آراء ثقافية

الفُرجة على الجزائر بعيون فرنسا: سنوات الاستقلال (2)

فرنسا تحارب الجزائر في أفلامها الوثائقية عن الحرب- الأناضول
فرنسا تحارب الجزائر في أفلامها الوثائقية عن الحرب- الأناضول

لم يكن بإمكان الاحتلال الفرنسي أن يتجاهل وجود الجزائريين أكثر من ذلك، بينما كان الوعي الثوري في المستعمرات يزداد ودعم حركات التحرر يزداد، لذلك كان للسينما دور جديد عليها أن تلعبه في عكس حقيقة الصراع المسلح الدائر على الأرض في الجزائر. 


الجندي الرسولي


ظهرت شخصية الجندي الفرنسي كمركز للأحداث في أفلام كثيراً في منتصف الثلاثينيات، كفيلم الراية لجوليان دوفيفي وكانت هناك أفلام تمجد العمل العسكري الفرنسي في فيلم الرقيب سنة 1932 للمخرج فلاديمير ستربزوفسكي والذي صور بمنطقة سيد بلعباس مركز جيش الجوقة، وهناك أيضاً فيلم جوقة الشرف لموريس فليز سنة 1938م، كانت تلك الأفلام تصور الجندي كجندي منفي من أمان وطنه الأصلي، ووصل إلى حالته البطولية من خلال حياته في المستعمرات، وكانت تقدم القصة كملحة تراجيدية إغريقية، حيث يموت الجندي من أجل القيم الوطنية والمثالية، وأيضاً بتحقيق كيانه من تحوله كرجل عادي في بلاده الأصلية، إلى بطل بطلاً متفوقاً مادياً ومعنوياً ومجدداً روحه وحياته الاجتماعية.

في تلك الأفلام مثل الجزائريين تهديداً كأشخاص غير مرئيين على مستوى الأيديولوجية، وكانوا بمثابة الفزاعة للجندي التي تساعده على ارتقاءه الروحي، ومكافحته تهديد قلقة الوجودي، وكرست السينما الفرنسية التجاهل والتحقير على النسق الهوليودي في علاقة العسكري بالجزائري، مثل علاقة الرجل الأبيض بالهندي في الغرب الأمريكي، ومثل تلك الأفلام فيلم الرقيب إكس، وواحد من الجوقة، ويصور فيها الأهالي على أساس أنهم قطاع طرق ومخادعون متعطشون للدماء، كما أن السادية جزء من تكوين شخصيتهم البدائية.

ما بعد الحرب


مع نهاية الحرب العالمية الثانية، تغير وضع مسلمي شمال أفريقيا الذي شاركوا في الحرب جنباً إلى جنب الجنود الفرنسيين، فصاروا يطالبون بحقوقهم في المساواة مع المستوطنين الأوروبيين في الجزائر، وصار الوطنيين الجزائريين يطالبون بالحكم الذاتي لبلادهم، وبالتالي سقط كل هذا على فرنسا التي خرجت لتوها من الحرب، وتتمنى العودة لجغرافيتها الكبيرة قبل 1939م، وعليه كان يتوجب إعادة النظام مرة أخرى في شمال أفريقيا. 

سعت الدعاية لاستعادة سلطة الجمهورية المنهكة وذلك عن طريق تقديم صورة لائقة عن الجنود المسلمين تسمح بمواجهة الانطباع السلبي الذي خلفته الهزيمة الفرنسية في أذهان سكان الجزائر، ومن جهة أخرى بدأت في انتاج افلام باللغة العربية لكبح المد القومي القادم من مصر والمشرق العربي، ولكن لم تعترض هذه المهام الدعائية سبيل الدولة في كبت المتمردين. 

في كتاب "السينما وحرب الجزائر: دعاية على الشاشة" يرى الكاتب سيباستيان دوني أنه بعد تاريخ الأول من نوفمبر 1954م، أخذت السينما العسكرية الفرنسية تركز اهتمامها على الجزائر ولعبت السينما العسكرية دوراً مروجا لأيديولوجية الدولة حول الأحداث وتفادي أي صورة غير مرغوب فيها، لذلك فضلت الدولة إسناد عملية توثيق الحرب بالصور للمصلحة السينماتوغرافية للجيش تاركة لها دور مراقبة الصور. 

تلك الحرب التي اتسمت بالقمع منذ لحظتها الأولى، لعبت نفس الدور النفسي الهام الذي لعبته في حرب الهند الصينية ضد فرنسا في فيتنام، وروجت للجزائريين على أساس أن الحرب ضدهم مكافحة للمد الشيوعي.

