كتاب عربي 21

التقديم التلفزيوني بين المعايير الضابطة وظاهرة أحمد سعيد

عزام التـميمي
1300x600
1300x600

شتان بين أن تقف خطيبا في مهرجان وأن تقدم برنامجا إخباريا أو حواريا في الإذاعة أو التلفزيون. في الحالة الأولى تستحضر كل ما تظنه يساهم في جذب المتلقين والتأثير فيهم من عاطفة ونبرة صوت وحصيلة علم أو أدب ومعلومات تحاجج بها لكسب الجولة أمام الجمهور الذي يصبح تفاعله مع ما تقوله جزءاً من العملية، فاستحسانه بتصفيق وتصفير أو تهليل وتكبير يحفزك ويزيدك حماسة لتتفنن في الأداء.
 
وعادة ما يكون الحاضرون في المهرجان على وفاق مع صاحب الكلمة، فهو يعرف لمن يتوجه وماذا يوجه لهم، وهم يعرفون صاحبهم، ويعرفون ما الذي يتوقعونه منه. وأما في الحالة الثانية، فأنت لست أمام جمهور واحد، بل أنت عبر الأثير تخاطب جماهير متعددة، وليس مضموناً أن تكسبهم بنبرة خطاب ولا بعاطفة متقدة ولا ببيت شعر من المعلقات وأخواتها، ولئن فعلت، فلن يبقى معك منهم إلا من تدغدغ كلماتك العاطفية مشاعرهم، وهذا ما يمكن وصفه بإعلام ظاهرة أحمد سعيد الذي كان بوقاً للنظام الناصري منذ منتصف الخمسينيات في صوت العرب وحتى هزيمة 1967. كان له متابعون، يستمتعون بضلالاته، التي لم يكشفها سوى بشاعة الهزيمة، التي ظل لأيام يصورها على أنها نصر مبين.
 
وذلك هو الفرق بين وسائل الإعلام التي تتوجه إلى –وتعبر عن– جمهور يعيش في مناخ من الحرية التي تضمنها الأنظمة الديمقراطية، وبين وسائل إعلام تملكها أنظمة مستبدة، لا يُعبر من خلالها إلا عن رأي يقره المستبد وتسمح به أجهزته الأمنية.
 
ماتزال وسائل الإعلام الرسمية في العالم العربي تستخدم نفس النهج البالي، ولذلك عزف عنها الناس، إلا قليلاً – ولم يعد جل الناس يتابعون فيها، لئن تابعوا، سوى برامج التسلية، أما برامج الأخبار والحوارات الجادة، فلا قيمة لها عند من يحترمون أنفسهم، فهي لا تقدم جديداً، ولا تقول صدقاً، ولا تضيء شمعة، ولا يُستضاف فيها عادة إلا من يسبحون بحمد الطاغية ويمجدون كل ما يصدر عنه من قول أو فعل حتى لو كان فحشاً.
 
ولذلك لا يستغرب ما يصدر عن قنوات التلفزيون في مصر ما بعد الانقلاب، ولا في الدول التي مولت الانقلاب وحرضت عليه مثل الإمارات والسعودية.
 
لكن يُستغرب انتهاج ذلك الأسلوب من بعض من يعملون في الإعلام الحر، الذي ينطلق من دول الشتات. حيث انطلقت عدة قنوات تلفزيونية كما هو معروف من خارج العالم العربي لمخاطبة الشعوب المغلوبة على أمرها، بعد أن حرم الناس في أوطانهم من الحياة الآمنة، ناهيك عن الحياة الكريمة، وحرموا من كل الحقوق بما فيها حق حرية التعبير.
 
وليس المقياس هنا هو مدى شعبية البرنامج أو مقدمه، ولئن بات ذلك الآن غاية كل راغب في الشهرة والظهور بسبب دور وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج والتلميع – وإن كان بعض ذلك أقرب إلى الوهم منه إلى الواقع لما يدخل في ذلك من اليات الترويج مدفوع الأجر.

 

وإنما المقياس هو المعايير التي تم التوافق عليها عالمياً ويتوقع من كل قناة تلفزيونية تحترم نفسها وجمهورها أن تلزم نفسها والعاملين فيها بها.

 

إنها المعايير التي تضبط ما يبث صوتاً وصورة، وحتى طباعة، بهدف حماية المتلقين من الأذى بكل أنواعه، بدءاً بالتضليل والتجهيل مروراً بالتحريض على الكراهية أو العنف وانتهاء بالتجريح والتشهير.


لا شك لدي في أن الالتزام بالمعايير يخدم مصلحة الجميع ابتداء بالمؤسسة الإعلامية والعاملين فيها، إذ أن الالتزام يضمن حمايتها وعدم تعريضها لمساءلة قانونية قد تتسبب في تغريمها ما لا طاقة لها به أو حتى في إغلاقها.
 
