق بالشك إلى المعرفة اليقينية على ضوء أدلّة العقل والإلهام الإلهي. لعلّ أجمل ما في حوارات الغزالي صراحتُه، فهو لا يتوقف عند إلقاء الشبهات أمام الأديان الأخرى، بل يواجه نفسه بالشبهات ليبحث عن الحق، فعلى سبيل المثال حين يرى أن تديّن المجتمعات مغروس في أنفس الأطفال بفعل الآباء والأمهات، فإنه لم يتوقف هنا عند ضرب المثل باليهود والنصارى، وإنما ذكر إلى جانبهم المسلمين، لكنه يدعم هذا الاشتباه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه) [أخرجه البخاري] ومن هنا يرى أن التحرك لطلب الحقيقة مغروس في الفطرة الأصلية، وأن حقيقة العقائد العارضة آتٍ عن التقليد سواء للآباء أو المعلّمين وأن الحق يكون في البحث عن اليقين بالدليل. يتجه الغزالي لعلاج الشكّ من خلال البحث عن حقائق الأمور، فـ “العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنُه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنًا لليقين مقارنة لو تحدّى بإظهار بطلانه مثلاً من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً، لم يورث ذلك شكًّا وإنكارًا”. هنا يندفع الغزالي لتفتيش علومه، فكل ما خالف القاعدة السابقة يستبعده واحدًا تلو الآخر حتى يصل إلى نقض معارف الحواسّ وصولاً لبعض أفكار العقل الذي قد يخيّل للإنسان ما ليس بحقيقة كأنه حقيقة كرؤى الأحلام. استمرت رحلة الشك شهران، إلا أن الغزالي وصل إلى اليقين الذاتي بدءًا من نفسه ثم وجود خالق له بفضلِ “نور قذفه الله تعالى في الصدر” صفوة القول، إن المنهج الشكي عند الغزالي يرتكز على محورين اثنين في تحقيق اليقين، أولهما، الإلهام الإلهي الذي يخصّ الله به عباده المتقين، وثانيهما: العلمُ اليقيني المبنيّ على الدليل، وهذه القاعدة أي الثانية كانت منهج الغزالي في تعلّم العلم، فهو القائل: “علمت يقيناً: أنّه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقفُ على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمَهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيدَ عليه، ويجاوز درجته فيطّلع على ما لم يطّلع عليه صاحب العلم، من غوره وغائله، وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدّعيه من فساده حقًّا”. رحم الله الغزاليّ وعلماء المسلمين، ونفعنا بهم أجمعين.