اليسار الفرنسي.. عدو جديد


بينما اتخذت السينما الفرنسية اتجاه التغييب وكأن لا شيء يحدث في الجزائر، ظهر اليسار الفرنسي على المستوى الثقافي والأدبي في الصحافة والإذاعة والتليفزيون والسينما كعدو جديد للاستعمار الفرنسي للجزائر، وهنا يكون جزءًا من تاريخ اليسار الفرنسي السينمائي امتداداً للتاريخ الفرجة على الجزائر بعيون فرنسية، حيث إن ذلك اليسار قد عانى كثيراً جراء ذلك الموقف الذي اتخذه. 

لم يكن الوضع السياسي في الجزائر منذ عام 1954 مناسباً للاستغلال السينمائي، وقد بدأ التراجع الحقيقي لعشاق السينما في عام 1956 إلى 22 مليون متفرج، بعدما كانوا يشكلون 27 مليون متفرج في العام الذي قبله، من الجزائريين. ولكن كانت سنة 1958 سنة استثنائية للجزائر في الحضور السينمائي حيث مثلت نسبة 8% من حجم أعمال السوق الفرنسية ما دفع الدولة الفرنسية باعطاء أهمية كبيرة لقطاع السينما نظراً لتأثيرها الكبير، فقامت السلطات الفرنسية بفرض رقابة صارمة على الأفلام التي كانت تعرض في دور العرض السينمائي، وشكلت لجنة متخصصة للقيام بهذه المهمة، وكانت هذه اللجنة لها الصلاحيات في منع الأفلام أو حذف أي لقطات تشير إلى الأحداث الجارية بالجزائر، أي أن السينما الفرنسية في الجزائر قد تعسكرت. 

لقد تولت عسكرة السينما مسؤولية نقل الصورة في الجزائر وضيقت الخناق على الأفلام ذات الإنتاج المدني المستقل سواء داخل الجزائر أو في فرنسا، وهنا لعبت الصحافة الفرنسية ذات التوجه اليساري دوراً ريادياً في نقل حقيقة ما يجري في الجزائر من انتهاكات، ومناهضة الحرب، وكانت المجلات السينمائية أحد المجالات التي لعبت دوراً في ذلك وإن كان ذلك الدور قد تأخر حتى سنة 1960م، بسبب الرقابة والاجراءات التي اتخذتها السلطات الفرنسية للحيلولة دون استغلال قطاع السينما من أجل الدعاية ضد الانتهاكات التي كانت تحدث في الجزائر.

لعب المخرجون اليساريون في فرنسا دوراً يجب أن يُذكر خاصةً الاسم الأشهر جان لوك غودار الذي اعتبر رائداً في علاقته السينمائية بهذه الحرب من خلال فيلم الجندي الصغير عام 1963، وكان وراءه العديد من المخرجين الذين تناولوا قضية حرب الجزائر من خلال عرض قضايا تمرد المجندين الفرنسيين أو السياسة القذرة للحكومة الفرنسية في الجزائر، ونبذ الحرب، رغم أنهم كانوا على علم بمنع عرضها في دور السينما نظراً للرقابة الصارمة، وقد منعت ثلاثة أفلام من العرض سواء في فرنسا أو في الجزائر وأدرجت في خانة الممنوعات بسبب تأثيرها على الوضع في الجزائر وتحريضها على العصيان، وكانت تلك الأفلام الثلاثة هي: الصديق الحميم للمخرج لويس داكين، مسارات المجد للمخرج ستانلي كيوبريك، لا تقتل من إخراج كلود لارا عام 1961م.

ويصنف بعض المؤرخون الفيلم التوثيقي القصير للمخرجة الفرنسية سيسيل ديكوغيس 1956م بعنوان "اللاجئون" كواحد من أول الأفلام الفرنسية السباقة لدعم الثورة الجزائرية، ويعد المخرج رينيه فوتييه من الذي عانوا بسبب دعمهم للثورة الجزائرية بعد اعتقاله عام 1958م وحكم عليه بالسجن عشر سنوات، ويلقب هذا المخرج باسم صديق الجزائر وقد أنتج فيلمه الروائي "عشرون عاماً في الأوراس" عام 1970 لتتويج تلك الصداقة، وهو الفيلم الذي عانى كثيراً مع الرقابة. 

بعد أن تحدثت الجزائر 


حين حصلت الجزائر على الاستقلال، ولدت سينماها من مخاض قومي كفاحي كبير، وأصبح للجزائر أن تتحدث عن نفسها بمساعدة عدد من أبنائها الموهوبين، أو عدد من المخرجين العضويين من أمثال كوستا جافراس في فيلمه Z الذي أخرجه عام 1969م أو المخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو في فيلمه معركة الجزائر 1966م. 

