كتب

كيف أسهمت الليبرالية في تثبيت الرأسمالية؟ كتاب يجيب

كتاب عن علاقة الاقتصاد والسياسة والمجتمع وشروط تشكلها- (عربي21)
كتاب عن علاقة الاقتصاد والسياسة والمجتمع وشروط تشكلها- (عربي21)

الكتاب: "المجتمع والاقتصاد: إطار ومبادئ"
المؤلف: مارك س. غرانوفيتر
ترجمة: ابتهال الخطيب مراجعة: عبد النور خراقي

الناشر: سلسلة "عالم المعرفة" (487)، تشرين الأول/ أكتوبر 2021.

الاقتصاد ليس مجرد أرقام صماء؛ إنه حياتي، وحياتك، ولقمة عيشي، وعيشك؛ إنه مجموعة محددة، تاريخيًا من العلاقات الإنتاجية - الاجتماعية، أو هو نظام المجتمع الاقتصادي، الذي يلائم كل مرحلة من "مراحل تطور القوى المنتجة". وتعتبر علاقات ملكية أدوات الإنتاج ووسائله، العنصر المحدِّد في الاقتصاد. فالملكية الخاصة الرأسمالية، تعتبر أساس اقتصاد المجتمع البرجوازي. أما الملكية الاجتماعية، فهي أساس اقتصاد الاشتراكية. 

وإلى جانب علاقات ملكية أدوات الإنتاج، ووسائله، يشمل النظام الاقتصادي الأمور المرتبطة بطابع الملكية، وهو موقع الناس في عملية الإنتاج، وعلاقتهم فيها، وتبادلهم فعالياتهم، وعلاقات التوزيع. ويُقصد بالاقتصاد، أيضًا مجموع فروع الاقتصاد الوطني، وكذلك العلوم الاقتصادية التي تعالج هذه الفروع، وتدرسها. 

بينما الاقتصاد السياسي: هو علم قوانين الإنتاج الاجتماعي، وتوزيع الخيرات المادية، في مختلف مراحل تطور المجتمع الإنساني، ظهر في مرحلة نظام الرق كعلم تطبيقي. وفي هذه المرحلة، أيضًا، يظهر الطابع الطبقي للاقتصاد السياسي، الذي تستخدمه الطبقات المسيطرة، لتبرير حق مالك الرقيق، بنتاج عملهم.

وكشف الاقتصاد السياسي عن العلاقات بين الناس، وبين الطبقات الاجتماعية، عن العلاقات الإنتاجية الاقتصادية أن تُبرز العلاقات الإنتاجية كعلاقات أساسية حاسمة بين جميع العلاقات الاجتماعية، ويوضح الاقتصادي السياسي قوانين تبدلها. ويكشف عن القانونيات الموضوعية لتعاقب أساليب الإنتاج الاجتماعية ـ الاقتصادية، والقوانين الموضوعية لتطور المجتمع، من الدرجات الدنيا إلى الدرجة العليا، وأسباب تبدل أسلوب إنتاج بأسلوب آخر .

أما الاقتصاد السياسي البرجوازي الكلاسيكي، فقد أسس البحث العلمي لأسلوب الإنتاج الرأسمالي، وظهرت مدرسته في إنجلترا، وفرنسا، في القرن السابع عشر، مع بدء بناء أسلوب الإنتاج الرأسمالي. لقد دافع ممثلو المدرسة الكلاسيكية عن مصالح البرجوازية التقدمية، في نضالهم، آنذاك، ضد النظام الإقطاعي، ورفع أولئك الممثلين شعار "الحرية الاقتصادية"، ووقفوا إلى جانب الحد من تدخل الدولة الإقطاعية في الحياة الاقتصادية، فناهضوا امتيازات الاحتكارات التجارية، وكبار ملاك الأراضي، وبقايا نظام الأصناف الموروثة عن القرون الوسطى، والحدود الأخرى المفروضة على المزاحمة الحرة، ودلَّلوا في  سبيل هذا الهدف، على أن الحياة الاقتصادية تسودها قوانين "طبيعية" أبدية، يعرقل فعلها تدخل الدولة. 