ينحو كثير من العاملين في ميدان تقديم البرامج التلفزيونية نحو دور الخطيب المفوه، فيقف المرء منهم ليلقن المشاهدين تلقيناً، وكل همه أن ينتشر له مقطع فيما بعد عبر السوشال ميديا يظهر فيه أسداً هصوراً يندد ويوبخ ويزمجر ويهدد، وهذا أسلوب بالغ الخطورة، أولاً لأن المرء، أياً كان، كلما زاد كلامه زاد احتمال خطأه، وثانياً، لأن من أهم المعايير التي ينبغي أن تتقيد بها القنوات التلفزيونية إتاحة المجال للرأي ولما يخالفه، وألا تتحول القنوات إلى منابر سياسية للتحريض على موقف سياسي بعينه دون إيراد المواقف الأخرى. بالتأكيد من حق أي قناة أن تخدم الفكرة التي من أجلها تأسست، ولكن يكون ذلك من خلال حوار لا يغيب فيه الرأي المخالف لهذه الفكرة، حوار يتحلى من يديره بالنزاهة والإنصاف.
 

إن من أخطر ما تقدمه بعض القنوات تلك البرامج التي ترتكز على شخص مقدمها، فتجده يجول ويصول وحده، يعبر عما في نفسه كما يحلو له، فهو سلطان الشاشة، لا ينازعه أحد فيما يقول، وتجده يتكلم دونما توقف لعشرات الدقائق المتواصلة، وتجد برنامجه يمتد لساعات.


ودون ذلك يرتكب المقدمون في كثير من الأحيان أخطاء تنال في أسوأ الأحوال من صدقية برامجهم بل وصدقية القنوات التي يعملون فيها، وفي أقلها سوءاً تفقد المشاهد اهتمامه فيضغط على زر الريموت كونترول وينتقل إلى قناة أخرى بعد أن سئم المتابعة. ومن هذه الأخطاء:
 
١) الخروج على المشاهدين أو المستمعين بمقدمات طويلة، يطرح فيها المقدم الأسئلة ويجيب عليها، ويحشو فيها حشواً معلومات قد يتكرر كثير منها فيما سيعرضه على المشاهدين بعد دقائق في روبرتاج (تقرير) يكون الزملاء في قسم الإعداد قد جهزوه له. ثم، بعد ذلك يستضيف خبيراً أو معلقاً يطرح عليه نفس الأسئلة ليحصل على الأجوبة ذاتها التي تضمنتها المقدمة وتضمنها التقرير المعد مسبقاً. وكم يكون موقف الضيف صعباً حين يُطلب منه الإجابة على أسئلة تكررت إجابتها أكثر من مرة على مسامعه وهو جالس ينتظر. وأذكر أنني ذات مرة، في موقف مماثل، لم أتمالك نفسي فقلت لمحاوري: لقد أجبت أنت على السؤال وأنت تطرحه.
 
٢) وهذا يقود إلى الخطأ الثاني، وهو توجيه أسئلة طويلة، تتضمن في كثير من الأحيان جزءاً من الإجابة أو جلها إن لم يكن كلها. وذلك بسبب رغبة المحاور في إظهار أنه يعرف أو يعلم، وأن ضيفه ليس بأكثر معرفة منه. إذن، فلم أتيتم بالضيف أيها السيدات والسادة؟ إنما الغرض من استضافة خبير أو معلق هو أن يقدم هو المعلومات، فينبغي أن نترك له ذلك. ولو تأملت في أنجح البرامج في وسائل الإعلام العالمية وفي أداء المحاورين فيها لوجدت أن مقدماتهم قصيرة جداً، وخاصة إذا وجد تقرير يُعرض تمهيداً للحوار، وأن أسئلتهم قصيرة ومباشرة. لا يعيب المحاور ألا يكون عالماً بكل شيء، ولكن يعيبه أن يتظاهر بمعرفته لكل شيء. ومما يغيظ الضيوف والمشاهدين على حد سواء أن يقول المحاور في آخر اللقاء، لو سمحت باختصار شديد ماذا تقول في كذا وكذا، ثم يطرح على ضيفه سؤالاً طويلاً عريضاً لا يمكن الإجابة عليه بأمانة تحت تهديد سيف الوقت.
 
٣) توجيه أكثر من سؤال في المرة الواحدة، وهذا خطأ شائع، فالضيف في العادة يلتقط آخر ما يوجه إليه، فلا ينبغي أن يوجه إليه أكثر من سؤال في كل فقرة، بل توزع الأسئلة على الفقرات، سؤالاً واحداً في كل مرة. والمشاهد شخص نبيه، لن يفوته أنه سمع سؤالين أو أكثر يطرحان ولكنه لم يسمع إجابة إلا على سؤال واحد، إما لأن الضيف نسي أو لأن الوقت لم يسمح.
 
٤) عدم التركيز. يفقد بعض المحاورين تركيزه مع الضيف، فلا يسمع الإجابة، وقد يفضحه في ذلك سؤاله التالي. يحتاج المحاور لأن يكون يقظاً تماماً، وأفضل الأسئلة هو ما يولده الحوار، وليس ما يكون معداً مسبقاً. فمن كلام ضيفك ينبغي أن تستخرج ما تبني عليه سؤالك التالي إن سنحت الفرصة لذلك.
 
٥) المقاطعة بلا سبب. من حق المحاور، بل من واجبه، أن يقاطع الضيف إذا ما سمع منه ما يستوجب التدخل، ولكن المقاطعة لمجرد المقاطعة، ولإظهار العلم والمعرفة، فإنها تفقد الضيف التركيز في فكرته، وتزهد المشاهدين في المتابعة وتحملهم على الانتقال إلى قناة أخرى.

التعليقات (0)