مقالات مختارة

الخرطوم تقترب من حافة الانفجار

ياسر محجوب الحسين
1300x600
1300x600

عدة عناوين رئيسية تلخص الحالة السودانية الراهنة، وتعبر عن حالة مرضية مستعصية جمعت بين التوتر والتوجس والإحباط؛ فقد شهد الاسبوع الماضي انتشارا كثيفا للجيش مدججا بأسلحة ثقيلة في كل أرجاء العاصمة الخرطوم. كما تعرضت مفاوضات السلام المتطاولة بين الحكومة والحركات المسلحة إلى شبه انهيار، حيث أعلن عن تأجيل التوقيع النهائي على اتفاق سلام بين الحكومة والجبهة الثورية التي تمثل تحالفا بين عدة حركات مسلحة إلى أجل غير مسمى، بعد أن كان مقررا في 20 حزيران/يونيو الحالي.


في ذات الوقت، أعلنت جهات مختلفة ومتعارضة سياسيا عن مسيرات الثلاثاء 30 حزيران/يونيو تطالب بعضها باستكمال هياكل الحكم الانتقالي، كالمجلس التشريعي، وتعيين ولاة مدنيين، ومحاكمة المتورطين في فض اعتصام القيادة العامة للجيش العام الماضي، في حين هناك جهات أخرى ضمن الداعين لهذه المسيرات، تطالب بإسقاط الحكومة الانتقالية ودعوة الجيش لاستلام السلطة بشكل كامل. وفي ظل هذه الأجواء وتزامنا معها، جاء مؤتمر برلين لأصدقاء السودان مخيبا للآمال؛ إذ لم تتجاوز تبرعات المانحين فقط مليارا و800 مليون دولار منها ٢٦٪ عبارة عن ميزانية إدارة المنحة و٢٠٪ تدريب ورفع قدرات، والباقي مواد عينية يتم شراؤها من شركات عالمية لفريق إدارة المنحة.


ويعزو البعض تحرك الجيش إلى ما أوردته صحيفة الغارديان البريطانية عن انقلاب وشيك ينفذه الحزب الشيوعي، بينما يرى في هذا التحرك رسالة إلى من يقف خلف مسيرات يوم 30 الجاري، بيد أنه في كلتا الحالتين بدا الحزب الشيوعي متهما أو متورطا. وربما كان كل ذلك متسقا مع تقرير إسرائيلي اتهم فيه تحالف قوى الحرية والتغيير المعروف اختصارا بـ"قحت"، الذي يسيطر عليه الشيوعيون ويمثل الحاضنة السياسية لحكومة عبد الله حمدوك، بالتخطيط للإطاحة بالشركاء العسكريين، ووفقا للتقرير الصادر عن مشروع التوازن العسكري في الشرق الأوسط التابع لمركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، فإن تحالف "قحت" يخطط للإطاحة بالشق العسكري من الحكومة، الذي يمثل الجيش، بعملية عسكرية بالتحالف مع بعض الحركات المسلحة، وسيكون المخطط شبيها بعملية "الذراع الطويل" التي قادتها إحدى حركات دارفور المسلحة، وتمكنت من دخول العاصمة الخرطوم في ٢٠٠٨م قبل صدها.


ويبدو أن التقرير الإسرائيلي يقوم على ربط يبدو منطقيا؛ فالثقة معدومة بين العسكريين و"قحت" أو تحديدا الشيوعيين، فالشيوعيون فضلا عن أنهم زاهدون في خوض غمار انتخابات نزيهة عقب الفترة الانتقالية، فإنهم كذلك يعتقدون أن ولاء الجيش في عمومه لخصومهم الإسلاميين. ومن المنطقي أن يجد الشيوعيون في بعض الحركات المسلحة ذات التوجه اليساري والعلماني ضالتهم؛ للتمكين لسلطة تمكنوا منها بدون انتخابات تظهر حجمهم الحقيقي.


