قضايا وآراء

يحيى عياش.. مخترع البارود الفلسطيني

خلدون محمد
1300x600
1300x600

ينتمي الشهيد يحيى عياش إلى جيل طالما أطلق عليه في الأدبيات السياسية والإعلامية في الثلث الأخير من القرن العشرين "جيل أطفال الحجارة"، والذي فجر إبداعاته الكبرى في "انتفاضة" عارمة مفتوحة استمرت لسنوات طويلة حملت الاسم ذاته "انتفاضة أطفال الحجارة". 


وميزة هذا الجيل أن وعيه الكامل تشكل تحت الاحتلال بعد 1967، فكان الأفق كله احتلال. وعندما بدأ الوعي الجنين يتشكل لكسر هذا الأفق والانطلاق إلى آفاق الانعتاق والحرية والهواء النقي، التمس أبناء هذا الجيل وهم طلاب مدارس في السبعينيات، ثم طلاب جامعات في الثمانينات، سلاحهم البدائي (سلاح داوود الغلام، في وجه جالوت الجبار) سلاح الحجارة!!


وغدا نموذج "انتفاضة الحجارة" مدهشا، وجذابا، وذهب كمثل، و"وماركة مسجلة" برسم جيل ومرحلة وحالة نضالية، معمّمة صورتها في العالم. واذا كانت الثورة الفلسطينية التي انطلقت عام 1965 قد استعارت نموذجها من تجارب ثورات شعوب وأمم أخرى (كالصين وفيتنام وكوبا والاتحاد السوفيتي...) مستعيرة مقولات: حرب التحرير الشعبية، البؤر الثورية، وقواعد الارتكاز لإطلاق الكفاح المسلح .. إلخ، في حالة شبه استلابية لم يظهر معها النموذج الفدائي الفلسطيني بملامحه المحلية الأرضية، بقدر ما بدا كصدى لنماذج أخرى في حالة من الاستلابية التي تعكس أصالة النموذج وعلاقته بتربة الواقع.


كان يحيى عياش طالبا في السنة الثانية في الهندسة الكهربائية، عندما اندلعت (مظاهرات 4/12/1986 الشهيرة) في جامعة بيرزيت، والتي استشهد فيها شهيدا الكتلة الإسلامية: جواد ابو سلمية، وصائب ذهب. كما أصيب يومها رموز من الكتلة الإسلامية، أحدهم كان زميل يحيى عياش ومن نفس دفعته في الهندسة الكهربائية، والذي سيصبح لاحقا رئيسا لمجلس طلبة الجامعة في عام 1993. وفي إثر تلك المظاهرة إندلعت "هبّة" شعبية، استمرت عدة أسابيع، اعتبرها العديد من الباحثين والمراقبين "البروفة" الأخيرة التي سبقت الانتفاضة الكبرى بعد عام بالضبط في 9 كانون أول 1987.


لقد اكتسب الحجر في يد الفلسطينيين رمزية مذهلة، انعكس ذلك ليس فقط فيما قاله شعراء العرب والفلسطينيون، ولا في قدرته على هزّ الضمير العالمي، كما لم يحدث من قبل، ولا حتى في التداعيات السياسية والفكرية على جانبي الصراع الفلسطيني- الصهيوني، وإنما أيضا، في اكتشاف الفلسطينيين لما يمكن لفعل الذات أن يحدثه من مفاعيل وأثر. فقد خبر هذا الجيل معنى الثورة الأساسي: خروج الشبح من الجلد والمضي في طريق مستقيم إلى الامام دون الالتفات إلى الخلف لحظة واحده. وهنا كان اللجوء الجماعي للحجارة في تلك اللحظة المتّقدة هو ما عكس تماما تعبيرات إصرار الذات وعزم الروح.


ولأن الزمن لا يقف متسمّرا عند لحظة بعينها، فإن من خاصيات الوجود الإنساني- وبالأحرى إن كان في حالة صراع – الانتقال الانسيابي عبر صيرورة الزمن، وهي سنن وقوانين لا تتخلّف، فإن ما ميز "انتفاضة الحجارة" خاصية "الدحرجة" في الأدوات والوسائل وطرق المواجهة، وبالتالي كانت "الحجارة" مرحلة أساسية استمرت لسنوات، ولكن صيرورة فعل الذات وسعيه للخلاص كان يتخطّى مراوحة التسمّر عند الحجارة والتحجر حولها. نقول ذلك؛ أولا، لأن هناك بعض القوى الفلسطينية من أَسَرَتْهُ تلك اللحظة الحجرية لدرجة أراد تخليدها بأثر رجعي بعد أن تدحرجت الانتفاضة إلى آفاق جديدة لا يريد معها تحمّل التكاليف، أو لربما أراد التحجر عند شكل المقاومة بالحجارة على اعتبار أنه شكل من أشكال "النضال السلمي" الذي يخدم البرنامج السياسي لأصحابه مما لا يذهب سقفه إلى التحرير الكامل، وإنما لبلوغ تسويات يمكن أن يقنع بها هؤلاء مثل حلّ الدولتين.


