أفكَار

مفكر تونسي: هذه استراتيجية استئناف دور الإسلام في العالم

أبو يعرب المرزوقي: من الحمق أن يدعي المسلمون أنهم صاروا أقوى من هؤلاء فيزعمون الندية مع أمريكا
أبو يعرب المرزوقي: من الحمق أن يدعي المسلمون أنهم صاروا أقوى من هؤلاء فيزعمون الندية مع أمريكا

لم يستفد المسلمون من فرصة صراع القطبين الذي أنهى الإمبراطوريات الأوروبية التي كانت مسيطرة على العالم في صراعهما لتعويضهما بسبب ما ورثوه من هذه الإمبراطوريات ويقبل الرد إلى مسألتين هما سر وهن المسلمين الحالي:

المسألة الأولى هي علة النكوص إلى ما يدعم تفتيت الجغرافيا الذي أنتجته هذه الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية خلال تقاسمهما دار الإسلام فأصبحت كلها محميات: مسألة القومية والعرقية محاكاة لكذبة بنيت عليها دول أوروبا الحديثة التي تدعيهما لأن أقلية فيها فرضت هويتها على بقية شعوبها. ولعل أبرز مثال فرنسا التي فيها من القوميات عدد كبير لكن الفرنجة فرضوا الفرنسية على الجميع منذ عهد شارل العظيم (شارل مانيو).

المسألة الثانية هي من ثمرات الأولى، وتتمثل في قتل التعدد الثقافي مثل التعدد العرقي، إذ حتى بعد جلاء الاستعمار المباشر ماديا فقد بقي تأثيره الثقافي في أذهان النخب التي كونتها هذه الإمبراطوريات الأوروبية. والمثال الأوضح في ذلك علاقة فرنسا بإفريقيا عامة وبشمالها خاصة. المغرب الكبير تفرنج بعد خروج الاستعمار المباشر بتوسط نوابه الذين جعلوه استعمارا غير مباشر بفرض ثقافته والتبعية المادية والروحية لرؤاه.

وهذه النخب هي التي سعت إلى تأسيس شرعية مشروع تفتيت الجغرافيا على تشتت التاريخ لتفقده وحدته التي جمعت بين التعدد العرقي الثقافي والوحدة الروحية الإسلامية. ويمكن القول إن ما توصلت إليه أوروبا بعد فقدانها لإمبراطورياتها شرطا لحماية سيادتها من تجاوز هذين العائقين -وهو ما يزال مشروعا غير مكتمل- هو الحل الذي كان سائدا في ولايات (سلطنات) الخلافة الإسلامية المتحدة.

وكل المعارك الحالية في بلاد الإسلام علتها سعي عملاء الاستعمار إلى إضفاء الشرعية التاريخية بما قبل تاريخ الإسلام المشترك على ما يتصورونه ما بعده المفترق بسبب الاستعمار لشرعنة تفتيت الجغرافيا وبناء الدولة القومية المزعومة فكان ذلك أصلا لحربين أهليتين:

أولاهما في كل قطر إذ كلها متعددة الاثنيات بحيث إن المحميات لم تستطع التحول إلى دول اثنية بل سيطر عليها صراع القوميات والثقافات والحرب على الوحدة الروحية التي صالحت بينهما.

والثانية بين الأقطار إذ كل محمية صارت تتدخل في الأخرى بدعوى حماية الأقلية التي تدعي تمثيلها فصارت كل المحميات متحدة سلبا بتدخل بعضها في شؤون بعضها بحيث إن الكل يدعي السلطان على الكل ولا يعترف بالحدود.

ولما سقط أحد القطبين تمكن القطب الثاني من تحرير نصف أوروبا الذي كان تابعا له إذ زال حلف وارسو وخلفه الحلف الأطلسي فيها والمعركة بين أمريكا وما بقي من الاتحاد السوفييتي أي روسيا ما تزال جارية وقد تعود من جديد لأن قيادات روسيا يتصورونها قد استعادت قوتها ويعتقدون أن أمريكا ضعفت وأن الصين يمكن أن تكون سندا لهم.

معركة أمريكا الحالية مع روسيا والصين هي مع من يشاركها في الهيمنة على مستعمرات الإمبراطوريات الأوروبية بعد أن خسرت الفرصة الأولى هي بدورها، إذ اعتبرت الإسلام هو العدو بدلا منهما فخسرت ما يقرب من نصف قرن وعليها التدارك. 

وأمريكا فهمت خطأها وبدأت تستدرك على استراتيجيتها العالمية إذ فهمت أمرين:

أولهما أن الانتصار على الإسلام مستحيل خاصة وهي قد ظنته مجرد أيديولوجيا مثل الشيوعية التي  هزمتها أيديولوجيا بالنموذج الأمريكي: فسقوط السوفييت علته القيمية هي المقابلة بين النموذجين فضلا عن علته الإنجازية لشروط كرامة الإنسان المادية بمعنى العمران البشري والخلقية بمعنى الاجتماع الإنساني إذا استعملنا المصطلحات الخلدونية.