السينما الفرنسية بعد الاستقلال وفي ما يتعلق بموضوع الحرب والجزائريين، لا يمكن أن تحصي لها تيارا محددا واضحا، فما بين اليسار الفرنسي واليمين الفرنسي تختلف الرؤية لأحداث الماضي كثيراً، وأحياناً يظهر المهاجر الجزائري كنظيره الأفريقي طفيلياً على المجتمع الفرنسي، وأحياناً يظهر كعضو مؤثر ومندمج في المجتمع، إلا أن الصوت الجزائري السينمائي كثيراً ما يلاقي رفضاً داخل الأوساط الفرنسية. 

فعندما حاز فيلم "وقائع سنوات الجمر" للمخرج لخضر حامينا على جائزة كان عام 1975م تعرض الرئيس الفرنسي جيسكار ديتسان إلى هجوم كبير من اليمين واتهم بأنه وجه الجائزة لتطبيع العلاقات مع الجزائر، وغيره من الجدل الذي تتعرض له داخل فرنسا كأفلام المخرج رشيد بوشارب.

يرى الباحث الجزائري جمال يحياوي أن فرنسا تحارب الجزائر في أفلامها الوثائقية عن الحرب، حرب مصطلحات، فقد رأى أن الأفلام الفرنسية تتحاشى استخدام العبارات والأوصاف التي تصب في صالح الثورة، أو تتعرض لمساوئ الاستعمار، فلم تستعمل قط كلمة ثورة أو حرب، واستعاضت عنها بكلمة أحداث الجزائر حتى العام 1990م، وأن واحداً في المئة فقط من الأفلام الفرنسية هو ما يصور حقيقة ما حدث بالجزائر.

بعد الإفراج عن الأرشيف السري الخاص بحرب الجزائر، تستعد فرنسا لتقديم سلسلة وثائقية تحت عنوان: "حروب من أجل الجزائر" ستطلق عام 2022م بمناسبة الذكرى الستين لتوقيع اتفاقيات إيفيان، ويرى أحمد بجاوي أن تلك السلسلة ستتماشى مع المصالح الاستراتيجية والاقتصادية لفرنسا في المنطقة، وهو ما سيكرس فكرة "الجزائر أرض فرنسية"، لتنعكس الآية، ويصبح في حالة فرنسا والجزائر، أن التاريخ يكتبه المهزومون.

 

اقرأ أيضا: الفُرجة على الجزائر بعيون فرنسا: سنوات السيادة (1)