وثانيا، لأن سلاح الحجارة لم يكن بالنسبة للفلسطينيين "سلاح اختيار" بل "سلاح اضطرار"، فلم يكن بين أيديهم سوى الحجارة العارية، وحتى عندما كان يعز توافرها في بعض المواقع كبوابات المسجد الأقصى مثلا، وجدناهم يضربون الاحتلال بأحذيتهم، وكل ما قد يقع تحت أيديهم مما يعكس رفضهم وتحديهم.


الفلسطينيون هنا، واقعون بالكامل في أحشاء الاحتلال، ومنقطعون عن أي نوع من الإمداد اللوجستي المادي من قبل محيطهم العربي والإسلامي، وليس لهم بعد عون الله، إلا الابتكار والخلق والإبداع. وهو ما ميّز الفعل النضالي الانتفاضي في مساره المتدحرج المتصاعد، بابتكاره لوسائل مقاومة جديدة، كانت تتوخى النجاعة وتطور الاداء، وهنا طور الفلسطينيون في "سلاحهم الأبيض" ، من سكاكين إلى المولوتوف بتنويعاته المختلفة، ثم إلى أعمال الدهس والتخريب .. إلخ.


ولأن الفعاليات الأهم قادها طلبة الجامعات، فقد جسّدت الانتفاضة، في واقع الأمر، ما كانت تقوم به الحركة الطلابية داخل أسوار الجامعات، طيلة السنوات السابقة عليها. هذه الفعاليات انتقلت وتعمّقت في الانتفاضة في كل حيّ وشارع، وفي كل قرية ومدينة ومخيم، من هنا يعود لهؤلاء الطلبة الدور الأبرز في تطوير الأدوات والوسائل.


بعد مرور عام أو عامين من انتفاضة عام 1987، نهض قلّة من بعض طلبة الجامعات إلى الخروج عن المألوف، وقاموا بشكل غير مخطط له، وغير منسّق مسبقا، وفي مناطق مختلفة - وفي ظل شبه استحالة للحصول على أسلحة نارية – بالاجتهاد في البحث عن أدوات مقاومة ناجعة، خاصة أن وعيهم السياسي كان يشتم مخاطر تصفية القضية الفلسطينية، وهو ما عبرت عنه القرارات الخطيرة للمجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر في 15/11/1988، التي حاولت حرف الانتفاضة عن أهدافها واستثمارها سياسيا –ويا للغرابة- من أجل الاعتراف بالكيان الصهيوني. وكان ذلك بمثابة سرقة للدماء وللتضحيات الجليلة.


لا يعرف الكثير من أبناء شعبنا أن أولى المحاولات لتصنيع مقذوفات، تعود للعام 1990-1991. كانت المحاولة الجنينية الأولى توصل المقذوف إلى بضع مئات من الأمتار، كما لجأ بعض أولئك الطلبة إلى شراء بعض المواد الكيماوية من بعض المحلات المكتبية والتجارية التي كانت توفّر لمختبرات المدارس بعض المواد الأساسية الأولية. بدأ الأمر في البداية  لزيادة فعالية عبوات المولوتوف، بإضافة مواد جديدة واختبار فعاليتها. وفي تلك الآونة تردد بعضهم على مكتبة الجامعة العبرية في القدس للتنقيب في بطون الكتب عما يمكن أن يستفاد منه على هذا الصعيد. ولقد عانت جميع تلك المحاولات من نقص في توفر الأدوات والمال والخبرة.


ذات يوم من عام 1991، فاجأ الشهيد يحيى عياش زميله في السكن، مسؤول الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت، بعد أن أغلق الغرفة، وفتح يده التي كانت فيها حفنة من "كحل البارود" (الذي يصنعه الفلسطينيون عادة من مسحوق الفحم النباتي وبعض نترات لمواد الحمضية) وقام بإشعال النار فيها، فوصلت الشعلة إلى سقف الغرفة تقريبا، وعندها قال له زميله: لا تفضحنا، أجاب يحيى رحمه الله: "احسبوا حسابي". قال ذلك لأنه كان قد أحسّ واشتمّ رائحة وجود مسعى لتنظيم نوع غير تقليدي من العمل الانتفاضي، رغب أن يساهم فيه ويلفت الانتباه إلى إمكانياته.


وكان الشهيد يحيى من النوع الخجول، قليل الحديث، ومن ذلك الصنف النادر من الرجال الذين إن لم تحدّثه لا يبادرك بالحديث، كما أنه لم يكن ذا بنية عضلية، كما حاول خيال المخرج السوري –الفلسطيني باسل الخطيب تصويره في المسلسل الذي أخرجه عنه، كما لم يكن يحيى رحمه الله – منشغلا بالخطابة والمهارات اللسانية. كان هادئا جدا، ومتفوقا أكاديميا، الأمر الذي سيدهش أساتذته، وزملاؤه، وأهله أيضا، بأنه هو مهندس العبوات الناسفة.