والثاني أن معركتها مع الصين لا يمكن الصمود فيها إذا لم تصل على الأقل إلى المهادنة مع الإسلام لأن أرض داره تحتوي على كل شروط القوة المادية اقتصاديا وديموغرافيا مع الشروع الفعلي في حيازة أنواع القوة الحديثة أي العلوم النظرية والعملية وتطبيقاتهما فضلا عن المميزات الجيواستراتيجية لشغله قلب العالم من المحيطين بين القطبين.

ويترتب عن ذلك أن تبدأ معركتها مع الصين بثلاث معارك تمهيدية مع وصلتين بين أولاهما والثانية ثم بين الثانية والثالثة فتكون المعارك خمسا كالتالي:

المعركة الأولى التخلص من الاستعمار الأوروبي غير المباشر والمتمثل في النخب التي ورثت ثقافة الإمبراطوريات الأوروبية كما فعلت في مساعدة النخب التي أخرجت الاستعمار المباشر وهي الخطوة الأولى من المصالحة مع الإسلام.

المعركة الثانية تحرير مستعمرات الغرب السابقة مما حققته روسيا والصين فيها من التقدم عليها خلال انشغالها بالحرب على الإسلام وهي حرب خسرتها وخسرت معها سنوات الحرب عليه التي تقدم فيها عليها أعداؤها الحاليون.

المعركة الثالثة وذلك هو المشكل: كيف تضم القوى الإسلامية الناهضة إلى ما تحاول تكوينه من حلف لمحاصرة روسيا والصين كما فعلت في الحلف الرباعي الذي أنشأته في المحيط الهادي والمحيط الهندي واستثنت منه فرنسا وبدأت تفهم أن ذلك لا مفعول له من دون ضم القوى الإسلامية فيهما.

المعركة الرابعة هي معركة الوصل بين الأولى والثانية وهي ثمرة الاستفادة من فشل نموذج الدولة الحاضنة بتحرير المبادرة في هذه المستعمرات من خلال مساعدتها على التخلص من الاستعمار غير المباشر لأن علة الدولة الحاضنة هي الاستبداد والفساد الذي يفسد معاني الإنسانية بالمعنى الخلدوني فيجعل الإنسان عالة على المافيا الحاكمة التي تسكته برده إلى حاجاته النباتية وتلغي كل معاني الإنسانية فيه.

المعركة الخامسة هي معركة الوصل الثانية بين الثانية والثالثة وهي ثمرة الاستفادة من فشل الحرب على الإسلام وتوهم أنه مجرد أيديولوجيا مثل الشيوعية يمكن القضاء عليه بالنموذج الرأسمالي ولا يكون ذلك إلا بإصلاح النظام الرأسمالي نفسه وفهم ثورتي الإسلام اللتين تجعلانه مستقبل الإنسانية. 

ويقتضي ذلك فهم منطق التصديق والهيمنة القرآني الذي مكن من نقد اليهودية والمسيحية لتحريرها من التحريفين: أصل العنصرية أو شعب الله المختار وأصل الوثنية الناتجة عن قلب القيم النيشتوي علته الثورة على الخطيئة الموروثة والكنسية وسيطا بين الإنسان وربه.

وهذه المعارك متساوقة وليست متوالية: ومعنى ذلك أن الفرصة الثانية التي أتكلم عليها ليست مقصورة علينا بل هي كونية وستكون في تاريخنا الحالي والمقبل أي بالقياس إلى قوتي نظام العالم الحالي والمقبل أي الصين وأمريكا من جنس ما كانت النشأة الأولى لحضارة الإسلام بالقياس إلى قوتي نظام العالم في عصر نزول القرآن أي فارس وبيزنطة.

وذلك هو الشرط الذي سيتحقق حتما لأنه هو الذي يعني عودة الإسلام إلى دوره التاريخي شهادة على العالمين لكون دين الأمة الوسط التي تحرر الإنسانية من تحريفات المشرقين والمغربين لتنبعث قيم الإسلام في أمة الوسط الشاهدة على العالمين.

وتلك هي الفرصة الثانية التي قد يخسرها المسلمون إذا واصلت قيادات المسلمين نفس السياسة المتلفتة إلى ما ورثته نخبها العميلة من الاستعمار بدلا من الاستئناف بالتحرر منه. وأعتقد جازما أن من يمكن أن يحول دون ذلك هو آخر من أخرجته أوروبا من دوره الممثل آخر شكل من أشكال وحدة الأمة رغم ما حل به مما جعله "الرجل المريض".

