كتب

استقلال المغرب الكبير.. التاريخ في خدمة الحاضر والمستقبل

ماذا يجب أن يتعلم العرب المعاصرين من معارك الاستقلال التي خاضها الأجداد ضد الاستعمار؟ (عربي21)
ماذا يجب أن يتعلم العرب المعاصرين من معارك الاستقلال التي خاضها الأجداد ضد الاستعمار؟ (عربي21)

الكتاب: "بريطانيا العظمى وبلاد المغرب، التنافس الفرنسي ـ الإنجليزي بتونس والمغرب الأقصى 1881 ـ 1939"
الكاتب: عبد المجيد الجمل
الناشر: منشورات كلية الآداب والفنون والإنسانيات، منوبة ـ تونس 2019
عدد الصفحات 717 صفحة.


ينظر كتاب "بريطانيا العظمى وبلاد المغرب" إلى تاريخ حركات التحرر في تونس والمغرب الأقصى انطلاقا من زاوية لم ينتبه إليها دارسونا كثيرا رغم أهميتها، هي الصراع الفرنسي-الإنجليزي حول المتوسط. فيبحث في أرشيفات أخرى غير الأرشيفات الفرنسية التي ألف مؤرخونا الاستناد إليها. ويعود إلى وثائق ظلت مهملة مثل الكتابات الرسمية أو شبه الرسمية والأوامر والقرارات والمراسيم والاتفاقيات والمراسلات السياسية، والمذكرات الشخصية واليوميات والجرائد والمخطوطات والكتابات التي تتناول مسائل الاقتصاد أو التجارة جمعا وتنظيما وعرضا وتفسيرا لينتهي إلى نتائج مهمة تسهم في تعديل بعض المصادرات وتعيد تشكيل الزمن الماضي من مقاربة كثيرا ما تغرب عن مؤرخينا رغم غزارة مادتها. 

ولأهمية النتائج التي يعرضها هذا الكتاب الذي هو في الأصل أطروحة دكتوراه، سنحاول التركيز على أهم أفكاره ومنطلقاته في حلقتين، فنخصص الأولى لبسط استراتيجيات بريطانيا في فرض هيمنتها وتحقيق مصالحها في شمال إفريقيا وحوض المتوسط. ونخصص الثانية لعرض المعاهدات التي كانت تبرم خلف الضفة الشمالية للمتوسط لتحدد مصير بلدان ضفته الجنوبية ونحاور في حلقة ثالثة الأثر تثمينا ومناقشة اعتبارا لأهمية مقاربته أولا ولحاجة بعض مصادراته إلى التدبر والتفكير ثانيا.

1 ـ في تميز الكتاب وجدوى مقاربته

كثيرا ما تقف الدراسات التقليدية لحركات التحرر الوطني في شمال إفريقيا وفي الشرق العربي عند المؤثرات المحليّة وعند الأحداث الفرعية. فتعرض نتائج جزئية منتزعة من السياقات العالمية وتحرمنا من فهم حركة التاريخ في عمقها وفي شموليتها. أما أثر "بريطانيا العظمى وبلاد المغرب"، في تقديرنا، فيتجاوز هذا القصور. فهو مؤَلف في التاريخ يفحص بطريقة نقديّة علمية مصادر المعلومات المختلفة ويبحث عن معرفة أفضل لماضينا. فيقلب المنهج. ويصادر على كون التطورات الداخلية تمثل امتدادا لتطورات عالمية. فما يحدث هنا أو هناك تكون له أشباه ونظائر في مواطن أخرى من العالم باعتبارها محكومة بالسياق نفسه وبالأسباب نفسها. ومن ثمة يسعى إلى أن يصل المحلي بأبعاده الجغرا ـ سياسية الأوسع. فيفتح بالمبحث التاريخي على حقل الدراسات الدولية برمتها وبعلاقاتها المتشابكة وبتأثيراتها المعتبرة في مسيرة الحركات الوطنية قبل الاستقلال. وذلك لأن الظاهرة الاستعمارية ظاهرة عالمية حددتها اتفاقيات بين الفاعلين الدوليين الكبار المتنافسين على خيرات البلدان الضعيفة.
 