التعليقات (1)
نسيت إسمي
الإثنين، 28-02-2022 10:08 ص
1 ـ (الجزائر تنقش اسمها بأحرف من ذهب على تمثال الأوسكار) يوم نالت الجزائر جائزة الأوسكار في السينما في سنة 1970، أعلن الممثل الامريكي الشّهير كلينت ايستوود، الذي نشط حفل توزيع جوائز الأوسكار الأمريكية، رفقة الممثلة الايطالية الشهيرة كلوديا كاردينال، عن فوز الجزائر بجائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي عن فيلم «زاد» الذي دخل المسابقة باسم الجزائر، وهو انجاز فنّي غير مسبوق في تاريخ السينما الجزائرية والعربية. وهكذا صعد أحمد راشدي لمنصة التتويج، بصفته مسؤولا عن قسم الإنتاج في المؤسسة القومية لتجارة وصناعة السينما الجزائرية، منتجة الفيلم، لاستلام واحدة من أكبر الجوائز السينمائية العالمية باسم الجزائر، في عزّ ازدهار السينما الجزائرية قبل أن تتراجع بشكل ملفت. لكن كيف تناولت الصحافة الفرنسية خبر فوز الجزائر؟ طبعا لم يكن الأمر سهلا بالنسبة لهم، والإعلام الفرنسي حاول تجاهل الجزائر، وظل يروج للفيلم على أنه فرنسي وأن الأوسكار لفرنسا، ولكن الحقيقة أن الأوسكار جزائرية و نقش عليها اسم الجزائر فقط، لا يوجد أي إشارة لفرنسا في الأوسكار، لم يتم ذكرها إطلاقا، كما أن فرنسا لا تملك أوسكار "زاد" عن أحسن فيلم أجنبي بل حازت على الأوسكار الثانية الخاصة بالمونتاج، حيث أن الفيلم فاز بـجائزتي أوسكار في عام 1970، المخرج كوستا غافراس نفسه لا يملك أوسكار عن فيلم "زاد"، لا يمكن إهداء الجائزة ولا يمكن بيعها ولا يمكن تقديمها لشخص آخر، فهي ممنوحة للجزائر وهذا وفق عقد اتفاق بين الفائز والأكاديمية التي تشترط ذلك وتقول :" في حالة ما أراد الفائز التخلص من الأوسكار عليه إرجاعها إلى الأكاديمية مقابل 10 آلاف دولار، ومن حق الأكاديمية فقط التصرف به كما تشاء فيما بعد". 2 ـ (فيلم "هيليوبوليس" لجعفر قاسم للتنافس على أوسكار أحسن فيلم دولي) ويدور هذا الفيلم السياسي ألمقتبس عن أحداث واقعيةء حول شخصية "زيناتي"، أحد ملاك الأراضي ببلدة "هيليوبوليس" بولاية قالمة (شرق الجزائر) وإبن "قايد"، الذي تأثر بالأفكار الإدماجية ، غير أن إبن "زيناتي"، الطالب الشاب، يتبنى المطالب المنادية باستقلال الجزائر. الفيلم الذي يتخذ من تاريخ 1940 بداية لأحداثه يرصد أيضا الأسباب التي أدت لمجازر 8 ماي 1945 التي ارتكب فيها المعمرون فضائع رهيبة بحق الجزائريين، وهو إدانة صريحة للإبادات التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر. ويعتبر هذا العمل الفيلم الروائي الطويل الأول لقاسم، وشارك في أداء هذا العمل ممثلون جزائريون كعزيز بوكروني ومهدي رمضاني وفضيل عسول بالإضافة إلى ممثلين فرنسيين. واشتهر قاسم وهو أيضا سيناريست ومنتج بإخراج العديد من السيتكومات والمسلسلات الناجحة على غرار "ناس ملاح سيتي" (2001) و"جمعي فاميلي" (2008) و"سلطان عاشور العاشر" (2015). 3 ـ (بدون سلاح بدون عنف بدون حقد) فى صباح يوم 19 يوليو فى عام 1976، تعرضت فرنسا لأشهر حادث سرقة فى التاريخ على طريقة "سلاحف الننيجا" حيث أطلق عليها البعض "سرقة القرن"، لما تمثلة من حجم المسروقات وقتها التى بلغت 100 مليون فرنك. بدأ العمل فى بنك "سوستيه" فى مدينة نيس الفرنسية، يومه العادى وذهب موظف المصرف للخزينة لإخراج المال، ولكنه وجد الباب مغلقا ولا يفتح حتى استعان بمندوب الشركة المصممة للباب الحديدى الذى يبلغ وزنه 20 طنا لفتحه ،ولكن دون جدوى مما اضطر إدارة البنك أن تقرر اختراق الجدار الجانبى ، وكانت المفاجأة أن البنك العريق، تعرض للسرقة وتركت العصابة رسالة على الجدران مكتوب عليها " بدون أسلحة وبدون عنف وبدون كراهية " وصلت الشرطة الفرنسية الى البنك، وتم العثور المعدات التى استخدمتها العصابة ،عبارة 27 اسطوانة غاز وأسلاك كهربائية وأدوات أخرى استعانوا بها فى عملية السرقة، حيث شكل الأمن الفرنسى فريق بحث للتوصل الى الجناة، واستجوبوا كل العاملين فى البنك ومستأجرى صناديق الأمانات. كانت من أذكى سرقات العالم سرقة بنك في فرنسا بدون سلاح بسبب الرسم الإيطالى ""البير سباجياري" العقل المدبر للحادث لدخول للبنك عن طريق مواسير الصرف الصحي ، حيث بدأ بالبحث عن خط المجارى المؤدى للبنك وكان يقاوم الرائحة الكريهة بتدخين السيجار . توجة الإيطالى ""البير سباجياري" الى مبنى البلدية بمدينة نيس وأدعى انه مقاول للحصول على خريطة لشبكة الصرف الصحى وبهذة الوسيلة عثر على فرع المجرى المؤدى للبنك ووجد ان عليه أن يحفر نفق طوله 30 قدم . سافر" ألبير" الى مدينة مارسليا ، واجتمع مع أفراد عصابته للبدء فى تنفيذ الخطة ،على أن يتقاسموا المسروقات فيما بينهم . وقسم "البير " العقل المدبر أفراد عصابته، ما بين أعمال الحفر والمراقبة التى استمرت 3 أشهر حتى وصلوا الى باب خزينة البنك، وحطموا صناديق الأمانات ،وعثروا على ما يتخطى خيالهم اموال ومجوهرات وشهادات استثمار ،ثم توقفوا لتناول العشاء والاحتفال بنجاحهم فى تنفيذ خطتهم، وقبل رحيلهم قرر "ألبير سباجياري" أن يترك رسالة وكتب "" بدون أسلحة وبدون عنف وبدون كراهية ".