كما أن قيادة القطبين الحاليين قد تواصل ما ورثتاه من تاريخ الصراع على تخريب العالم كما فعل القطبان السابقان في العصر الحديث (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي) والإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية التي هزمت الخلافة الإسلامية في أطوارها الخمسة لأنها غلبت الضرورة التي تبيح المحظور.

 

مهمة إخراج الاستعمار الأوروبي والسوفييتي ثم الصيني من العالم تصبح موضوع التحالف مع أمريكا بالشروط التي وصفت بعد أن تثبت أمريكا أنها حقا قررت العمل مع المسلمين الذين يريدون توحيد الأمة بتخليصها من النخب العميلة لهذه الأصناف من الاستعمار. ويكون ذلك في البداية من جنس ما حصل بينها وبين اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا خاصة.

 



ولم تعد إلى استراتيجية الرسالة الخاتمة (الأموية بفرعيها والعباسية التابعة لعودة فارس والعباسية السلجوقية والعثمانية) والقطبان السابقان في عصر الإسلام دون فهم رؤية الإسلام ـ ومثلهم كل المسلمين الذين لم يعملوا بها أولا والذين وقعوا في كماشة المشرقين والمغربين.

وليس ذلك مجرد رأي شخصي لأن أول من دعا إلى حلف إسلامي حقيقي يمثل هذا التوجه هو المرحوم أربكان ويواصله حاليا أردوغان، الذي أعتبره في علاقته بأوروبا جنيس معاوية فلقبته بمعاوية الثاني لأنه يهادنهم وفي نفس الوقت يحول دونهم والبقاء في ما كان أرض الخلافة. 

والعائق الأساسي لهذا المشروع في الأمة يمثله العرب وخارجها تمثله التبعية لأحد القطبين السابق واللاحق في العصر الحديث، لأن العرب هم أكثر شعوب الإسلام تبعية للاستعمار غير المباشرة لما يجعلهم محميات نخبهم تواصل سياسته لتحقيق ما فشل فيه لما كان مباشرا.

وهذه السياسة هدفها الأساسي مواصلة حربه على ما يتعالى على تقديم الولاء للأعراق والطوائف على الولاء للحمة الروحية وما يترتب عنه من تشتيت للتاريخ الذي يشرعن للتفتيت الجغرافي الذي نتج عن تقاسم الإمبراطوريات الأوروبية ثم القطبين السابقين وما يمكن أن يواصله القطبان اللاحقان لدار الإسلام. 

فتكون سياسة نخب العرب أساسا توطيد علل الوهن والتبعية التي تجعلهم ليسوا توابع فحسب بل هم الممولون الأساسيون لمنع وحدة المسلمين واستئناف دورهم.

لكن السياسة التي يمكن أن تتغلب على هذا العائق هو الحاجة إلى نفس السياسة التي اتبعتها الدولة الأموية مع بيزنطة مع الاستفادة من فهم أمريكا وإن بصورة مترددة للحاجة إلى الحلف مع المسلمين إذا أرادت عدم خسران منزلتها في نظام العالم الجديد.

كانت سياسة الدولة الأموية هي مهادنة بيزنطة حتى أخرجتها من الإقليم غربه كله مثلما أخرجت الخلافة الراشدة فارس من شرقه كله بعد أن قضت عليها وفي النهاية قضت الخلافة العثمانية على بيزنطة في عقر دارها. واليوم يمكن للإسلام إن هو استأنف دوره.
 
بالمهادنة وحتى بالحلف مع أمريكا أن يصبح الإقليم كله شماله وجنوبه تابعا له سياسيا لأنه يمثل قلب المعمورة وساحة المعركة بين قطبي نظام العالم المقبل أي أمريكا والصين.

ومهمة إخراج الاستعمار الأوروبي والسوفييتي ثم الصيني من العالم تصبح موضوع التحالف مع أمريكا بالشروط التي وصفت بعد أن تثبت أمريكا أنها حقا قررت العمل مع المسلمين الذين يريدون توحيد الأمة بتخليصها من النخب العميلة لهذه الأصناف من الاستعمار. ويكون ذلك في البداية من جنس ما حصل بينها وبين اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا خاصة.

من الحمق أن يدعي المسلمون أنهم صاروا أقوى من هؤلاء فيزعمون الندية مع أمريكا دون أن يعاملوها مؤقتا على الأقل معاملة هؤلاء لها ليصبح لهم من القوة ما يؤهلهم لقيادة العالم. فحتى لو تحقق المخمس الذي يسعى لتوحيد الجبهة الإسلامية (تركيا وباكستان وقطر وماليزيا وأندونيسيا) فإنه لن يكون أكثر قدرة من اليابان وكوريا وألمانيا.
 
قدرة الاستغناء عن حليف يحول دون الصين وروسيا وحتى أوروبا من مواصلة السيطرة على سياساتهم ومنعهم من الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها بصورة تجعل الإسلام قطبا ثالثا يحرر البشرية مما تردت إليه.


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل