أفكَار

التوغل في القراءات الفلسفية هل يخدم العلوم الشرعية أم يفسدها؟

آراء في علاقة الدين بالفلسفة  (عربي21)
آراء في علاقة الدين بالفلسفة (عربي21)

تشير بعض الأبحاث والدراسات إلى تزايد الاهتمام بدراسة الفلسفة، والانكباب على دراسة إنتاج الفلاسفة على اختلاف مدارسهم واتجاهاتهم في أوساط إسلامية، خاصة الشبابية منها، وهو ما كان له أثر واضح في طريقة تعاملهم مع النصوص الشرعية، وتعاطيهم مع المفاهيم الشرعية.

ووفقا لباحثين فإن من مظاهر ذلك التأثير التوجه لإخضاع تلك النصوص والمفاهيم للمحاكمة العقلية، وإعادة النظر في بعض المفاهيم الدينية بإعمال العقل وتقديمه على النقل، وهو ما يفضي في مآلاته إلى تفكيك الأفهام الدينية التقليدية لنصوص شرعية، وخلخلة مفاهيم دينية ثابتة ومستقرة عبر الممارسة الإسلامية التاريخية.

ذلك التوجه الذي يمتد ويتنامى أثار الجدل من جديد حول طبيعة العلاقة بين العلوم العقلية والنقلية، وفتح المجال لتلمس آثار التوغل في علم المعقول على حساب علم المنقول، وفيما إذا كان التوسع في قراءة الفلسفة وسائر العلوم الإنسانية والاجتماعية يخدم العلوم الشرعية بطريقة أفضل وأعمق أم أنه يفسدها ويخرجها عن الأنساق التقليدية المقررة في المراجع الدينية المعروفة؟

قد تتباين آراء المتخصصين في العلوم الشرعية في مقاربتهم لطبيعة العلاقة بين الدين والفلسفة، ففي الوقت الذي يرى فيه بعض أساتذة الشريعة أن دراسة الفلسفة، وسائر علوم المعقول تفتح لدارسي العلوم الشرعية آفاقا جديدة من الفهم والمعرفة، وتسعفهم كثيرا في فهم مقاصد الشريعة بصورة عميقة ودقيقة، يرى فيه آخرون أن دراسة الفلسفة لا تخدم علوم الشريعة كثيرا، ولا تقدم لدارسيها ما يستحق دراستها وإفناء الأوقات الثمينة في مطالعات مقولات أهلها.

في هذا الإطار يرى الباحث المصري المتخصص في العلوم الشرعية، الدكتور محمد الصياد أن "الفلسفة وعلم الكلام وعلوم المعقول عامة في غاية الأهمة للمشتغلين بالعلوم الشرعية والدينية، فهي تفتق الأذهان لمعرفة أعمق بالواقع، وإدراك مقاصد الشارع بعيدا عن الحرفية والظاهرية الصرفة".

ولفت في حواره مع "عربي21" إلى أن الفقيه قديما، وقبل تفكك العلوم وانفصالها على ما هي عليه الآن، كان مدركا لأسس منظومة أخرى من العلوم، ولا شك أن تلك العلوم كانت تؤثر في رؤيته للمسائل الفقهية، ومجمل خارطة العلوم الدينية، بل لواقع العالم من حوله أيضا".

 

 


واستشهد الصياد بحجة الإسلام أبي حامد الغزالي كمثل على ذلك بأنه كان "عارفا بالدرس الفلسفي والكلامي والأصولي، والصوفي، والفقهي، وبالتالي لا يمكن القول إن تلك الموسوعية لم تؤثر بعضها في بعض، ويظهر ذلك جليا في اشتباكه مع الباطنية أو الفلاسفة أو المعتزلة، فتلك العلوم تتكتل في وحدة واحدة لتشكل رأيه وحجاجه".

أما عن حال العلوم الشرعية والفكر الإسلامي اليوم، فوفقا للصياد فثمة "أزمة عميقة في الفكر الإسلامي اليوم، وهناك هجوم كبير على الفقهاء أو بالأحرى على المشتغلين بالفقه، فيظهرون كأنهم لا يعيشون الواقع، ولا يهتمون بآلام الناس الحقيقية".

وأشار إلى أن "من أسباب تلك الأزمة، وربما السبب الرئيسي يرجع في تقديره  "إلى عدم إلمام أولئك المشتغلين بالفقه والمتصدرين للفتوى بعلوم مشاركة كثيرة، وغياب إدراكهم للواقع المعقد والمتشابك والذي لا يُفهم إلا بفهم أسس فلسفية وسياسية واقتصادية، وتحولات مهمة في النظام العالمي ما قبل الحربين العالميتين وما بعدهما، وما قبل الدولة الحديثة وما بعدها".

والحل المقترح بحسب الباحث المصري الصياد "يكمن في إعادة الشخصية العلمية الجامعة بين المعقول والمنقول، وليس تلك التي تقتصر على أحدهما دون الآخر، وهو ما لا يكون إلا بإصلاح حقيقي للمؤسسات الدينية في العالم الإسلامي".

من جهته وصف أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، الدكتور اليماني الفخراني العلاقة بين الدين والفلسفة بـ"شديدة الوعورة، وأن التوفيق بينهما ـ غالبا ـ ما كان على حساب الدين للأسف الشديد، وكل من وضع الفلسفة مع الإسلام في نفس المرتبة سواء من الفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا أو ابن رشد اختل ميزانهم، وجاروا على الإسلام نصرة للفلسفة كالقول بقدم العالم، والقول بعدم علم الله بالجزئيات والقول بالمعاد الجمساني والقول باكتساب النبوة، وتكرار ذلك عند ابن رشد ومن قلدهم على مدار التاريخ إلى هذا العصر".

 



وأرجع ذلك في حديثه لـ"عربي21" إلى ما أسماه "الانسحاق أمام الوافد أو الجهل بالإسلام وتراثه، وغياب الأصالة الفكرية في التراث الإسلامي عند هؤلاء، ولو بحثوا لعلموا واقعية علم الكلام الإسلامي وارتباط كل مسائله بوقائع محددة أدت لنشأة علم الكلام الإسلامي ونشأة علم أصول الفقه، وهما المعبران عن الفلسفة الإسلامية الحقيقية، أما ما يحدث الآن فهو انسحاق كامل جديد عند فئة، وانسحاق جزئي عند فئة أخرى" على حد قوله.

وعن مدى استفادة المتخصصين في العلوم الشرعية من دراسة الفلسفة، قال الفخراني "لقد تخصصت في الفلسفة بفروعها، وحاولت البحث عن جديد مفيد فيها فلم أجد وكل مسألة فيها يمكن محاكتها بميزان الإسلام، ولا أرى أن ذلك يخدم العلوم الشرعية والمفاهيم الدينية، وتساءل "هل ثمة حقيقة فلسفية واحدة اتفق عليها الفلاسفة أفادت البشرية بما عجز عنه الإسلام".؟.

وأضاف: "ولا أمنع بقولي هذا من مطالعة كل الفلسفات، فهذا مما لا يقول به عاقل، وإنما أدعو لعدم الانسحاق الحضاري، وعندنا مثلنا الأعلى الدكتور محمد عبد الله دراز الذي تعمق في فهم الإسلام وفي فهم الفلسفات الغربية، خرج علينا بكتابه دستور الأخلاق في الإسلام ولا يوجد إلى الآن من استطاع تجاوز ما كتبه".

ولفت إلى أنه "لا يوجد دين من الأديان اعتبر التفكير فريضة إلا الإسلام، وبالتالي فإن النظر العقلي في النصوص المقدسة فريضة، وتخلف المسلمين إنما جاء لغيات النظرات العقلية في النصوص، أم النظرات الغربية المتسترة بالفكر الغربي والتي تنطلق منه لمحاكمة الإسلام باسم قراءات جديدة فهذا انحراف فكري سرعان ما يرجع المخلصون من أصحابه إلى الجادة الرشيدة".

بدوره اعتبر الباحث التونسي المتخصص في الأديان المقارنة والمذاهب المعاصرة، الدكتور سامي العامري "الاهتمام بدراسة الفلسفة بين شباب الدعوة في أصله ظاهرة صحية، إذا ما علمنا أن الصراع بين الإسلام والفكر التغريبي ليس صراعا حول مقولات علمية أو اجتهادات فقهية، وإنما هو حول الرؤية الكونية وما ينجم عنها من مقولات عقدية وقيمية".

 



وأضاف "والاطلاع الواعي في هذا الباب من شأنه أن يُنشىء جيلا قادرا على التصدي للغزو الفكري الذي ما عاد ينتظر رخصة للفسح من وزارة الإعلام أو وزارة الثقافة، وإنما يقتحم علينا بيوتنا من خلال وسائل الإسلام والتواصل قبل الكتب الورقية، وقد كان الغزو الفكري ـ ولا يزال ـ يجد ضالته في ضعف طبقة الدعاة الذين يسطحون المعركة الفكرية، ويقدمون ردودا عاطفية وغير مقنعة للجيل الجديد المتشبع بالشبهات ذات البهرج".

وتابع: "ولذلك فإن الارتقاء بالدعوة لتكون قادرة أن تقاوم وتصاول فكريا، بتعميق فهم المسلم للعالم وأفكاره، ضرورة من ضرورات المرحلة، ولا أرى تعارضا بين الاهتمام بهذه القراءات وطلب العلم الشرعي، ما كانت هذه القراءات واعية، وقائمة على أرض صلبة، وإنما يأتي الإشكال من القراءات التي تكون غير واعية بحقيقة المذاهب الفكرية الغربية، وتعارضها مع الإسلام، فهنا يحدث الانحراف، وتظهر القراءات المتعسفة للنص الشرعي".

وشدد العامري على أن "المكتبة الإسلامية تحتاج إلى أن ترتقي برصيدها المعرفي لترفد الساحة بكتب عميقة في عرضها ونقدها لأمهات المذاهب الفلسفية والتيارات الفكرية ذات الجاذبية بين الشباب كفلسفة ما بعد الحداثة والعلموية والإلحاد الجديد، فيجب ألا يكون مطلب الدعوة منع القراءة في الفكر الفلسفي، وإنما يجب أن يكون المطلب ترشيد هذه القراءة، والقراءة في الفكر الغربي من زاوية إسلامية، لا تصد عن طلب العلم الشرعي على الطريقة التقليدية".

وأنهى حديثه بالإشارة إلى أن "النظر في الفكر الغربي، يتطلب بالأساس فهم مقولات المدارس الفلسفية، وأين توافق الإسلام وتخالفه؛ فتفيد من دعمه لحقائق الإسلام (المدارس المعارضة للإلحاد أو النسبوية أو النسوية..)، وتحذر أباطيله، فالإشكال تحديد المرحلة التي يكون فيها الشاب المسلم مؤهلا للقراءة في الفكر الفلسفي الغربي، لا منعه من ذلك".

التعليقات (1)
مصعب زروق
السبت، 16-01-2021 04:23 ص
هنالك كتاب لمؤلف ملم بالفكر الإسلامي والفكر الغربي ... بعنوان مدخل الى الفلسفة لمؤلفه عبدالله حسن زروق، وهو متاح في النت. [email protected]