ولا يعلمنا هذا الأثر بالوقائع الماضية ولا يدرس الأحداث التي أثرت على البلدان العربية، وبلدان شمال إفريقيا خاصة، فحسب وإنما يمكننا من تجاوز القراءة الجزيئية للتاريخ ولحركته، ماضيا وحاضرا. فعودته إلى العلاقات الدولية لثلاثة قرون خلت تؤكد أنّ القانون المحرّك للتاريخ يظل هو نفسه. فما نراه اليوم من صدام بين القوى العالمية والإقليمية يعد نسخة مما كان عليه الأمر في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر أو العشرين. والصدام بين فرنسا تركيا حول مجال النفوذ في الشام وفي شمال إفريقيا اليوم تقليب جديد لأصل قديم نجد جذوره في الصدام بين روسيا والدولة العثمانية في أرمينيا والشام وليبيا للهيمنة على الشرق الأوسط في القرنين الماضيين.

2 ـ أحداث الماضي ودروس اليوم:

كشفت رحلة عبد المجيد الجمل في الأرشيف البريطاني وفي صلته بحركات التحرر الوطني في بلدان شمال إفريقيا صفحات خفية من التاريخ العربي والمغاربي. وأكدت أننا لم ندرس تاريخنا الدراسة الرصينة لفهم ماضينا وأننا لم نحسن بالنتيجة استخلاص الدروس المفيدة لمواجهة الحاضر.

يتعلّق أول هذه الدروس بمراجعة المبادئ الجارية في السياسة الدولية مثل القول بحرية تقرير المصير ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. فهذه المبادئ أقرب للشعارات منها إلى أدوات إدارة العلاقات الدولية. والصدام بين فرنسا وبريطانيا زمانا يكشف ذلك. فقد عرضنا في ما سلف أن مبدأ المحافظة على الوضع الراهن وعدم المساس بالوحدة الترابية للبلدان الذي ترفعه بريطانيا لم يكن غير سياسة أملاها عليها موقعها الجغرافي الذي يمنح لفرنسا الأفضلية في سباق الهيمنة على بلدان شمال إفريقيا كما أملتها رؤية الليبراليين الممسكين بالسلطة وقتها، الذين يعتقدون أن في إبرام اتفاقيات اقتصادية وتجارية غير متوازنة مع بلدان الجنوب عِوَضا عن الاستعمار المباشر والصدام والحروب التي تتطلب جيوشا وعتادا وخسائر مادية وبشرية. فريعه أفضل لانخفاض تكاليفه. 

وبعيدا عن المبادئ الكاذبة تظل العلاقات الدولية محكومة بموازين القوى وتظل الدول الصغيرة والضعيفة دائما عرضة لهذا الابتزاز بأشكال مختلفة من الحصار الاقتصادي والسياسي حالما تبدي ضربا من المقاومة ولا خلاص لها إلا في امتلاك أسباب القوة.
 
وضمن لعبة موازين القوى يمكننا أن نجد العذر لبعض رموز الكفاح الوطني لعلاقاتهم بالإمبراطورية البريطانية. فقد تم لومهم اللوم الشديد وتم اتهامهم بالتراخي أو العمالة وقيل عنهم أنهم عرابو السياسة البريطانية أبواق دعايتها. واستند المنتقدون إلى العلاقة الوطيدة بين شيوخ الأزهر والسلطات البريطانية. وشمل اللوم محمد عبده ورافع رفاعة الطهطاوي والحركة السنوسية بليبيا والمغربي عبد الكريم الخطابي والتونسيين عبد العزيز الثعالبي والحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف. 

 

الدرس الكبير الذي يفرض نفسه علينا هو أنّ الحربين العالميتين فرضتا على أوروبا أن تحسن إدارة صراعاتها الداخلية والخارجية وأن تلجأ إلى الحكمة وأن تتجنب الحروب المدمرة. أما العرب فيهرعون إلى تحكيم السلاح المستورد عند أبسط الخلافات.

 



وفضل هذا الكتاب أنه ينبهنا إلى خطورة محاكمة الماضي بمعايير الحاضر والتساهل في رمي من ناضلوا من أجل تحرير الأوطان بالعمالة. ولعلّ المعضلة هنا تكمن في أننا نقرأ الماضي (المتحقق بعد) ونقيّم النتائج بعد تجسدها. أما أسلافنا فكانوا يستشرفون المستقبل (غير المتحقق) ويتوقعون فرضيات ويبنون النتائج المنتظرة في ضوئها. وكانت الآفاق مسدودة وكان واقع الاحتلال محبطا يدفعهم إلى البحث عن الإصلاحات الجزئية على المدى القريب. 