في ذات الوقت، يبدو لمن يريد قراءة ما وراء الاهتمام الإسرائيلي المتزايد بالشأن السوداني، حرص إسرائيلي على العسكر لا سيما الجنرال عبد الفتاح البرهان، الذي التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شباط/فبراير الماضي، وشرع في خطوات تطبيعية مع الدولة العبرية مثل فتح الأجواء السودانية للطيران الإسرائيلي. وقد أشار التقرير دون لبس إلى أن مصالح إسرائيل تتطلب وجود نظام سياسي أسماه بالمتوازن، وأن "الشراكة الإسرائيلية السودانية يجب أن تستمر". وفي ذات الوقت لا يبدو أن هنالك ارتياحا إسرائيليا لـ"قحت"، خاصة أن بعض مكوناته عبارة عن أحزاب عروبية التوجه، ويمكن الإشارة هنا إلى استنكار أحد قادة الحزب الناصري، والقيادي بـ"قحت"، لقاء البرهان بنتنياهو. وكان قد أشار "ساطح" حينذاك إلى أن اللقاء جاء منفردا، ومن دون التشاور مع بقية أطراف الحكم الانتقالي.


إن تعثر مفاوضات السلام مع الحركات المسلحة وانسداد أفقها، لا يجعل من خيار الانتخابات المبكرة أمرا مطروحا قبل انقضاء الفترة الانتقالية كما يظن المتفائلون، وإنما ينعش الخيارات العسكرية لدى هذه الحركات بتشجيع من الحزب الشيوعي. لقد ظلت محادثات السلام تتوه في مناقشة قضايا فرعية بعيدة عن جوهر القضايا، مع تلويح بعض الحركات باللجوء إلى حق تقرير المصير أسوة بجنوب السودان، وفرض فكرة علمانية الدولة.


ومع تحسبات الجيش واحترازاته، لا يبدو أن الحزب الشيوعي يحسب خيار القيام بعملية عسكرية من خلال بعض الحركات المسلحة على غرار عملية "الذراع الطويل" سهلا وميسورا. صحيح أن تلك العملية كانت جريئة، لكنها أقرب للعملية الانتحارية، ولم يتبين قادتها الخيط الرفيع بين الإقدام والتهور، حيث اغتروا بالدعم الليبي والتشادي، فقد كانت العملية في مجملها ردة فعل للرئيس التشادي الذي اتهم حينها النظام في الخرطوم بدعم المعارضة التشادية حتى وصلت لأعتاب قصره الرئاسي الحاكم في العاصمة أنجمينا.


لكن يبدو أن مسيرات 30 حزيران/يونيو المعلنة، وتصاعد الأزمة الاقتصادية وتواضع نتائج مؤتمر برلين، أمور أكثر دفعا للبلاد لحافة الانفجار الذي قد لا يقف عند حد إسقاط حكومة حمدوك المترنحة، التي بنت آمالا عراضا على مانحي مؤتمر برلين. فلم تأخذ هذه الحكومة العبرة من تجارب سابقة داخلية وخارجية؛ فبعد توقيع حكومة عمر البشير السابقة اتفاقية السلام التي أفضت إلى فصل جنوب البلاد، وعدت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وهولندا والاتحاد الأوروبي بدعم يزيد على 8 مليارات دولار، واحتضنت العاصمة النرويجية أوسلو ذلك المؤتمر، فلم يزد ما تسلمه السودان عن مليار دولار. كما سبق أن عقدت القاهرة مؤتمرا ضخما في عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي بشرم الشيخ شاركت فيه 200 دولة و800 منظمة، وتجاوزت التزامات المانحين 100 مليار دولار، لكن المتحصل منها كان فقط نحو ملياري دولار، فما بال مؤتمر برلين لأصدقاء السودان الذي بلغ المشاركون فيه فقط 40 دولة ومنظمة؟


في ظل هذه الأوضاع المتأزمة، لا بد من أن يقطع الجيش الطريق أمام خطط هيكلته، وهو ما يسعى إليه الحزب الشيوعي؛ بهدف إضعافه وفتح المجال أمام المليشيات والحركات المسلحة.

 

(الشرق القطرية)

0
التعليقات (0)