كتاب عربي 21

الأقصى والقدس وتصحيح مفهوم "المواطنة الحابسة".. المواطنة من جديد (51)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
وفقا للرؤية التي أكدنا عليها من النظرة المنفتحة إلى المواطنة والتي تتسع لانتماءات أخرى غير الانتماء الضيق للدولة القومية؛ فإن مفهوم الدولة القومية في هذا المقام يعد من المفاهيم الحابسة للتعبيرات الإنسانية والمواقف الوطنية، وكذلك الاستناد إلى تعظيم الرموز الدينية، وكأن الحد يمنع من إبداء الرأي والمشاعر الفياضة التي تتعلق بدعم قضايا الحق والعدل في أي جغرافيا كانت وفي أي مكان.

فكرة الحدود في الدولة القومية هي فكرة حابسة يريد البعض ألا يجعلها فقط حابسة للتنقل والذهاب إلى هنا وهناك؛ إلا من خلال تأشيرات سفر ضمن تنظيمات المرور والانتقال في المنظومة الدولية، بل يريد لها أن تحبس المشاعر والمواقف والإرادة الإنسانية في التعبير عن حق ودفع ظلم وتأسيس عدل. ومن هنا كانت تلك الفكرة الذهبية التي تتعلق بوحدات الانتماء المتحاضنة لتعبر عن هذا المفهوم المنفتح للمواطنة.

من لا يعرف أن "القدس وطني" فهو لا يعرف معنى المواطنة، ومن لا يعرف أن "الأقصى عقيدتي" فإنه لا يعرف معنى العقيدة، وأن المكان الجغرافي لا يمكن أن يحبس حقا أو يحاول أن يسجن عدلا أو يكبت موقفا. إن فيوضات الإنسانية في هذا المقام وفقا لفطرتها في مقاومة أي ظلم أو اغتصاب لحق؛ هي أمر أساسي في مفهوم الوطنية والمواطنة.

ومن هنا فإن معنى "المواطنة الإنسانية" إنما يشكل في حقيقية الأمر معنى للعودة إلى الأصل الأصيل في تقديم الكرامة الإنسانية والحقوق المتعلقة بها، وإلا فإن فقد الكرامة يكون بحق هو فقد لمعنى الإنسانية لا يجدي فيه بأي حال من الأحوال وصف بعد ذلك للمواطنة إن كانت حابسة لحق أو تسجن عدلا.

ضمن هذه الرؤية الإنسانية الواسعة والمنفتحة يبدو لي مفهوم المقاومة ومفهوم المواطنة من المفاهيم المحورية التي ترشد وتصحح مفهوم المواطنة الضيق المرتبط بكيان الدولة القومية، فإن المعنى الذي يتعلق بالمواطنة لا يتعلق بأرض ولكنه يتعلق بحق.

هذه المعاني الأساسية كما قلنا تؤكد عليها الانتماءات المختلفة والمتنوعة، الأصل فيها ألا تتعارض أو تتناقض أو تكون بالخصم من بعضها البعض. إن انتمائي المصري لا ينتقص من انتمائي العروبي، وانتمائي العروبي لا يلغي انتمائي الإسلامي، وكل ذلك لا يلغي انتماءاتي الإنسانية والطبيعية للأرض والوطن والحفاظ عليها.

ومن هنا فإن مفهوم الوطنية ليس مفهوما "شوفونيا" ضيقا، ولا أنانيا محدودا، ولكنه مفهوم يتسع للحفاظ على كل وطن لأهل ذلك الوطن.. أن يعبر عن حق وأن يؤكد عدلا، ومن هنا فإن هذه الكلمات التي تأتي من هنا وهناك في محاولة لفك ارتباط الناس بمعنى الإنسانية الواسعة والوطنية الحقة ليس معناها بأي حال من الأحوال الانتقاص من اهتمامك بوطنك أو بوطنيتك أو مواطنيتك، ذلك أن خطاب الابتزاز الذي يمارسه البعض في هذا المقام حينما يتحدث بلا مبالاة خطيرة بمعنى المواطنة ("وإحنا مالنا"، "باعوا أرضهم") ويكيل السباب والهجاء من كل طريق، إنما يعبر بذلك عن دونية حقيرة لا يمكن بأي حال من الأحوال قبولها، إلا أن تكون انتهاكا للقاعدة الأصلية والتأسيسية؛ أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.

الأمر ليس اختيارا بين انتماءين أو أكثر، وهي في الأصل تعبر عن قيمة تأسيسية واحدة ليس فقط بالمعنى الإنسان فقط، ولكن بكل تلك المعاني التي أشرنا إليها سابقا وتتعلق بانتمائنا التاريخي وانتمائنا الديني وانتمائنا الثقافي والحضاري. 

ومن ثم فإنني أقول وبأعلى صوت إن فلسطين أرضنا ووطننا وهي من أصول مواطنيتنا، وأن القدس وعاء يتسع ليستوعب كل هؤلاء الذين يرتبطون بها، وأن الأقصى قبلة لكل من يؤكد على الحقوق والعدل المتعلق بشرف هذه الأمة. ومن ثم يبدو لي أن تداول مفاهيم مثل الأمة المصرية والأمة العربية والأمة الإسلامية هي مفاهيم لا تتعارض؛ بل إنها تتكامل في الوجهة في إطار الوطن والوطنية والمواطنة.