ضمن هذا الأفق نفهم مطالبة بعض الوطنيين بالاستقلال الداخلي مثلا ونفهم سياقات الاتفاقات التجارية غير المتوازنة مع البلدان المستعمرة في مجالات الطاقة والثروات الباطنية. فهي امتداد لتلك الامتيازات التي خيضت في سبيلها الحروب على مدار القرون الثلاثة السابقة ووُقعت في ظل عدم تكافؤ موازين القوى. ومسؤولية مراجعتها تلقى علينا نحن اليوم أساسا.

ويتعلّق ثاني الدروس ببناء العلاقات الدولية. فلما كان المعسكر الغربي يجعل بوصلته تحقيق المصالح الاقتصادية والدفاع عن المصالح والامتيازات التي توفر الرفاه والاستقرار وفق نزعة براغماتية، افتقر رموز الحركات الوطنية لمثل هذه النزعة السياسية بسبب العمى الإيديولوجي. فقد أعرضوا على التعامل مع الاتحاد السوفييتي مثلا، ولم يروا فيه ورقة ضغط لاعتبارات دينية وفضلوا التعامل مع المستعمر ومفاوضته من موقع الضعف للحصول على الاستقلال. فكانت بريطانيا الضالعة في معركة تقاسم المستعمرات ملاذا للوطنيين كعبد الكريم الخطابي في المغرب والدستوريين التونسيين.

وكثيرا ما يروّج خبراء العلاقات الدولية اليوم لمصادرة تقول بأن المعسكر الغربي كتلة صماء متماسكة، وكثيرا ما يصاب المتابع العربي لمثل هذا الخطاب بالإحباط عندما يقارن هذا المعطى بما عليه العلاقات العربية اليوم من تشرذم واقتتال. 

والحقيقة أن أوروبا تعرف منذ القديم تناقضات داخلية بيّنة يسهم هذا الكتاب في كشف عمقها وتكشف أحداث أخرى اليوم وجوها منها التصدع الذي شهدته العلاقات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي بسبب البريكست  (British Exit) أو انعدام التضامن الأوروبي بعد جائحة كورونا. فقد كشف الوباء أنانية كبريات دولها من عدم مد يد المساعدة للدول الأكثر تضررا إلى المضاربة على صفقات الأدوية والكمامات وتحويل وجهتها. 

ولكنّ الدرس الكبير الذي يفرض نفسه علينا هو أنّ الحربين العالميتين فرضتا على أوروبا أن تحسن إدارة صراعاتها الداخلية والخارجية وأن تلجأ إلى الحكمة وأن تتجنب الحروب المدمرة. أما العرب فيهرعون إلى تحكيم السلاح المستورد عند أبسط الخلافات. لذلك لا تخلو الخارطة العربية من الحروب الأهلية كما يحدث في لبنان واليمن والعراق وسوريا وليبيا واليمن. ولا تخلو العلاقات الثنائية من بارود كثير ينتظر بشغف شرارة من هنا أو هناك.

3 ـ بريطانيا العظمى وبلاد المغرب وبعد؟

لا شك أن لمقاربة الأثر أهميتها الخاصة، فهي تكشف لنا صفحات مجهولة من تاريخنا أو مقروءة قراءة منقوصة. ولا شك أن قارئ حلقتينا السابقتين منتبه لا محالة إلى إشادتنا بهذا الاتجاه. ولكن بالمقابل فإننا لا نصل حد المغالاة في تثمين هذا الجهد أو في اعتباره "الحقيقة التاريخية الوحيدة". ولا بدّ من الانتباه إلى خطورة المصادرة الضمنية التي تخترق الكتاب بأسره وتشقه رأسيا وإن لم يصرح بها المؤلف. فالأثر ربط مسار المقاومة والتحرر الوطني كليّا بعناصر قائمة في السياق الخارجي لا حول ولا سلطان للوطنيين عليها. ومن استتباعات هذه المصادرة تهميش عمل المقاومة المسلحة أو السلمية وخزلها في مجرد ردود أفعال عاطفية لا وقع لها على مجريات الأمور في الواقع. وكل تشخيص خاطئ لمجريات التاريخ يفضى إلى خاطئ للواقع اليوم. 