لقد سمحت الليبرالية في المجتمعات الرأسمالية بكشف عيوب الرأسمالية، أولا بأول، ما أمكن معه للرأسمالية أن تُجدد نفسها، وتمد في عمرها، وقد ظهرت في "المعسكر الاشتراكي"، عشرات الكتب، التي فضحت عيوب الرأسمالية، وألقت الضوء على أزمتها، بينما أغمض هؤلاء العلماء عيونهم، وأغلقوا أفواههم، تمامًا عن أزمات الاقتصاد الاشتراكي، ولم يصحُ أولئك العلماء، إلا بعد سقوط "المعسكر الاشتراكي" (1989)، وانفراط عقد الاتحاد السوفييتي (1991). وإن سارع النظام الاشتراكي في الصين إلى إدخال إصلاحات رأسمالية على اقتصاده. ويا عالِم، هل يتم تجديد الاشتراكية هناك أم تلتهم الرأسمالية الاشتراكية؟!

***

يُعني هذا الكتاب، بأمر ارتباط الاقتصاد بالمجتمع، ومداه، وقد ركز على الشأن الاقتصادي في المجتمع الرأسمالي، تحديدًا.

عن مشكلات التفسير في علم الاجتماع الاقتصادي، جاء الفصل الأول، الذي أكد على "أن النماذج المبنية على المصالح الشخصية، والحسابات الواضحة، أو الضمنية، لا تزال تحظى بالأولوية على تلك التي تستدعي عوامل اجتماعية، أكثر تعقيدًا وغير طيِّعة للنماذج البسيطة والأنيقة؛ وذلك عبر حجج حول الفعل الاقتصادي، والمؤسسات الاقتصادية، التي تُشدِّد على الاعتبارات الاجتماعية، والثقافية، والتاريخية، بالاضافة إلى الاعتبارات الاقتصادية الخالصة، بينما عالجت الفصول اللاحقة العناصر النظرية المهمة لحجة المؤلف. (ص 9- 10).

لقد أكد ماكس فيبر أن الفعل الاقتصادي، يقوم لتلبية حاجة، وفقا لحكم الفاعل على بعض الموارد النادرة، نسبيًا؛ ما يتماشى مع تعريف الاقتصادي ليونيل روبنز.

 

أكد المؤلف بأن الثقة، والسلوك الجديرين بالثقة، هما مدخرات غاية في الأهمية، لأي اقتصاد؛ لأنهما يقودان الناس إلى التعاون، ملقيًا الضوء على تصاعد الثقة، المؤسسة على العلاقات الشخصية، إلى تلك المبنية على أساس العضوية في المجموعات، أو الشركات. فضلا عن تجميع الثقة من العلاقات الشخصية بين الأفراد، على مستويات أكثر شمولية.

 



في الفصل الثاني، كشف المؤلف عن أن المخرجات الاقتصادية، المتمثلة في صنع أسعار مستقرة لسلعة ما، أو في التفاوتات في الرواتب، بعد طبقات معيَّنة من الفاعلين، وعليه تكون هذه المخرجات أنماطًا منتظمة للفعل الفردي". وأكد الفصل نفسه على أن تفسير اختيار بديل قد يُبين أن الناس يلتزمون بالمعايير، إذا كانت فوائد هذا الالتزام أكثر من تكاليفه. وتشير الفصول الثالث والرابع والخامس إلى أهمية المبادئ الذهنية، مثل المعايير، وأهمية الثقة، والسلطة، على التوالي ماضية إلى الاقتصاد.

أشار الفصل الثالث إلى المؤسسات "الاقتصادية" التي تختلف عن "المخرجات": أولا في احتوائها على تعقيدات أكبر من الفعل، وثانيا في إداراك الأفراد الطريقة التي يجب أن تُنجز بها الأمور. 

بدءًا من الفصل الثاني، وحتى الفصل الأخير، تم الاهتمام بالمستوى الجزئي للأفراد، لتتطور إلى مواضيع المستوى المتوسط، وتنتهي بمزيد من الاهتمامات، على المستويين: الشمولي، أو المؤسسي؛ عبر عناوين: الطبيعة "البشرية"، الفرضيات الصفرية، ومستويات التحليل، إلى الطبقية والتاريخ، فضلا عن المفاهيم المهوِّنة من اجتماعية الفعل الإنساني، والمفاهيم المغرقة في اجتماعيتها. ذلك أن الفرضيات الصفرية، والمفاهيم المرتبطة بها بخصوص الطبيعة البشرية، تؤدي إلى أفكار غير مذكورة، ولكنها مهمة، حول طبيعة الفعل الإنساني. وعندما تُقحم هذه المفاهيم، بشكل كبير، يلحقها التشويه.