سيقوم يحي لاحقا، باختيار المواد المخبرية المتوفرة في السوق، وكانت مادة الأسيتون من أهمها، وعندما كان لا يتوفر منها كمية مناسبة، كان يستخلصها من بعض مستحضرات "الكوزماتيكس – التجميلية" حتى تصل إلى رائعته المبدعة.. "أم العبد" وهي الاسم الشعبي لذلك الخليط البارودي، الذي تتوفر عناصره بيسر وسهولة بين أيدي من يريد استخدامه، والذي أتقنه يحيى، ليس فقط عجنه وخلطه وتجفيفه، بل والأهم كهربته وتفجيره بنجاح. وشكل هذا النجاح حالة من العبقرية والإبداع الذي طبع فعاليات الانتفاضة الاولى المتدحرجة.


في الحقيقة، كانت التنظيمات الفلسطينية ترسل بعض عناصرها للتدريب على المتفجرات وعلى أمور أخرى، عندما كانت هناك قواعد للتنظيمات الأم في الأردن أو سوريا أو لبنان، ولكن رغم ما ينبغي ان تتجه تلك الخبرات من قدرة على تنفيذ أعمال وإخراجها إلى حيّز الوجود، كانت معظمها تفشل في المهد، وكثيرة هي الحوادث التي كانت تودي بحياة صاحبها وهو يعدّها ويحضّرها، فكان ذلك الجهد جهدا موءودا لم يكتب له نجاح، وتولّد شعور في عقدي السبعينات والثمانينات أن هذا النمط غير قابل لإعادة إنتاجه في الداخل الفلسطيني المحتلّ.


من هنا تأتي قيمة يحيى عياش، فهو بالنسبة لجيل الفلسطينيين المحاصرين الواقعين بالكامل في قبضة الاحتلال كان هو من أهداهم سلاحهم الفعال والمؤثر والمغير للمعادلات، التي أهمها كسر حاجز الردع.   


كان يحيى عياش – رحمه الله - من تربة الداخل الفلسطيني بالكامل، لم يذهب إلى قاعدة فدائية في هذه الدولة أو تلك، ولم يتخرج من كلية عسكرية، ولم يخبره أحد أو يزوده أو يعلمه طريقة إعداد العبوات. كان يحيى عياش حتى حينه النسخة الأخيرة لإبداعات انتفاضة أطفال الحجارة المتناسلة، كان الأمل أقرب إلى شيء معجز، أعدته عناية الله بحكمة مكنونة في أسرار الغيب، وأسرار الصراع الدامي بين الشعب الفلسطيني والصهيونية الخبيثة.


صحيح أن البارود مكتشف منذ عدّة قرون، لكن بالنسبة لأجيال الفلسطينيين بعد 1967، كان يحيى عياش وبلا منازع هو مخترع البارود ومكتشفه ومفجّره، ليس فقط بالمعنى البلاغي (مع أننا لم نقرأ لكبار شعراء العرب الذين ضنّوا وتجلوا عليه ولو ببيت أو شطر بيت من شعرهم، وهو بطل فلسطين ورائدها- وإن كانت بلدية مدينة رام الله قامت بعد سنين من استشهاده بإطلاق، اسمه على أحد شوارع المدينة) بالمعنى الماديّ المباشر والمحسوس.


وقد كتب مؤرخو الحقبة الأوسلوية أنه يعود للعمليات التي نفذها الشهيد يحيى عياش ثم التي ورثها عنه إخوانه اللاحقون، كانت السبب الأهم في اغتيال رابين، ثم في سقوط بيرس انتخابيا، ثم في اغتيال أوسلو وفرملتها، ثم في تحرير غزة وشمال الضفة. ثم والأهم في تحرير الذات الفلسطينية وانعتاقها من أسر الاحتلال، كنا نقرأ ذلك في تبادل التهاني وتقديم الحلوى التي كان يوزعها أبناء شعبنا تلقائية عقب كل عمل استشهادي.


 بالنسبة ليحيى عياش وخطه السياسي لم تتوقف الانتفاضة انتفاضة - عام 1987 - في عام 1997 بتوقيع اتفاق أوسلو، بل إن انطلاقة نموذجه الاستشهادي، بدأ تدشينه في اللحظة الأوسلوية بالتحديد، فبالنسبة له ولخطه الجهادي، فإن الانتفاضة مستمرة. 


ورغم ما شكّله اتفاق أوسلو، من عامل كبح معاكس للنهوض المقاوم، فقد مثّل هذا الاتفاق، دور قاطع طريق على مسار الانتفاضة المتدحرج، ومن الأسئلة المسكوت عنها في النقاش الوطني الفلسطيني: ماذا لو لم تكن أوسلو؟ وإلى أي حدّ كان يمكن لنموذج يحيى عياش أن  يصل؟ وما هي حدود التحمل الصهيوني حينذاك؟

0
التعليقات (0)