فالوقائع تثبت أن المقاومة كثيرا ما شكلت بوصلة تحدد اتجاه القوات الاستعمارية وتحدّ من جموحها. هل نذكّر هنا بدور "الفلاقة" في فرض الكفاح المسلح بعد توقيع معاهدة الاستقلال الداخلي من قبل الزعماء التونسيين؟ فقد تم إمضاء بروتوكول الاستقلال بين رئيس الحكومة التفاوضية، الطاهر بن عمّار ووزير الخارجيّة الفرنسي كرستيان بينو Christian Pinneau وذلك بالقاعة الكبرى بمبنى وزارة الخارجية الفرنسية Le Quai d’Orsay. وبموجب هذا البروتوكول انتهى العمل بمعاهدة باردو أو "معاهدة قصر السعيد" (كما تعرف في الوثائق الرسمية) المبرمة بين الجنرال "بريار" Bréart القائد العام لجيش الاحتلال (عن دولة الجمهورية الفرنسية) وبين محمّد الصادق باي (عن الدولة الحسينية)، يوم 12 أيار (مايو) 1881 وتضمّن هذه الاتفاق اعترافًا بالسيادة التونسية ولكن بصورة منقوصة فترك الدفاع والخارجية لفرنسا ومنحها حق الوجود العسكري بتونس وبالخصوص في بنزرت والجنوب والمناطق الحدودية مع الجزائر وليبيا. 

ولم يفك الارتباط المالي والجمركي بين الاقتصاد في البلدين وأبقى على حق المعمرين في امتلاك الأراضي التونسية وبمندوب سام للحكومة الفرنسية في تونس يمارس الصلاحيات الممنوحة للفرنسيين. ثم تعثرت مفاوضات الاستقلال التام نتيجة مماطلة السلطات الفرنسية بسبب رفض حزب المعمّرين أو غلاة الاستعمار التفاوض بخصوص مطالبة تونس بالاستقلال جملة وتفصيلا.  

وبالتزامن مع رفض الأمين العام للحزب الدستوري صالح بن يوسف الاتفاق، واعتباره "خطوة إلى الوراء ولا يساوي قطرة من دماء التونسيين"، رفض القادة الميدانيون من أمثال مصباح الجربوع ومحمد قرفة والطاهر الأسود ومحمود بن حسونة تسليم السلاح والنزول من سفوح الجبال. وأطلق عليهم هذا الاسم للتهجين ولنعتهم بالخروج عن القانون. ولكن بفضل ما مارسوه من ضغط عسكري وما وجهوه من ضربات ناجحة تم مساء يوم 20 آذار (مارس) 1956 التوقيع بالقاعة الكبرى بمبنى وزارة الخارجية الفرنسية بباريس على اتفاق تعترف فرنسا بموجبه باستقلال تونس التام بما يقتضيه من "ممارسة تونس لمسؤولياتها في ميادين الشؤون الخارجية والأمن والدفاع وتشكيل جيش وطني تونسي".. "وينجم عن ذلك ـ وفق ما جاء في الاعتراف ـ أن أحكام اتفاقيات 3 حزيران (يونيو) 1955 التي قد تكون متعارضة مع وضع تونس الجديد وهي دولة مستقلة ذات سيادة سيقع تعديلها أو إلغاؤها". 
وتحقق هذا الإنجاز في ظرف سبعة أشهر و17 يوما بالضبط في حين نصّت بنود الاستقلال الداخلي على أن يتمّ ارتقاء تونس إلى الاستقلال التام في مدّة زمنية لا تقلّ عن 25 سنة.

إن اختزال التحرر في العوامل الخارجية والتنافس بين المستعمرين لا يخلو من تسرّع له أثره الوجودي والمعنوي. فهو يضرب فكرة الاعتزاز بالذات ويحد من تقديرها. ويدمر الرموز الوطنية التي تصنع لنا معنى، أما أخلاقيا ففيه نكران لمجهودات المقاومين الذي آمنوا بحق شعوبهم في تقرير المصير وبلدانهم في الاستقلال وبذلوا في سبيل ذلك الغالي والنفيس منها الحياة أحيانا. 

 

إقرأ أيضا: خطط بريطانيا لفرض هيمنتها بشمال إفريقيا وحوض المتوسط

 

إقرأ أيضا: كيف تقاسمت الدول الغربية الهيمنة على دول المغرب الكبير؟

التعليقات (0)