رأى المؤلف، في فصله الثالث، أن المشكلة القائمة إنما تكمن في أن مصالح الآخرين لا تُغلِّف، حقًا مصالحك إلا في حالة الإنجاز التام البحت، آنيًا؛ وأكد المؤلف بأن الثقة، والسلوك الجديرين بالثقة، هما مدخرات غاية في الأهمية، لأي اقتصاد؛ لأنهما يقودان الناس إلى التعاون، ملقيًا الضوء على تصاعد الثقة، المؤسسة على العلاقات الشخصية، إلى تلك المبنية على أساس العضوية في المجموعات، أو الشركات. فضلا عن تجميع الثقة من العلاقات الشخصية بين الأفراد، على مستويات أكثر شمولية. قبل أن ينتقل الفصل للحديث عن الثقة، والمعايير، والسلطة.

تحدث الفصل الرابع عن "السلطة في الاقتصاد"، بادئا بمقدمة عن أنواع السلطة في الاقتصاد بدأ من السلطة الاقتصادية، المبنية على التبعية، إلى الثانية المتمتعة بالشرعية، فالنوع الثالث المبني على التحكم في الأجندة والحوار، فالعلاقات بين أنواع السلطة، ثم السلطة والبناء الاجتماعي، فالسلطة المبنية على الصفات الفردية، إلى موقع السلطة في الشبكة الاجتماعية، ناهيك عن السمسرة، والعمل الحر، ونظام التبادل التجاري، والسمسرة، والسلطة، والنخبة، و"العوالم الصغيرة". وأنهى المؤلف فصله هذا بإبداء وجهات نظر ذات مستوى كلي، حول السلطة الاقتصادية. 

بينما عالج الفصلان، الخامس والسادس، طبيعة المؤسسات، بشكل أكبر؛ إذ حمل الفصل الخامس عنوان "الاقتصاد والمؤسسات الاجتماعية"، وقدم جزءًا من التفسير حول ما يصنع المؤسسة الاقتصادية، تاركًا الجزء الآخر للفصل السادس. وأكد الفصل الخامس بأن النقاشات حول ماهية النطاقات المؤسسية الرئيسة قد اتجهت نحو الاعتماد على أفكار علم النفس الإدراكي، حول المخططات، التي تُقدم إطارًا يستطيع، من خلاله، الشخص فهم الأحداث التي يختبرها. وأخضع المؤلف في فصله هذا ما يلي للقارئ، في هذا الصدد: المؤسسات، والمنطقيات، ومؤسسات المدى المتوسط في الصناعة مع دراسة عن صعود المؤسسات، وهبوطها (الإنتاج "المعياري" وصناعة السيارات).

 

ما السياسة إلا التعبير المكثَّف للاقتصاد، بينما الحرب امتداد للسياسة بأساليب عنيفة. والمهم أن نُلحق القول بالفعل، حتى نفلت من إسار التخلف، والتبعية، والاستبداد.

 



إذا كان الفصل الخامس قدم حججًا عامة، وتوصيفًا للمؤسسات، باعتبارها أنماطًا للأفكار، أو المعايير التي تؤثر، لكنها لا تحدد، بشكل عام، كيفية تعامل الفاعلين مع المشكلات، بينما هم يحتاجون إلى أن يحددوا النمط المناسب الذي يجب أن يستعينوا به، دليلًا توجيهيًا. وللوصول إلى هذا الأمر، عني الفصل السادس والأخير برصد التقاطعات المؤسسية، والخطط البديلة، ونقل المنطقيات، والموارد عبر الحدود المؤسسية، إلى الإطارات المؤسسية المتعددة، باعتبارها موارد للفاعلين البراجماتيين، مع إجراء دراسة حالة تاريخية مقارنة، حول كيفية ظهور البدائل المؤسسية من الاضطراب، والحروب، والثورة، فضلا عن ديناميكيات الثقة، والمعايير، والسلطة في الفعل الاقتصادي، والشبكات، والمؤسسات.

باختصار، هذا الكتاب يؤكد، مجددًا، على الضرورة القصوى، أولا للديمقراطية في حياتنا (حرية التعبير، وحرية التغيير)، وثانياً على ألا يُترك الاقتصاد حكرًا على الاقتصاديين، ما دام مرتبطًا بلقمة عيشنا، بل هو مفتوح لكل مواطن، ومنفتح لكل العلوم الإنسانية الأخرى: الاجتماع، علم النفس، الأنثروبولوجيا، والصناعة. لذا، فإن هذا الكتاب ضروري لكل مواطن، خاصة وأن "الاقتصاد محرِّك التاريخ"، وما السياسة إلا التعبير المكثَّف للاقتصاد، بينما الحرب امتداد للسياسة بأساليب عنيفة. والمهم أن نُلحق القول بالفعل، حتى نفلت من إسار التخلف، والتبعية، والاستبداد.


التعليقات (0)