إن الذي اغتصب أرضا من أهل فلسطين هو مغتصب أرضي في مصر، وكذلك من يساعده على اغتصاب هذه الأرض ويفرط فيها.. "حبك لفلسطين جزء من حبك لمصر"، ومن مواطنيتك الحقيقية ووطنيتك الصادقة وإنسانيتك الفطرية. وهنا قد يكون من الصواب أن نستدرك في هذا الشأن أمرا عبرت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة "مادلين أولبرايت" حينما استعجبت واستغربت أن ترى في أقصى الأرض من ينتفض من أجل القدس والأقصى؛ من مسلمين في إندونيسيا وماليزيا وبلاد أخرى، واستغربت من أن يرتبط ذلك بمعنى الكرامة الإنسانية، وأعلنت عن ذهولها من ذلك الشأن وأنها لا تجد له تفسيرا.

وفي حقيقة الأمر أن معنى المواطنة المنفتحة التي تستوعب كل حق وكل عدل هو الأمر الذي لا يمكنها استيعابه؛ حينما ترى في الكيان الصهيوني وفي أفعاله حقا له في الدفاع عن نفسه، ولكنها لا ترى إلا تلك النفوس وتستخف بكل نفس أخرى وبكل حقوق تتعلق بها، والشعوب التي تحمي أرضها من كل اغتصاب ومقدساتها من كل انتهاك. هذا لا يمكن أن يدركه إلا من يؤمن بالمعاني التي تتعلق بالإنسانية الحقة والمواطنة المنفتحة والوطنية الصادقة.

نقول كل ذلك في ظل هؤلاء الذين يمثلون شرف الأمة وعزها حينما ينتدبون من أجل الدفاع عن شرفها ورموزها الدينية؛ التي تتمثل في "الأقصى" و"القدس". كان "الحكيم البشري" يقول "القدس وعاء لفلسطين"، وأنا أقول إن "القدس وفلسطين وعاء لمصر"، وأي مفهوم من مفاهيم الأمة مهما كان وصفها؛ أمة مصرية أو عربية أو إسلامية. ذلك أن الأمر الذي يتعلق بالدفاع عن الحق في هذا المقام إنما يشكل جزءا لا يتجزأ من الصدق في كل علاقة يقوم بها الإنسان؛ حينما يرتبط بدوائر انتماءاته المتنوعة والمتحاضنة من دون أن ينتقص ذلك من انتماءاته الأخرى شيئا، بل هو يزكيها ويعضدها لأن الحق يسري في كل تلك الانتماءات وكل تلك العلاقات، فيكون الانتماء للإنسانية صدقا والانتماء للوطن حقا، والانتماء للأرض فطرة، والدفاع عن كل ذلك أمر هو من صميم وجوهر تلك العلاقات وحقيقة هذه الانتماءات.

ومن الملفت حقا مشاهدة عدد من هؤلاء الذين يلوكون الوطنية ليل نهار بمصر أو دول أخرى يلمزون من يواجهون المحتل ويقاومون الغاصب بما تيسر لهم من قوة وأدوات، ويحاولون من منطق منظومة دولية اعتمدت مفهوم الوطنية المحبوسة والمواطنة الحابسة، ويؤكدون أن ذلك قد ينال من الدعم الدولي للقضية الفلسطينية.

على هؤلاء أن يصمتوا لأنهم لا يعرفون معاني الحق والحقيقة، ومعاني العلاقات التي تتعلق بجوهر هذه الوطنية والمواطنة والحقوق التي ترتبط بذلك، فما كانت الحدود حبسا لموقف حق، وما كانت مانعا من اتخاذ المواقف الصادقة التي تتعلق بحقنا في قدسنا وأقصانا.

إن انتهاك الأقصى كان من الواجب أن يستنفر جميع هؤلاء ليهبوا لنجدته ويهبوا على أقل تقدير لدعم من يرابطون فيه، ويقاومون كل غاصب ويؤكدون على معنى الوطنية الحقة. وهناك فئة أخرى تقول إن عليك ألا تسيس القضية فيفتح ذلك الباب واسعا لصمت الخذلان، من دون أن يعبر بذلك عن رؤيته الحق في قضايا مثل العنصرية بين بني الإنسان والحقوق التي تتعلق بالإنسان وبالأوطان.

ويقول أحد الصحفيين في هذا المقام: "إن دعم القضية الفلسطينية في هذا المقام ليس موقفا سياسيا أو قوميا أو دينيا، بل هو موقف إنساني فطري لا يحتمل الحياد"، وإن افتعال مواقف ومفاهيم من مثل الحياد في هذا المقام ليست إلا دعما لظالم وسكوتا عن مغتصب ومنتهك لعرض وأرض ورموز مقدسية مقدسة.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)